عالم آية الله الأخير ينهار

عالم آية الله الأخير ينهار

عالم آية الله الأخير ينهار


02/07/2025

ياسين فواز

الجمهورية الإسلامية الإيرانية وُلدت من رحم الثورة وصُقلت عبر الحرب، وقد صمدت في وجه الملوك والعقوبات والقوى العظمى والانتفاضات، ومع ذلك، فهي تواجه الآن تضافرا غير مسبوق من الأزمات: حكم بلا قيادة، وهزيمة عسكرية، وتفكك اقتصادي، ومجتمع يعيش خيبة أمل غير معهودة.

الضغوط الخارجية تبلغ ذروتها. انتقلت إسرائيل من العمليات السرية إلى الحرب العلنية. الصين، التي كانت في يوم من الأيام مشتريا ثابتا للنفط الإيراني، تحثّ بهدوء على ضبط النفس. وفي غضون ذلك، ربما يكون الرئيس الأميركي دونالد ترامب المدافع الصريح عن تغيير النظام، قد منع، بطريقة غير مقصودة، أشد الضربات الموجّهة نحو النظام.

وعلى الرغم من المطالبات الواسعة بـ”إنهاء المهمة”، أفادت التقارير بأن ترامب عرقل خطة إسرائيلية لاغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي. وربما يكون الرجل الذي وصف إيران بـ”الدكتاتورية الإرهابية”، هو نفسه من ساهم في الحفاظ على وجودها.

ومع ذلك، لا يزال النظام قائما رغم الأضرار الجسيمة التي لحقت به.

في 13 يونيو، نفذت إسرائيل أكثر ضرباتها جرأة منذ عقود، مستهدفة مواقع نووية إيرانية ومراكز قيادة تابعة للحرس الثوري الإيراني. وكان من بين القتلى القائد العام للحرس الثوري اللواء حسين سلامي، والجنرال محمد باقري، أعلى مسؤول عسكري في البلاد.

وفي 22 يونيو 2025، شنّت الولايات المتحدة عملية “مطرقة منتصف الليل”، مستهدفة البنية التحتية النووية الحيوية الإيرانية. وشاركت في العملية أكثر من 125 طائرة، بما في ذلك قاذفات “بي-2 سبيريت” وطائرات “إف-35” و”إف-22″، وطائرات دعم متنوعة. وأطلقت هذه الطائرات 75 مقذوفا دقيق التوجيه، بما في ذلك قنابل خارقة للدروع من طراز “جي بي يو-57 إيه/بي” وصواريخ “توماهوك”، على مواقع فوردو ونطنز وأصفهان النووية.

انطلقت المهمة عند الساعة 2:10 صباحا بتوقيت إيران، حيث حلّقت طائرات “بي-2” مباشرة من قاعدة وايتمان الجوية في ميزوري، تحمل كل منها قنبلتين خارقتين للتحصينات من طراز “جي بي يو-57 إيه/بي”. وقد تسببت الضربات في أضرار جسيمة للقدرات النووية الإيرانية، رغم أن بعض المكونات الأساسية (مثل أجهزة الطرد المركزي واليورانيوم المخصب) ربما لم تُصَب حسب بعض التقييمات الأولية.

وردّت إيران على الضربات الأميركية بهجمات بطائرات مسيّرة وصواريخ استهدفت إسرائيل وقاعدة أميركية في قطر. ومع ذلك، تم اعتراض 13 صاروخا من أصل 14 كانت موجهة إلى القاعدة. أما الصاروخ الوحيد الذي اخترق، فلم يُلحق ضررا. ولم يُبلّغ عن أيّ إصابات في صفوف الأميركيين، وكان تأثير الهجوم محدودا.

وتُسلّط هذه الأحداث الضوء على اختلال موازين القوى العسكرية، والمشاكل الإستراتيجية التي تواجهها إيران في مواجهة القوة الأميركية.

بحلول 24 يونيو، وضع وقف إطلاق النار الذي توسطت فيه الولايات المتحدة حدا للمواجهة. لكن إيران دفعت ثمنا باهظا: نحو ألف قتيل، بينهم مدنيون، وانهارت أسطورة قدرتها الرادعة، التي كانت يوما ما أساسا لنفوذها الإقليمي.

وتقمّص الرئيس دونالد ترامب دور الأب الذي لا يتردد في توبيخ أطفاله المتخاصمين لفرض السلام في الوقت المناسب. وجاء تدخّله في خضم الحرب الإسرائيلية – الإيرانية، بينما كانت التوترات تتصاعد وتهدد بحرب شاملة.

