
إطاحة أحمد الشرع، الجهادي السابق، وتحالف من الجماعات المسلحة تقوده “هيئة تحرير الشام “(HTS) بالنظام الوحشي لحكومة الأسد في سوريا، في 8 كانون الأول / ديسمبر الماضي، ترك مصير البلاد في مهب الريح. فبينما قدم الشرع نفسه استراتيجيًا كشخصية معتدلة، فإن خلفيته وإجراءات منظمته تشير إلى ارتباط مستمر بالإسلامية السلفية.
وبحسب دراسة حديثة نشرها المركز العربي لدراسات التطرف بعنوان "كيف يخفي نظام الشرع السوري الجديد إسلاميته وراء البيروقراطية؟، فإن تفويض الحكم للتقنيين المحليين شكل جزءًا محوريًّا من استراتيجية “هيئة تحرير الشام” (HTS) كسلطة حربية، مما ساعدها على تعزيز سمعتها دوليًّا وتقليل السخط المحلي. ورغم ادعاء أحمد الشرع الاعتدال، فإن تاريخ HTS في قمع المعارضة، وارتكاب المجازر الطائفية الحديثة، والصلاحيات المطلقة غير المباشرة الممنوحة له بموجب الدستور المؤقت الجديد، تشير إلى أن النظام السوري الجديد سيغلب عليه الطابع الإسلامي القمعي بدلاً من كونه نظامًا معتدلًا متسامحًا.
وذكرت الدراسة أنه بعد أشهر قليلة فقط من تولّيها الحكم، بدأت تظهر على الحكومة السورية الجديدة علامات التطرف. شمل ذلك مجزرة حديثة راح ضحيتها حوالي 1500 من العلويين، المرتبطين بنظام الأسد الوحشي، إضافة إلى العودة إلى بعض السياسات الإسلامية المتشددة، مثل تدريب الشرطة المدنية على القانون الشرعي. وبالمثل، قلل الدستور المؤقت الموقع حديثًا رسميًا من سلطة أحمد الشرع، بينما منحه فعليًّا سيطرة غير محدودة بشكل غير مباشر على مؤسسات البلاد الناشئة (بي بي سي عربي، 16 آذار / مارس). تتماشى هذه التطورات مع ما يمكن ملاحظته عند فحص تطور علاقة “حكومة الإنقاذ السورية” مع “هيئة تحرير الشام” منذ عام 2017، حيث يبدو أن الميول المعتدلة التي تظهر أحيانًا تستند إلى مصالح الشرع أكثر من كونها تعكس تحولًا أيديولوجيًّا حقيقيًّا.
لماذا نجحت هيئة تحرير الشام حيث فشل الآخرون؟
ووفق ما ورد بالدراسة فإن إنشاء “هيئة تحرير الشام” (HTS) لـ”حكومة الإنقاذ السورية” ككيان حكم شبه مستقل تحت نظام جهادي يعد أمرًا غير معتاد، حيث تفضل الجماعات الجهادية عمومًا الحكم المباشر.
ويمكن إيجاد أوجه تشابه مهمة بين HTS و”تنظيم القاعدة في جزيرة العرب”، نشأ كلاهما كفرع لتنظيم القاعدة، مستغلين فراغ السلطة الناجم عن الحروب الأهلية المستمرة لإقامة أنظمتهما السلطوية وتعزيز أجنداتهما الأوسع.
وقد حاول كل منهما تقديم الخدمات لمواطنيه لتعزيز شرعيته، بالإضافة إلى كسب دعم السكان المحليين وأطراف أخرى خارج المنطقة.
في المقابل، اعتُبر توفير الخدمات وسيلة لتحقيق غاية، حيث ساعد في تجنيد المقاتلين، فضلاً عن الحصول على الموارد والدعم الدولي الإضافي.
وأشارت الدراسة إلى أن هيئة تحرير الشام” نجحت حيث فشل “تنظيم القاعدة في جزيرة العرب” (AQAP)، وقد حدث ذلك جزئيًّا؛ لأن AQAP اختارت إعطاء الأولوية للتطبيق المباشر لرؤيتها الخاصة للحكم الإسلامي، التي فرضت باستخدام شرطة دينية صارمة. لكن هذه الجهود جاءت بنتائج عكسية؛ إذ استنزفت موارد التنظيم المحدودة، وأضعفته عسكريًّا، وعزلته عن السكان المحلّيين، الذين رأوا في النهاية أن السلفية التي تبناها على الطريقة القاعدية كانت فرضًا أجنبيًّا عليهم.
حكومة الإنقاذ السورية حاولت عدة مرات فرض “شرطة أخلاقية” دينية صارمة على السكان المحليين لكنها اضطرت إلى إصلاح هذه المبادرات وتخفيفها
الحكم المفوض من خلال حكومة الإنقاذ السورية
بالمقابل، أنشأت “هيئة تحرير الشام” (HTS) “حكومة الإنقاذ السورية” للحكم بأسلوب غير مباشر، لتحلّ محل المجالس المحلية الحالية التي كانت تعمل تحت الجيش الوطني السوري المدعوم من تركيا.
