هاجم زعيم تنظيم "القاعدة" أيمن الظواهري، في كلمة صوتية له بعنوان "فلنقاتلهم بنياناً مرصوصاً" بثتها مؤسسة "السحاب" نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، "هيئة تحرير الشام" وأميرها أبو محمد الجولاني، بعد يومين على اعتقاله قيادات أردنية بارزة منشقة عن "الهيئة" وتتبع لـ"القاعدة"، وهم: إياد الطوباسي "أبو جليبيب الأردني"، وسامي العريدي، و"أبو القاسم الأردني" و"أبو همام السوري"، واتهمه أنه "نكث العهد".
كانت قد وقعت قبل بيان الظواهري معارك داخل الهيئة، على بعض الخلافات الأيديولوجية، في مسألة بيعة الظواهري، وفك الارتباط عن القاعدة، ودخل على الخط عبد الله المحيسني، الذي وافق على ما قام به الجولاني، وتدخل الأردني أبو محمد المقدسي لحل المشكلة، والإفراج عن المعتقلين، ووقف حملات الاعتقالات، كما توسط القيادي أبو أنس الشامي، وحتى كتابة هذه السطور لم تحل المشكلة.
ما سبق هو استكمال لدوامة المعارك التي وقعت وما تزال بين فصائل هي أقرب لتنظيم "القاعدة" في سورية، سقط على إثرها عدد كبير من القتلى شمال غرب سورية، داخل هيئة تحرير الشام، بين جبهة فتح الشام، وجماعة نور الدين زنكي، بسبب بيعة الظواهري، وأسباب أخرى تتعلق بالتمويل، والعلاقات مع بعض الدول.
شرارة الاقتتال "القاعدي" في سورية
انطلقت شرارة الاقتتال بين الفصائل الموالية للقاعدة، ولم تهدأ حتى هذه اللحظة، والبداية كانت يوم يوم 28 تموز (يوليو) العام 2016 حين أعلنت جبهة النصرة فك ارتباطها عن تنظيم القاعدة، وتسمية نفسها بـ"جبهة فتح الشام"، مقابل اندماجها مع فصائل أخرى، وإعلان إمارة، وهذا ما أكده فيما بعد زعيمها أبو محمد الجولاني، بأنّ بيعته للظواهري كانت بيعة قتال وليست بيعة عامة، وهو ما يترتب عليه جواز خلعها.
عقب هذا الإعلان أرسلت الدوحة مندوباً للنصرة، التقى بقادتها ومنهم أبو الفرج المصري أحمد سلامة مبروك (قتل) للترتيب لعقد لقاء تلفزيوني مع الجولاني، وتسويق الأخير كمعتدل، وذهب مذيع الجزيرة أحمد منصور إلى سورية، وأذاعت القناة المقابلة في أيار (مايو) 2015، التي صورت في محافظة إدلب بالداخل السوري، وجلس الجولاني على مقعد المحافظ السابق للمدينة، ورغم أن المكان والزمان كانا معلومين، إلا أنّ الأمريكان لم يقصفوا الموقع!
انطلقت شرارة الاقتتال بين الفصائل الموالية للقاعدة بسورية منذ أعلنت جبهة النصرة فك ارتباطها عن التنظيم منتصف 2016
تشققت جبهة النصرة، ووقع انقسام داخلي، مع رفض الفصيل الأول الذي يقوده أبو قتادة الفلسطيني، ظهور أبو محمد الجولاني، زعيم الجبهة على شاشة قناة "الجزيرة"، وهو ما خالفه، ودعمه أصحاب الاتجاه الثاني الذي يقوده أبو ماريا القحطاني، المسؤول الشرعي المنفصل عن الجبهة.
فقيه القاعدة أبو بصير الطرطوسي كان من الفريق الداعم للجولاني، وبعدها بدأت سلسلة اغتيالات لقادة النصرة، وكان آخرهم أحمد سلامة مبروك أبو الفرج المصري في 4 تشرين الأول (أكتوبر) 2016، واتهم داعش الجولاني بتسليمه كشوفاً بأسماء وأماكن قادته للدوحة، مقابل مزيد من الدعم.
