منذ اللحظة التأسيسية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر في العام 1928 وهي تعلن دعوتها العالمية، وعدم انتمائها للوطن الجغرافي، وذلك للظروف التي أدت إلى إلغاء الخلافة العثمانية، وترسيم الحدود بين بلدان الإمبراطورية العثمانية. ويرون في ذلك تعدياً على الدين وعلى الحق الإلهي في التشريع، وعلى النمط الإسلامي للحكم، وهو الخلافة حسب ما يقدمون. وتنطلق جماعة الإخوان من دعوى عودة الخلافة الإسلامية، والتشريع الإلهي، والخروج من حالة الجاهلية الثانية.
من هنا يأتي إنكار الإخوان للحدود المكانية للوطن، وهذا ما قاله حسن البنا مؤسس الجماعة صراحة في رسائله: "وجه الخلاف بيننا وبينهم هو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول "لا إله إلا الله محمد رسول الله" وطن عندنا له حرمته وقداسته، وحبه، والإخلاص له، والجهاد في سبيل خيره". ووضع العقيدة مبدأ المواطنة، له بعد آخر من إنكار الانتماء الجغرافي لهذه البلد. حيث يدفع نحو الانقسام والتمييز الديني، ويكون المنتمي للعقيدة الإسلامية أحق بالمواطنة؛ ومن ثم فغير المنتمي إليها لا يملك الحق الكامل للمواطنة، وبالرغم من أنّ هذا المبدأ يأتي منافياً لما جاء في صحيفة المدينة إلا أنّهم يقدمونه بوصفه أمراً دينيّاً، وتركه إثم.
ولا يكتفي البنا بتقديم التمييز على أساس العقيدة ونفي الانتماء الوطني، ولا بما يخلفه من انقسام اجتماعي له خطورته على الدولة والمجتمع، ويسعى إلى ما سمّاه بعد ذلك سيد قطب بـ "أستاذية العالم"، فيقول البنا: "نعتقد أنّ المسلم في عنقه أمانة عليه أن يبذل نفسه ودمه وماله في سبيل أدائها، وهي هداية البشر بنور الإسلام، ورفع علمه خفاقاً في كل ربوع الأرض". والأمانة التي يضعها البنا في عنق المسلم تفرض عليه القتال في كافة ربوع الأرض حتى يحكمها، وهذا ما ظهر في أدبيات الجماعة من تقسيم العالم إلى دار سلم، ودار حرب.
رفع راية الإسلام وقيام مملكة الله في الأرض
إذا كان حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان وضع الجهاد ورفع راية الإسلام أمانة في عنق كل مسلم، فإنّ سيد قطب مُنظِّر الجماعة الرئيس جعل انصياع دول العالم وأفراده ومجتمعاته لرغبات جماعة الإخوان ومشروعها فريضة على العالم، وذلك لأنّهم يمثلون الإسلام، والفطرة الإنسانية، ويمتلكون منهج خلاص الإنسانية، فيقول في كتابه "الإسلام ومشكلات الحضارة": "نحن ـ أصحاب المنهج الإسلامي للحياة ـ نملك للبشرية ما لا يملكه أحد آخر على هذه الأرض ...، وحدنا مكلفون أن نتقدم لحمل العبء، ولندلّ البشرية على هذا الطريق، ولننشئ الطريق أيضاً"، وقد تخلى تماماً عن طرح نسقه الفكري بوصفه نسقاً إنسانياً كغيره من الأنساق السياسية، ويقدمه كوثيقة إرشادية للبشرية كلها من قبل الله، والحياد عنها حياد عن دين الله. وهي سمة إخوانية بامتياز، ويزعم أنّ "قيام المجتمع الإسلامي ضرورة إنسانية وحتمية فطرية"، ممّا يجعل كافة المجتمعات منحرفة عن فطرتها التي حددها قطب؛ ومن ثم عليه حمل أمانة إجبارها على العودة إلى فطرتها.
وتُعدّ محاولة قطب أشبه بمحاولة قيام القديس أوغسطين لبناء مدينة الله؛ فيصرح في كتاب الجهاد في سبيل الله بأنّ "هذا الدين معناه تحطيم مملكة البشر لإقامة مملكة الله في الأرض، أو بتعبير القرآن الكريم "وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله"، فهو يؤسس مدينة جديدة تكون العقيدة هي أساسها وجنسيتها، والجنسية حسب ما يحددها قطب ويعرضها باسم القرآن في كتابه في ظلال القرآن: "التي يريدها الإسلام للناس هي جنسية العقيدة، التي يتساوى فيها العربي والروماني وسائر الأجناس والألوان تحت راية الله"، ويكون الحكم فيها للشريعة الإلهية، ويكون مرد الأمر إلى الله وفقاً لما قرره من شريعة مبينة، وإلغاء كل قوانين البشر.