وسمح ذلك لـ HTS بتفويض إدارة “القضايا غير السياسية” مثل إصلاح البنية التحتية والتعليم وتوفير الرعاية الصحية لقادة المجتمع المدني المحليين، بينما ركزت HTS نفسها على الشؤون العسكرية.
وبينما بذلت HTS جهودًا لتظهر أكثر اعتدالًا، خاصة من خلال إبعاد نفسها عن القاعدة، إلا أنها لم تتنصل رسميًّا من توجهها الإسلامي السلفي. في المقابل، تخلت “حكومة الإنقاذ السورية” عن العقائد السلفية في الحكم الإسلامي، ونفذت بدلاً من ذلك الشريعة الإسلامية بما يتوافق مع المذهب الشافعي المحلي الأكثر تسامحًا (مدرسة الفكر الإسلامي القانونية)، بحسب الدراسة.
وهذا شكل تباينًا صارخًا بشكل خاص مع “تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) المعاصر لـ HTS في سوريا، المشهور بتطبيق إجراءات لا هوادة فيها وقاسية تتماشى مع رؤيته للنظام الإسلامي.
الدراسة كشفت أيضا أن “حكومة الإنقاذ السورية” حاولت عدة مرات فرض “شرطة أخلاقية” دينية صارمة على السكان المحليين، لكنها اضطرت إلى إصلاح هذه المبادرات وتخفيفها بسبب مزيج من الضغط الشعبي والرغبة في أن تُنظر إليها على أنها مقبولة دوليًّا.
إلى ذلك، اعتبرت الدراسة أنه سيكون من الخطأ افتراض أن استراتيجية الحكم لـ “هيئة تحرير الشام” (HTS) كانت ديمقراطية في حد ذاتها. فقد شاركت المجموعة بنشاط في قمع المعارضة العامة، وقمعت الاحتجاجات السلمية ضد حكمها بيد من حديد، وقد تحقق ذلك من خلال الاعتقالات الجماعية التي نفذتها وكالة الاستخبارات (المخابرات) التابعة لـ “حكومة الإنقاذ السورية”.
واكتسبت HTS سمعة سيئة بسبب استيلائها على مراكز الاحتجاز من عهد الأسد ومعاملتها القاسية للمحتجزين، بينما اعتُبرت هذه سياسات لـ HTS، نفذتها “حكومة الإنقاذ السورية” مباشرة من خلال رئيس خدمات الاستخبارات المدنية، أنس خطاب.
وعلى غير العادة بالنسبة إلى ما يمكن عدّه نظامًا إسلاميًّا، أدت السياسات والهيكل المحدد لـ “حكومة الإنقاذ السورية” إلى وصفها بشكل متكرر بأنها “تكنوقراطية”، حيث فوضت “حكومة الإنقاذ السورية” مهام الحكم للنخبة المتعلمة محليًّا، سواء مباشرة من خلال وزاراتها أو عبر منظمات المجتمع المدني القائمة التي تعاونت معها.
وقد مكنها ذلك من تحسين الإدارة المحلية واستقطاب الطبقة المثقفة المسؤولة عن المشاركة في المجتمع المدني. ونظرًا لأن هذه المجموعات كانت قد تشكل نواة المعارضة المحلية لـ HTS، فيما رجحت الدراسة أن انفتاح “حكومة الإنقاذ السورية” على النخب المحلية ساعد في استقرار حكم HTS في إدلب.
استغلال هيئة تحرير الشام الإنقاذ السورية كأداة تكنوقراطية للحكم
وبحسب الدراسة، سيلعب استغلال “هيئة تحرير الشام” (HTS) لـ “حكومة الإنقاذ السورية” كأداة تكنوقراطية للحكم لصالحها عندما تتولى دور الحكومة الانتقالية. فقد خلفت أكثر من عقد من الحرب الأهلية البلاد مع نزيف حاد في العقول، حيث فرّ ما لا يقل عن ثلث خبراء سوريا وأكاديمييها إلى الخارج منذ بداية الحرب.
وسيحارب أسعد الشيبياني، وزير الخارجية والمغتربين الجديد، بلا شك من أجل جذب أعضاء موهوبين من الشتات السوري إلى وطنهم – وهي خطوة حاسمة في إعادة بناء الاقتصاد السوري المنهك بسبب الحرب. وتحقيقًا لهذه الغاية، لا شك أن الحكومة الانتقالية المكونة في الغالب من “حكومة الإنقاذ السورية” السابقة ترغب في إظهار أن الأطباء والمهندسين والمحامين المغتربين العائدين إلى سوريا سيتم حمايتهم واحترامهم، بل وحتى ترقيتهم إلى مناصب في الإدارة الجديدة، وفقا للدراسة.
دور أحمد الشرع
وشددت الدراسة على ضرورة التأكيد على دور أحمد الشرع بصفته القائد الأعلى لكل من “هيئة تحرير الشام “(HTS) و”حكومة الإنقاذ السورية” كمنظمتين فريدتين لهما هياكل سلطة ومصالح خاصة بهما. ف"منظمة الجولاني"، المستخدمة هنا للإشارة إلى المجموعة التي أعيدت تسميتها بشكل متكرر بقيادة الشرع، والتي تطورت في النهاية إلى HTS، هي من بنات أفكار الشرع بالكامل.