في 28 كانون الثاني (يناير) 2017، اندمجت جبهة فتح الشام مع 4 فصائل أخرى ضمن كيان جديد تحت مسمّى "هيئة تحرير الشام"، وكان معها: كتائب نور الدين الزنكي، بقيادة توفيق شهاب الدين، وهي إحدى القوى البارزة في الريف الغربي لمدينة حلب، وكذلك جبهة أنصار الدين، وهي مظلّة جامعة صغيرة تضم سلفيين جهاديين سوريين وأجانب لم تعلن جهاراً عن ارتباطها بتنظيم القاعدة، على الرغم من التقارب الأيديولوجي الكبير بينهما، وأيضاً جيش السنّة وهي مجموعة صغيرة من المقاتلين الذين فرّوا من حمص إلى إدلب؛ حيث تعاونوا بشكلٍ وثيق مع جبهة النصرة (جبهة فتح الشام لاحقاً)، وأخيراً لواء الحق وهو مجموعة صغيرة أخرى في إدلب رأت النور في العامين 2011-2012 بتمويل من جماعة الإخوان.
وقع انقسام داخلي داخل "النصرة" مع رفض الفصيل الذي يقوده أبو قتادة الفلسطيني ظهور الجولاني على شاشة "الجزيرة"
في الناحية المقابلة، كان هناك فصيل كبير لا يقل أهمية عن جبهة فتح الشام، وهو جماعة "أحرار الشام"، الموالية للقاعدة أيضاً، إلا أنها تحولت إستراتيجياً وليس أيديولوجياً؛ إذ ارتأت أنّ جهادها لا بد ألا يتعدى حدود الدولة السورية، وهذا ما ذكره المتحدث باسمها، لبيب النحاس، في مقال مفصّل نشرته صحيفة الغارديان البريطانية في 22 شباط (فبراير) 2016.
في 30 كانون الثاني (يناير) 2017، شنّت جبهة فتح الشام (جبهة النصرة سابقاً)، هجوماً على مجموعة شاركت في محادثات أستانة، واعتبرت بعض الفصائل أنّ هذا الهجوم بمثابة ضربة استباقية لابتلاعها، وقال قائد حركة أحرار الشام محمد طلال بازرباشي، في تصريح نقلته وكالة "رويترز" للأنباء، "من الواضح أنهم شعروا أن اللحظة مؤاتية لذلك؛ لأننا كنا نتقدم بخطى حثيثة نحو الاندماج مع الجيش السوري الحر والفصائل الثورية السورية. لا أعتقد أن مؤتمر الأستانة كان السبب، لكنهم تذرّعوا به لتبرير فعلتهم".
سارعت 6 فصائل إلى الارتماء في أحضان أحرار الشام، لحمايتهم من جبهة تحرير الشام تحت قيادة جديدة يتولاها علي العمر، وهي: جيش المجاهدين، وهو عبارة عن تحالف تنضوي تحت لوائه فصائل ريف غربي حلب، وكذلك الجبهة الشامية – قطاع حلب الغربي، وألوية صقور الشام، وجيش الإسلام – قطاع إدلب، وهو حركة سلفية، وكتائب ثوار الشام، وهي مجموعة تشكّلت من الفصائل المُنشقّة عن جيش المجاهدين، وأخيراً تجمُّع "فاستقم كما أُمرت".
الظواهري يدخل على خط الأزمة
دخل الظواهري على خط الأزمة، وقال في إصداره "فلنقاتلهم" إن ما فعله الجولاني بعد فك الارتباط بـ "القاعدة" في العام 2016، وتأسيس "جبهة فتح الشام"، هو "إنشاء كيان جديد فقط زاد من الخلافات"، وأنه لم يتشاور معه في ذلك.
بعد كلمات الظواهري شب قتال عنيف، بين "حركة نور الدين الزنكي" و"هيئة تحرير الشام" في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة المسلحة غربي حلب، وتمكنت "الزنكي"، خلال ساعات من الاشتباكات التي تخللها قصف متبادل بالأسلحة الثقيلة، من السيطرة على قرى تقاد وبسرطون وحاجز "تحرير الشام" على طريق تقاد–أبزمو و"الفوج 111" وعدد من المواقع التي كانت تخضع لسيطرة مشتركة بين الطرفين في ريف حلب الغربي.
