الخلافة، قرآنياً، ليست نظاماً سياسياً، بأفكار ضيقة؛ بل هي حركة عمرانية خيرية، يشترك فيها الإنسان، والبيئة، والحيوانات، والنباتات، كي ينعم هذا الكوكب بالسلام، والمحبة، والتناغم البنَّاء، ونستدلّ على ذلك من خلال كثيرٍ من التفاسير، التي تقول إنّ معنى الآية القرآنية: {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً}، هو أنّ الله سيورث الأرض للبشرية كافة لتعمرها، وتستصلِحها. وأيضاً يمكن الاستدلال على ذلك دينياً، بأنّ الإنسان بكل أعراقه، وطوائفه، وأديانه، ومناطقه، هو مكلّف بالخلافةِ في الأرض؛ بل إنّ بعض المفسرين قالوا: وحتى الكائنات الحية الأخرى على الأرض مكلفة بالعمران؛ لأنّ الملائكة قالوا، في معرض سؤالهم لله عن جعلِ خليفة في الأرض: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ}، والدّماء تجري في عروق الحيوانات من غير الجنس البشري أيضاً.
لم يكن في التاريخ السياسي الإسلامي أيّ منهاجٍ واضحٍ لانتقال السلطة أو تداولها في الدول الملكية كافة
لقد انحرفت دلائل هذا المصطلح القرآني عن مقاصدها الأصيلة، ما يدلّ على وجود تلاعبٍ أصاب تفسير هذه الآية، في الفترة التي أعقبت وفاة النبي محمد مباشرة؛ حيث إنّ مصطلح "الخليفة"، الذي يمثّل حالة عامّة شاملة للوجود الحيّ على كوكب الأرض، تم قصره على شخصٍ واحد يتزعّم دولة المسلمين.
وهناك من حاول أن يجعل تفسير مُصطلح الخلافة، في بداية استخدامه، لطيفاً ومقبولاً للعامة، فلم يقل "خليفة الله على الأرض"، أو "ظِلّ الله على الأرض"؛ بل قال "خليفة رسول الله". وقد لُقّب عمر بن الخطاب، بعد تولّيه الحكم، بـ "خليفة خليفة رسول الله"، وهذه التسمية تدلّ على عدم وضوح ألقاب الحاكم، أو آلية انتقال الحكم في مجتمع ما زالت البداوة تجري في عروقه، ويحاول جاهداً أن يشابه الأمم المجاورة المتطورة سياسياً، من أمثال الدولتين: الساسانية، والبيزنطية.
حاول بعضُ الصحابة، في اجتماع سَقيفة بني ساعدة، أن يجعلوا اختيار خليفة الرسول بالانتخاب من أهل المدينة (الأنصار)، ومن أهل مكة (المهاجرين)، ومن هؤلاء: الصحابي الأنصاري، الحباب بن المنذر، الذي قال في اجتماعِ السقيفة للطرفين: "أميرٌ مِنّا وأميرٌ مِنكم". ولو تم هذا التأسيس لمفهوم الانتخاب الشعبي لرئيس دولة المسلمين، لكان من الممكن أن تكون مسألة تداول السلطة في التاريخ الإسلامي أكثر سلاسة، لتركت أثراً طيباً في مناحي الحياة السياسية كافةً للمسلمين عَبر القرون المتعاقبة.
مصطلح "الخليفة" الذي يمثّل حالة عامّة شاملة للوجود الحيّ على الأرض تم قصره على شخصٍ واحد
وإذا أمعنا النظر، نجد أنّ الخلافة، التي سميت بالخلافةِ الراشدة، لم تكن ناضجةً بما يكفي، لتبلور آلية اختيار رئيس لدولة المسلمين؛ حيث إنّ الخليفة لم يكن يُنتخب من الناس كافةً، وحسب رَغبتهم؛ بل كانت رئاسةُ المسلمين، حكراً على قريش، ولم تكن في جميعِ قريش؛ بل في أبناء عمومة من أبناء عبد مناف. وقد استثني أهل المدينة "الأنصار" في اجتماع السقيفة، من هذا المنصب، رغم محاولات زعيمهم، سعد بن عبادة، أن يعود بنصيب من الحكم والسيادة، لقومه الأوس والخزرج، الذين قامت الدولة في ديارهم، لكن تم رفض أية مطالبة منهم بالمناصب. لقد بايع عمر بن الخطاب، أبا بكر الصديق، وبايعَ الناسُ من بعده. لكنّ سعد بن عبادة، لم يبايع أبا بكر طوال حكمه، ولم يبايع عمر بن الخطاب أيضاً. ومات مقتولاً، في ظروف غامضة في بصرى الشام، سنة 14 للهجرة، وكانت نتيجة التحقيق في وفاته غريبة، هي أنّ الجن قتلوه!
وعندما حضر الموت الخليفة أبا بكر، بعد سنتين من ذلك الاجتماع، أوصى بأن تكون الخلافة من بعده للصحابي عمر بن الخطاب، وكانت فترة حكم عمر عشر سنواتٍ، توسعت فيها دولة المسلمين، بشكلٍ هائل، وأصبحت ثرية جداً، من أموال الغنائم، والخراج، والجزية.