وبعد أن ضربت الولايات المتحدة الأهداف النووية الإيرانية، نشر ترامب على موقع “تروث سوشيال” أن رد إيران الرسمي على “تدميرنا لمنشآتها النووية جاء ضعيفا للغاية، حيث أطلقت 14 صاروخا، أُسقط 13 منها، ولم يُصب أي أميركي بأذى.”

وأضاف أن “إيران ربما تستطيع الآن المضي قدما نحو السلام والوئام في المنطقة، وسأشجّع إسرائيل بحماس على أن تحذو حذوها!”

ثم صرّح بعد ذلك بوقتٍ قصير قائلا “جاءتني إسرائيل وإيران في آن واحد تقريبا، وقالتا: سلام! عرفت أن الوقت قد حان.”

وعندما انهار وقف إطلاق النار، أدلى الرئيس ترامب بتصريحات حادّة من البيت الأبيض قبل مغادرته لحضور قمة الناتو. وانتقد كلا البلدين بشدة، قائلا إنهما غارقتان في صراع طويل الأمد لدرجة أنهما “لا تعرفان ما تفعلانه.” وركّز انتقاده بشكل خاص على الرد العسكري الإسرائيلي، مُدينا القصف الذي جاء عقب حلول موعد الهدنة مباشرة.

وأضاف “أقول لإسرائيل: لا تُلقوا هذه القنابل، وإن فعلتم ذلك، فهذا انتهاك جسيم… أقول لإسرائيل: أعيدوا طياريكم إلى الديار الآن.” واختتم تصريحاته قائلا “لست راضيا عن إسرائيل. ولست راضيا عن إيران أيضا.”

وفي غضون دقائق، ألغت إسرائيل الضربات المخطط لها. ثم أعلن ترامب “إسرائيل لن تهاجم إيران… جميع الطائرات ستعود أدراجها، مع توجيه تحية ودية لإيران. لن يتضرر أحد. وقف إطلاق النار ساري المفعول!”

لم يعمل ترامب بتكتّم، بل اتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مباشرة، ونشر شروط وقف إطلاق النار على منصة “تروث سوشيال”، واستعرض نفوذه العالمي. حتى إن الأمين العام لحلف الناتو دعاه بالأب مازحا، مسلطا الضوء على قبضة ترامب المهيمنة على التوترات في الشرق الأوسط. فبفرضه وقف إطلاق النار بقوة ساحقة، لم يكتفِ ترامب بالوساطة، بل أصبح قوة الاستقرار التي تمنع النظام الهش من الانهيار. ويُبرز بقاء النظام الإيراني المنهك جزئيا تدخّله الجريء.

تمرّ إيران حاليا بفترة يسودها الاضطراب. وقد قلب حادث تحطم المروحية، الذي أودى بحياة الرئيس إبراهيم رئيسي عام 2024 الخطط التي وُضعت لخلافة خامنئي رأسا على عقب. وتركت وفاة رئيسي، الذي كان يُؤهَّل لتبوّؤ منصب المرشد، فراغا في السلطة لم يملأه حقا أيّ رجل دين أو قائد عسكري.

لا يزال خامنئي، البالغ من العمر 86 عاما، ممسكا بمقاليد السلطة، لكنه يعاني ضعفا. أما ابنه مجتبى، المؤثر من وراء الكواليس، فهو يفتقر إلى المكانة الدينية والدعم الشعبي اللازمَين لتولي زمام الأمور. وقد أصبح الحرس الثوري مسيطرا على السياسة والاقتصاد. لكن وفاة الجنرالَين الكبيرَين سلامي وباقري زعزعت أركان القيادة العسكرية في وقت حرج.

اعتمدت سلطة النظام وشرعيته في السابق على ثلاث ركائز: الأيديولوجيا الثورية، والردع العسكري، والصمود الاقتصادي. وقد ضعفت جميعها.

لقد كشفت الحرب عن هشاشة القوة العسكرية. وانهار الاقتصاد باقتراب التضخّم من 50 في المئة، وتدحرج الريال. وأصبح انقطاع التيار الكهربائي أمرا روتينيا، ومشاهد طوابير الخبز الطويلة أمرا مألوفا في مختلف المدن، بينما يُضرب الممرضون وسائقو الشاحنات والمزارعون في أكثر من 150 موقعا.

لقد حقّقت مساعي خامنئي لإرساء “اقتصاد المقاومة” اكتفاء ذاتيا محدودا في التزوّد بالأسلحة، لكن الاحتكارات الغامضة التي يديرها الحرس الثوري الإيراني تُهيمن على الاقتصاد، في ظل معاناة فقراء المدن، وتفشّي إدمان المخدرات، والانخفاض المستمر في معدلات الزواج والمواليد. حتى إن الشباب الساخر بات يُطلق على النظام اسم “الجمهورية المحروقة”.