اتهم "داعش" الجولاني بتسليمه كشوفاً بأسماء وأماكن قادته للدوحة مقابل مزيد من الدعم
وانطلقت شرارة الاقتتال من بلدة حيان في ضواحي حلب الشمالية، والتي تتمركز فيها مجموعات عسكرية تابعة للطرفين في مواجهة مليشيات النظام. واتهمت "الزنكي" الكتائب التابعة لـ"تحرير الشام" بـ"البغي" على كتائبها في البلدة والجبهات القريبة في المنطقة، وأصدرت بياناً توضح فيه ملابسات الحادثة، ثم أعلنت انشقاقها رسمياً عن هيئة تحرير الشام في تموز (يوليو) 2017.
عدّد البيان أسباباً أخرى دفعت الحركة إلى الانفصال، وهي تجاوز لجنة الفتوى في هيئة تحرير الشام، وإصدار بيان عن المجلس الشرعي دون علم أغلب أعضائه بقتال أحرار الشام، مذكراً بأن تشكيل الهيئة بني على أساس عدم البغي على الفصائل.
من الأسباب التي عجّلت في تحول غضب "الهيئة" إلى حرب ضد "الحركة"، هو الاستنزاف الكبير لـ"الهيئة" في معارك ريفي حماة وحلب، وعدم مشاركة "الزنكي"، وفي مقال مطول له على موقع "اتلانتيك كاونسل" نشر في شباط (فبراير) 2017، يؤكد الباحث السوري أحمد أبازيد أن الجولاني فقد الكثير من قياداته التي اتهمته بالتراجع عن مبادئ جهادية أساسية (عالمية الجهاد) لصالح التحرك في إطار قطري (سورية)، فضلاً عن التعاون مع الفصائل العلمانية واستخدام "اللغة الثورية"، وتبني "خطاب معتدل" تجاه القوى الخارجية.
مؤشرات مزيد من التفتت
ما يحدث داخل جبهة تحرير الشام، كما خارجها، يشير إلى أن الجماعات المسلحة إجمالاً دائمة التشظي، وفي سورية كل منها يحمل مشروعاً يتمايز عن الآخر، الأول جهادي أممي تقوده "فتح الشام"، وتحاول تطبيقه على المجتمع السوري المحلي حتى قبل تحقيق هدفها بإسقاط نظام بشار الأسد، والثاني وطني سوري، ولا يوجد في الحقيقة لدى هذه الجبهات والتنظيمات نزوع واضح إلى فقه إستراتيجي بعينه، كما أنها تفتقد خطة إستراتيجية بعيدة المدى، بعكس "داعش"، الذي كان له خطة واضحة لإقامة دولة مرجعيتها الفقه السلطاني الخوارجي التراثي.
اتهم الظواهري الجولاني بزيادة الخلافات عندما أسس "جبهة فتح الشام" دون التشاور معه في ذلك
كما أن أزمة هذه التنظيمات تتمثل في أنه يتنازعها ثلاثة صنوف من القادة، وهم: التاريخيون مثل؛ الأردني أسامة العريدي، وإياد الطوباسي أبو جليبيب، وكلهم يريدون عولمة الجهاد، ولا تمثل لهم سورية سوى محطة انتقال، وملاذاً آمناً مؤقتاً، ومكاناً للتدريب، حتى إشعار آخر، والصنف الثاني هم الجناح الذي يمثله أبو ماريا القحطاني (ميسرة الجبوري) الذي كان القاضي الشرعي الأول للتنظيم، لكنه يؤمن الآن، بمحلية الجبهة، واكتفائها بالحدود السورية؛ بل ودعا في الآونة الأخيرة إلى الدخول تحت مظلة الجيش السوري الحر، ووجوب حرب تنظيم داعش، والصنف الأخير، هو من يمثله، زعيم الجبهة أسامة الواحدي، الشهير باسم أبو محمد الجولاني، وهو صنف توافقي، يمسك العصا من المنتصف، ويحاول أن يسيّر الدفة مرحلياً، كي تسير المركب إلى نهايتها؛ لأنه يدرك تشظي الجبهة من الداخل.