تسبَّب الصراع المحموم والوحشي للاستئثار بالسلطة، في نهاية فترة "الخلافة الراشدة"، بتفرقة المسلمين إلى مذاهب وشيع متصارعة
وقد رشّح الخليفة عمر بن الخطاب ستة من الصحابة لخلافته، وهو على فراش الموت، بعد أن طعنه، وهو يصلي في المسجد، فيروز النهاوندي، الملقب بـ "أبو لؤلؤة المجوسي"، من بين هؤلاء: عبد الرحمن بن عوف، وعثمان بن عفان. وتناقش الرجال الستة، وأجمعوا على اختيار عثمان بن عفان، ليكون خليفة لخليفة خليفة رسول الله، وهذا المسمى الطويل لرأس الدولة، يُظهر أنّ لقب الحاكم العام، لم يتشكّل حتى بعد مرور اثني عشر عاماً على وفاة النبي، عليه السلام، وقد أشارت قائمة المرشَّحين لخلافة عمر، أنّ الخلافة كانت حكراً على كبار رجالات الدولة في ذلك الوقت.
اتخذ مفهوم الخلافة، في النصف الثاني من فترة حكم عثمان بن عفان، بعداً جديداً، وأكثر ميلاً للطابع الملكي؛ حيث توسّع نفوذ أبناء عم الخليفة، من بني أمية بشكلٍ كبيرٍ، وبدؤوا يسيطرون على مفاصل الدولة الحديثة، التي أمست ثرية جداً، ومترامية الأطراف.
لكنّ الثورات، التي سادت في النصف الثاني من فترة حكم عثمان، أدت إلى ظهورِ صراع قبلي، على النفوذ، والامتيازات، والثروات بين الشقّ الأموي والهاشمي من قبيلة قريش.
وأدّت هذه الاضطرابات، إلى مقتل عثمان بن عفان، وتولي الصحابي علي بن طالب مقاليد الحكم، وهو الأمر الذي لم يرضَ عنه زعيم الأمويين، الصحابي معاوية بن أبي سفيان، وبقي هذا الصراع العائلي قائماً، إلى أن استحوذ معاوية بن أبي سفيان على كامل السلطات، في دولة المسلمين بعد معارك دموية، كموقعة صفين، التي قتل فيها سبعون ألفاً من الصحابة.
وبحكم معاوية، لم يعد وصف "الخلافة" مناسباً للمملكة الأموية الوراثية؛ لأنّ نظام الحكم، أصبح نظاماً ملكياً متوارثاً من الأب إلى ابنه، وأدّى استحواذ ملوك وأمراء العائلة الأموية على الجيش، وبيت المال، وإدارات الدولة، إلى منع أية فرصة للمشاركة السياسية، أو لتداول السلطة.
وبعد ذلك أصبح انتقال السلطة يتم بالبطش والقوة، وتصفية الحسابات، في مذابح دموية، ومكائد، ودسائس لا تنتهي، منذ بدء تشكّل الدولة الأموية، ثم الدولة العباسية، والدويلات الفاطمية، والأيوبية، حتى الدولة العثمانية.
الثورات، التي سادت في النصف الثاني من فترة حكم عثمان أدت إلى ظهورِ صراع قبلي على النفوذ والامتيازات
لم تكن الممالك الإسلامية، أو الملوك المسلمون، يمثلون الله، بمعنى أنّ الله اختارهم، وخصّهم من بين الناس بالسيادة والحكم، لكنّهم حازوا إمرة الناس، وإمامتهم بسيوف مسلَّطة، ورماحٍ مشهّرةٍ، ومكائدَ، وانقلاباتٍ، وتمرداتٍ، أزهقت أرواحاً كثيرة، فكان من ينازعهم في ملكهم، بعد التمكين، ولو ببيتِ شعرٍ، أو همسةٍ في منتدى، أو إشارةٍ في خطبة جمعة، يطارده عسس "الخليفة"، ويحضرونه مكبلاً بأغلالٍ ثِقال، بل ويحضرون رأسه إلى مجلس الملك "الخليفة" على طبقٍ من فضة.
لم يكن في التاريخ السياسي الإسلامي، أيّ منهاجٍ واضحٍ لانتقال السلطة، أو تداولها في الدول الملكية كافة، التي حكمت، ولقبت نفسها بلقب الخلافة، لكسبِ الشرعية الدينية، ولقبت ملكها بلقب "خليفة" ليبايعه الناس، على السمع والطاعة.
ويعود فشل تجربة الخلافة في التاريخ الإسلامي، إلى عدة أسباب: أولها، أنّ أغلب المسلمين لم يعرفوا، أو يفهموا ملامح واضحة، لآلية انتقال السلطة والرئاسة في دولتهم، منذ اليوم التالي لوفاة النبي محمد، عليه السلام، بل كانت تنتقل غصباً، وانتزاعاً، من يد القوي، إلى يد الأقوى منه. ولأنّه لم يكن لعامة المسلمين يوماً، أيّ رأي، أو مشورة في انتخاب زعمائهم وملوكهم، الذي كانوا يستترون خلف عباءة الدين بمسمى الخلافة ونشر الدين.
لقد تسبَّب الصراع المحموم، والوحشي للاستئثار بالسلطة، في نهاية فترة الخلافة المسماة بالراشدة، بتفرقة المسلمين إلى مذاهب، وشيع متصارعة. وما زالت تبعات ذاك الانقسام السياسي الحاد، تلقي بظلالها المدمرة، على حياة المسلمين حتى وقتنا الحالي.