أرض الحياد وأرض الجهاد
انطلاقاً من الوصاية التي يضعها قطب على العالم، ورؤيته في نفسه وجماعته صلاحية توجيه البشرية جمعاء، فعلى البشرية الخضوع لهذا النمط الذي يطرحه في صورة مُخلِص لعناء البشرية كافة، ويصبح العالم بالنسبة إلى قطب "دار سلام" و"دار حرب"؛ دار السلام هي مدينة قطب بطبيعة الحال، أمّا دار الحرب، فهي المدن الأخرى. وتنطلق من هذه المدينة الدعوة للخلاص الكوني والخضوع للقانون الإلهي الذي هو مضمونه تصور الإخوان وإرادتهم. وعليه يُعدّ عدم خضوع العالم لهذه الإرادة عدم خضوع لرغبة الله، وتبعاً لقصوره وعدم أهليته (أي العالم) لحكم نفسه يجب أن يساق إلى حكم الله ـالذي هو حكم الإخوان ـ حتى لو بالعنف، بوصفه غير مدرك لما هو صالح له.
والواقع السياسي لجماعة الإخوان المسلمين لم يختلف عمّا وضعه منظّرها الرئيس؛ فهي تعرض مشروعها عادة بوصفه وثيقة خلاص الإنسانية جمعاء، وتطالب العالم بالخضوع لمشروعها السياسي، وتعلن أنّ هدفها قيام مملكة الله في الأرض، والخروج من حالة الشرك والكفر التي عليها النظم السياسية في المجتمعات الإسلامية. وحيال المجتمعات غير الإسلامية فإنّها كانت أكثر حيلة ودهاءً من مُنظّرها الرئيس سيد قطب، ولم تعلن أنّها دار حرب، أو أرض جهاد، بل سعت من خلال نُظمها الديمقراطية والعلمانية إلى اختراق هذه المجتمعات ونشر دعوتها بطرق سلمية، لأنّها لا تملك في الأخير أيّ خيار آخر.
وعن أرض الحياد وأرض الجهاد فإنّ جماعة الإخوان طورت من نظرتها وأدواتها بشكل ما، ولكنها في الحين ذاته لم تطور من أفكارها، وعملت بالعقيدة الميكافيلية وبررت لنفسها كل الوسائل من أجل الغاية التي تعلنها، وهي قيام مملكة الله في الأرض. وسعت من خلال أذرعها السياسية للوجود في كافة الدول واللعب بأوراقها ونظامها السياسي، وكذلك استغلت حالات الحروب والانشقاقات الطائفية وتواجدت بقوة في حلقات هذه الحروب. وجعلت أرض الحيد هي الدول التي لا تستطيع ممارسة العنف فيها، وأرض الجهاد هي الدول والمناطق التي يمكن ان تتواجد فيها بشكل مُسلح.
فبعد أحداث السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تواجدت قوات الفجر التابعة للإخوان في لبنان من جديد، وفي السودان لم يقبل الإخوان خروج الشعب عليهم ومطالبتهم بالتغيير، وسعوا إلى العودة للحكم من جديد، وأشعلوا نار الحرب التي خلفت ملايين النازحين، وآلاف القتلى والجرحى. فالواقع السياسي للإخوان جعلهم يعملون على تسييس أرض الحياد وأرض الجهاد، والعمل بالتقية والتزام الحياد في ظل وجود دولة قوية ونظام يحكمها، ومحاولة التسرب من خلال هذا النظام السياسي والبيئة الاجتماعية، والحضور الجهادي في حالة ضعف الدولة وغياب القانون، وهذا ما رأه العالم في مصر بعد خروجهم من السلطة بثورة شعبية، والإعلان الرسمي من القيادي بجماعة الإخوان محمد البلتاجي بأنّ توقف عمليات الإرهاب في سيناء متوقف على عودة مرسي إلى الحكم مرة أخرى.
ومن خلال التنظير الذي وضعه سيد قطب، وتسعى جماعة الإخوان إلى تطبيقه، يمكن القول إنّ الجهاد والعنف هو القاعدة الأساسية التي عملت من خلالها الجماعة، بيد أنّ حالة الضعف وعدم امتلاك أدوات الجهاد الكافية، دفعتهم للعمل بمبدأ التقية وتسييس الوضع القائم، واللعب بالقوانين والأعراف السياسية والاجتماعية، للحضور السياسي والاجتماعي، والحضور العنيف والجهادي حين تسنح لهم الفرصة.