كما قالت الدارسة إنه يُنظر إلى الشرع عمومًا على أنه تكتيكي ذكي وبعيد النظر، حيث منحته خلفيته إحساسًا حادًّا بتأثير الرأي المحلي والدولي على نجاح حركته.
ويتجلى هذا أفضل من خلال التحولات السياسية العديدة للشرع، خصوصا أن الحكومة الانتقالية الحالية هي النسخة الرابعة من المنظمة المسلحة التي يقودها الشرع (المعروفة بالإجماع في التجسيدات السابقة لـ HTS باسم الجولاني). وكان كل تحول استجابة مقصودة للتغيرات في ظروف الحرب الأهلية السورية.
نجاح الشرع في إضفاء الشرعية على حكمه
الدراسة أكدت أيضا أن الشرع نجح، بتأسيس “حكومة الإنقاذ السورية”، في منح حكمه هالة من الشرعية من خلال إثبات قدرته على الحكم. وتحقيقًا لهذه الغاية، دعا الشرع رياض الأسد، زعيم الجيش السوري الحر العلماني المدعوم من الولايات المتحدة، لحضور تشكيل “HTS” في عام 2017، حيث شغل منصب نائب رئيس الوزراء للشؤون العسكرية لمدة عام.
يُنظر إلى الشرع عمومًا على أنه تكتيكي ذكي وبعيد النظر حيث منحته خلفيته إحساسًا حادًّا بتأثير الرأي المحلي والدولي على نجاح حركته
ووفرت “حكومة الإنقاذ السورية” ساحة حاسمة للمصالح المتنافسة خلال الحرب، حيث أبقت المدنيين مطيعين (من خلال القمع و/أو تقديم الخدمات)، على الرغم من أن هذا الفعل المتوازن لم يستطع سوى القليل للحفاظ على جناح “HTS” المتطرف تحت السيطرة. وفشل الشرع في السابق في كبح المتطرفين داخل تحالفه، حيث انفصل المتشددون الذين شكلوا لاحقًا جماعة “حراس الدين” المرتبطة بالقاعدة عن “منظمة الجولاني” في تموز / يوليو 2016، بعد انفصال الشرع رسميًّا عن القاعدة.
وأكدت الدراسة أنه، ومع تطور “HTS” و”حكومة الإنقاذ السورية” الآن إلى الحكومة الانتقالية، يجب أن يتوقع المراقبون أن يحكم الشرع ونظامه بدوافع مماثلة – وبنفس التركيز الكبير على المظاهر. ومن المرجح أن تتعرض الحكومة لضغوط في عدة اتجاهات مختلفة، موازنة بين مصالحها الخاصة، وضغوط العناصر الجهادية الأكثر عدوانية داخل “HTS”، والدفع الدولي نحو حكومة أكثر علمانية وديمقراطية وتسامحًا.
تطورات مقلقة
ووفق ما ورد بالدراسة، فإن التفاؤل المبكر أعطى الطريق لمخاوف من أن “الشرع” المتسامح ربما كان “الجولاني” الجهادي في ثوب حمل طوال الوقت. فقد تطورت مناوشات بين قوات مرتبطة بالحكومة ترتدي ملابس جهادية وميليشيات علوية يُعتقد أن يقودها جنرال موال للأسد بشكل مروع خارج نطاق السيطرة في الأسابيع الأولى من آذار / مارس.
وانخرطت القوات المرتبطة بالحكومة في مجازر طائفية واسعة النطاق ضد العلويين في الغالب – حيث يُعتقد أن ما يصل إلى 1500 مدني قد قُتلوا – إلى جانب أعمال وحشية أخرى للعقاب الجماعي تركزت في المنطقة الساحلية السورية.
ربما توقع المؤيدون الغربيون للشرع، بحسب الدراسة، أن يقوم على الفور بقمع الجماعة المرتبطة بالحكومة الجديدة التي ارتكبت المجازر. بدلاً من ذلك، ركزت أول رسالة للشرع بشكل كبير على التحذير من مزيد من المقاومة العلوية، قائلاً إن انتقام السنة من العلويين كان لا مفرّ منه، نظرًا للاستياء المتزايد خلال سنوات هيمنة العلويين على نظام الأسد.
ومع ذلك، دعا الشرع إلى السلام خلال الحادث ووعد في النهاية بمحاسبة الجناة – وفقًا لتوصية لجنة جديدة سيتم تشكيلها لغرض التحقيق في الحادث.
ولا شك أن هذه المأساة قللت من التفاؤل بأن قيادة الشرع ستؤدي إلى نظام معتدل متسامح بدلاً من نظام جهادي طائفي. كما أنها مثلت اعترافًا بوجود عناصر في القوات المسلحة الجديدة ليست دمشق تحت سيطرتها الكاملة.، وفقا للدراسة.