
يعيش السكان في مدينة غزة حياة مأساوية على إثر الدمار الهائل الذي ضرب كل مناحي الحياة بفعل آلة الحرب الإسرائيلية، التي تعمدت على مدار عام ونصف عام من الحرب تخريب كل المقدرات الصحية والاقتصادية وغير ذلك، وهو الأمر الذي انعكس سلباً على حياة المواطنين، نتيجة العجز الكبير في الحصول على الخدمات الأساسية.
وازدادت معاناة المواطنين أكثر بعد عودتهم من الجنوب، وكانوا على أمل بتحسن الظروف المعيشية في غزة التي تعرضت لدمار مرعب، لكن أتت الرياح بما لا تشتهي السفن، فالمعاناة ما تزال ترافق المواطنين، أكثر من مليون مواطن يعيشون في مدينة غزة وشمالها يجدون صعوبة في الحصول على الخدمات العلاجية الكاملة والمناسبة، نتيجة الدمار الكبير الذي أصاب المنظومة الصحية بأكملها، فبعد أن كان في مدينة غزة والشمال (3) مستشفيات كبرى، منها مجمع الشفاء والمستشفى الإندونيسي وكمال عدوان، لم يبقَ سوى مستشفى واحد يستقبل مئات الآلاف، وهو المستشفى الأهلي العربي (المعمداني)، حيث بقي هذا المستشفى، الذي يصنف بأنّه صغير نسبياً عن باقي المستشفيات التي دُمرت، يستقبل آلاف الحالات يومياً، ويفتقر إلى كل احتياجات المواطنين من الأجهزة الطبية الضرورية، بسبب تضييقات قوات الاحتلال ومنعها من تطويره لسدّ كل احتياجات المرضى.
نقص الأطباء معضلة أخرى وخطيرة تواجه المواطنين، والاحتلال عندما أقدم على تدمير المنظومة الصحية بشكل متعمد، ركز إلى جانب قصف المستشفيات وحرقها على اعتقال وقتل الأطباء ذوي الكفاءة والخبرة في مختلف التخصصات الطبية، بهدف إضعاف عمل المنظومة وتأزيم حياة المواطنين، في ظل إغلاق المعابر والصعوبة التي يواجهها السكان في غزة، خاصة المرضى والجرحى، للحصول على العلاج اللازم والكافي. وعلى سبيل المثال كان يضم مجمع الشفاء غرب مدينة غزة أقساماً ضخمة وبداخله كافة التخصصات الطبية، ويعمل فيه أمهر الكوادر الطبية، من بينهم الدكتور عدنان البرش جراح العظام، والدكتور زياد التتري جراح الأطفال وغيرهم من الأطباء ممّن تعرضوا للاعتقال والقتل، وهذا العجز انعكس أيضاً سلباً على المرضى الذين يواجهون صعوبة في تلقي العلاج.
داخل مستشفى المعمداني وسط مدينة غزة، حيث تتكدس أقسام الطوارئ وغرف المبيت بمئات المرضى والمراجعين، تواجه الكوادر الطبية معاناة كبيرة، في ظل توافد أعداد المرضى يومياً وضعف الإمكانيات داخل المستشفى الوحيد الذي يغطي كافة احتياجات السكان في مدينة غزة والشمال، وينتظر المرضى ساعات من أجل الحصول على العلاج، وهذه المشكلة أثارت استياء المواطنين من تراجع الخدمات العلاجية بشكل سليم.
يقول الطبيب حسن محمود: يستقبل مستشفى المعمداني مئات الحالات يومياً سواء من المواطنين المرضى أو من المصابين نتيجة الحرب، في حين يعمل المستشفى بكل طاقته المتوفرة من كوادر طبية وأجهزة تصوير، وبالرغم من ذلك إلا أنّ هناك عجزاً في سد حاجة المواطنين لتلقي العلاج الكامل والمنتظم.
ويشير الطبيب في حديثه لـ (حفريات) إلى أنّ الاحتلال تعمد منذ بداية الحرب تدمير المنظومة الصحية، وبعد توقف الحرب يواصل حصار المنظومة ويمنع إدخال المعدات الطبية، ويرفض إجراء الإصلاحات وترميم المشافي والعيادات التي تعرضت للتخريب؛ بهدف تأزيم حياة السكان، وزيادة الضغط على المستشفى المعمداني الذي أصبح وجهة المواطنين الوحيدة لتلقي العلاج.
ولفت إلى أنّ مجمع الشفاء الطبي الذي يُعتبر من أكبر المستشفيات في القطاع، كان يسد العجز في احتياجات السكان من رفح جنوباً حتى بيت حانون شمالاً، لكن تعمد الاحتلال خلال حصاره تدمير أقسامه وحرقه، وأفرز ذلك معاناة بالنسبة إلى المواطنين الذين يواجهون صعوبة في الحصول على العلاج والرعاية الطبية.
وقد رصدت (حفريات) معاناة المرضى داخل مستشفى المعمداني، الذين ينتظرون على أبواب العيادة الخارجية لساعات من أجل الدخول إلى غرفة الأطباء، وهذا الانتظار ربما يمنح جميع المرضى فرصة الوصول إلى الأطباء، ولكن في بعض الأحيان يضطر عدد آخر من المرضى المغادرة والعودة في اليوم التالي في وقت مبكر من أجل تلقي الرعاية الطبية.
يقول أبو رامي، وهو والد طفل مريض أصيب بشظايا مزقت أمعاءه خلال الحرب، وما زال يعاني طفله من مضاعفات خطيرة على إثر الإصابة البالغة وضعف الإمكانيات الطبية فترة الإصابة، يقول: يعاني طفلي البالغ من العمر (12) عاماً من إصابة حرجة في الأمعاء، وكل فترة يحصل انسداد في الأمعاء، وعلى إثر ذلك يصاب الطفل بإمساك شديد، عدا عن الوجع الشديد الذي يرافقه صراخ.
ويشير في حديثه لـ (حفريات) إلى أنّ طفله بحاجة إلى تدخل جراحي لفتح الانسداد، ولكنّ الازدحام الكبير داخل مستشفى المعمداني الذي يُعتبر المستشفى الوحيد الذي بمقدرته حل مشكلة طفله، يؤخر من علاجه الذي تزداد حالته سوءاً يوماً تلو الآخر، وأنّ عملية طفله تؤجل نتيجة الضغط على غرف العمليات.
ولفت إلى أنّ هناك عجزاً في الكوادر الطبية من ذوي الخبرة بالعديد من التخصصات، وهذا العجز سببه ما قام به الاحتلال من اعتقال وقتل عدد من الأطباء خلال العملية البرية على القطاع، وبالتحديد التي تركزت على المستشفيات، وخاصة مجمع الشفاء الطبي الذي كان يضم مجموعة كبيرة من الأطباء من كافة التخصصات.
أمّا المواطن عصام عليان، فقد انصدم من حجم الدمار الذي أصاب المستشفيات في مدينة غزة والشمال، فالمواطن عليان أصيب بكسور في ساقيه، وعلى إثر ذلك تعرض لعملية زراعة بلاتين داخل المستشفى الأوروبي جنوب القطاع، واليوم وبعد أن عاد يجد صعوبة في إكمال علاجه داخل غزة، لنقص المشافي والكوادر الطبية والازدحام الشديد على مستشفى المعمداني.
ويعتقد خلال حديثه لـ (حفريات) أنّ حجم الدمار الهائل الذي أصاب غزة والمستشفيات، وعدم وجود رؤية واضحة لترميم المستشفيات على الأقل، يأتي في سياق الضغط الإسرائيلي لتنفيذ خطة التهجير، التي يلوح بها ترامب والحكومة الإسرائيلية من خلال دفع السكان، في ظل نقص الخدمات، إلى الهجرة خارج غزة.
مرضى الغسيل الكلوي هم أيضاً تزداد معاناتهم بشكل أكبر عن غيرهم من المرضى، نتيجة حاجتهم الماسة إلى جلسات منتظمة لإجراء غسيل كلوي، ويعاني المريض رجب عليوة من الانتظار ساعات طويلة داخل قسم الغسيل الكلوي في المستشفى المعمداني، لكي يأتي دوره في الجلوس على الجهاز الخاص بالغسيل، والذي يعمل طوال اليوم دون توقف على علاج أعداد كبيرة من المرضى، ويعبّر خلال حديثه لـ (حفريات) عن بالغ استيائه من وصول الحالة الصحية في غزة إلى هذه المعاناة القاسية التي لم نشهد مثيلاً لها، ويرى أنّ مرضى الغسيل الكلوي قد يفقد عدد كبير منهم حياته، في ظل الواقع الذي يعمل به مستشفى المعمداني نتيجة الضغط الكبير عليه.
يُذكر أنّ الجيش الإسرائيلي شنّ حرباً على قطاع غزة هي الأعنف في تاريخ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وقد تعمد الاحتلال تدمير كل مناحي الحياة، وفي ظل تنصل إسرائيل من اتفاق التهدئة القائم في قطاع غزة، يخشى الغزّيون من عودة الحرب وتدمير ما تبقى من مظاهر الحياة في القطاع.