ومع ذلك، فإن الانهيار ليس وشيكا. فالمعارضة مُجزّأة، إذ لا يجمع الكثير بين الملكيين والليبراليين العلمانيين والانفصاليين الأكراد والإصلاحيين. أصوات الشتات تُنشئ هاشتاغات رائجة، لكنها تفتقر إلى تأثير محلي حقيقي.

وانتهت كل الاحتجاجات (من الحركة الخضراء عام 2009 إلى مظاهرات “المرأة، الحياة، الحرية” عام 2022) بالعنف والقمع. ولا يزال الخوف قائما، معززا بذكريات الفوضى في سوريا وليبيا والعراق. وقال أستاذ جامعي في طهران “الشعب يكره النظام، لكنه يخشى البدائل أكثر.”

لا يزال النظام يسيطر على القضاء وأجهزة الاستخبارات وقوات الأمن والحوزات العلمية ووسائل الإعلام. ويمكنه إسكات المعارضة بسرعة وهدوء عبر الاعتقالات وعمليات الإخفاء القسري.

ويلجأ النظام إلى القومية عندما تتلاشى الأيديولوجيا والرخاء. يتحدث خامنئي الآن أقل عن الإسلام، وأكثر عن “مصير إيران المستقل.” وتعتمد الدولة على مواضيع تاريخية فارسية (مجد الأخمينيين، وصمود القاجاريين) أكثر من اعتمادها على العقيدة الإسلامية.

وهذا التحوّل مقصود. لم يعد النظام يروّج للثورة، بل يعزز السيادة. وصرّح مستشار في الحرس الثوري الإيراني لقناة “الميادين” بالقول “هذه ليست نهاية الجمهورية الإسلامية، بل نهاية براءتها. من الآن فصاعدا، نحن قوميون بصواريخ.”

وتشهد السياسة الخارجية الإيرانية تحوّلا أيضا، حيث استُبدل تصدير الثورة بالحذر. وصمت حزب الله. ويُنظر إلى الحوثيين الآن على أنهم عبء. وتتوطّد الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، دون أن تتوسّع.

حتى روسيا والصين تتكيّفان بعدما كانتا شريكتَين متحمستَين في السابق. خفّضت الصين وارداتها النفطية، وتحثّ طهران على تجنّب التصعيد. وتخشى روسيا، الساعية إلى استقرار الخليج، من استفزاز إيران للتدخل الغربي.

كما تتطوّر الديناميكيات على الصعيد الإقليمي بما يلفت النظر. تلعب عُمان وقطر دور الوسيط. وتشجّع السعودية والإمارات العربية المتحدة دبلوماسية هادئة. أما إيران، التي كانت تُخشى في السابق بسبب تحركاتها المزعزعة للاستقرار، فهي الآن مطالبة بالمساهمة في الحفاظ على الهدوء الإقليمي.

ليست إيران في حالة ثورة، بل في مرحلة انتقالية. ولم يعد السؤال متمحورا حول احتمال سقوط الجمهورية الإسلامية، بل حول شكلها المستقبلي.

يتصور البعض نظاما عسكريا صريحا بقيادة الحرس الثوري الإيراني، ويتصور آخرون نموذجا شبه استبدادي على غرار روسيا أو تركيا. ولا يزال بعض الإيرانيين يأملون في نهضة ديمقراطية.

لكن النتيجة تعتمد على ما إذا كانت تغييرات النظام حقيقية أم سطحية. هل ستفتح المجال السياسي؟ هل ستصلح الاقتصاد؟ أم ستلجأ إلى شعارات فارغة مع اعتماد القمع؟

وقال دبلوماسي سابق في المنفى “الجمهورية الإسلامية لا تحتضر، لكنها تغيّر جلدها. والسؤال هو: هل سيكون ما سيخرج من تحت الجلد القديم بشريا أم وحشيا؟”

لا يزال خامنئي في السلطة، ضعيفا، مراقَبا، ووحيدا. جمهوريته متضررة، وأساطيرها محطمة، ونخبها مهتزة. لكن آلياتها لا تزال تعمل. قد يأتي الانهيار، لكن ليس من القنابل أو من تبجّح ترامب. وإذا حدث، فسوف يأتي من الداخل، نتيجة للوهن، وخيبة الأمل، وتلاشي الشرعية التي لم تعد تلقى صدى حتى بين أكثر أتباع النظام ولاء.

قد لا يسقط آية الله الأخير، لكن العالم الذي أسّسه ينهار بالفعل.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية