تداعيات عودة تركيا إلى توظيف المتطرفين

تداعيات عودة تركيا إلى توظيف المتطرفين

تداعيات عودة تركيا إلى توظيف المتطرفين


02/12/2024

محمد أبوالفضل

يشير التصعيد العسكري المتواتر في حلب وإدلب من قبل هيئة تحرير الشام والفصائل المتحالفة معها إلى أن تركيا عادت إلى توظيف ورقة المتطرفين التي قيل إنها تخلت عنها منذ قيامها بعقد مصالحات سياسية مع السعودية والإمارات ومصر، حيث كان التراجع عن الاستثمار في دعم القوى الإسلامية مطلبا ضمنيا لتحسين العلاقات.

وبرهنت أنقرة على ذلك باتخاذها إجراءات إقصائية ضد قوى وقيادات مصنفة إرهابية، لكن بعض التقديرات السياسية توجست من نوايا النظام التركي، وأنه قد يكون فرمل الاستعانة بها أو وضعها على الرف، ولم يتخل عنها تماما.

أثبتت أحداث حلب وإدلب الأخيرة أن أنقرة لم تتخل عن الاستفادة من الورقة الإسلامية، ولا تزال تضعها في حساباتها المركزية، والابتعاد عنها كان مؤقتا أقدمت عليه خلال الفترة الماضية لدواع تكتيكية، مع تيقنها من أن السياسات البديلة لم تسعفها في القيام باستدارة حقيقية تجني منها مكاسب إقليمية.

كل التطورات الإيجابية مع مصر مثلا بدت مسكونة، من قبل القاهرة تحديدا، بمخاوف من أن تركيا لم تقم بقطيعة نهائية مع القوى الإسلامية، بأطيافها المختلفة، مستمدة يقينها من تردد أنقرة في تبني مواقف صريحة رافضة تماما لهذه القوى، وعدم قيامها بطرد قياديّي الإخوان وسحب الجنسية التركية منهم، فضلا عن وجود تيار داخل حزب العدالة والتنمية الحاكم له توجهات إسلاموية بدأ يضغط للحفاظ على قنوات اتصال مع التيار الإسلامي. وجاءت أحداث سوريا، وما قدمته أنقرة من دعم عسكري لهيئة تحرير الشام (النصرة سابقا) والفصائل المتعاونة معها، لتعزز القناعات بأن النظام التركي مازال يقبض على الورقة الإسلامية بقوة.

عادت أنقرة التي تبحث عن دور إقليمي حيوي إلى سابق عهدها، فعندما لم تجد لنفسها مكانا لائقا داخل الدائرة الأوروبية لجأت إلى الدائرة الآسيوية، وعندما لم تجد مكانا لها في الثانية ركزت على الشرق الأوسط، وكي تصبح فاعلة في هذه المنطقة تبنت سياسات متفرقة، ودخلت مناوشات ومساومات ومعارك، مع ذلك لم تستطع تثبيت أقدامها كرقم محوري فيها، إلى أن وجدت في القوى الإسلامية مدخلا مناسبا لها.

ومنيت هذه القوى بعاصفة انكسارات خلال الأعوام الماضية، وفقدت جزءا كبيرا من أهميتها، فتظاهرت تركيا بالابتعاد عنها لتحسين صورتها وعلاقاتها مع دول المنطقة، لكنها لم تجد ما تنتظره من تقدير وفاعلية وتأثير، وفي وقت تسير فيه التطورات الإقليمية نحو إعادة التموضع، ولم تجد أنقرة المكان الذي تطمح إليه، لجأت مرة أخرى إلى فصائل المتطرفين باعتبارهم من رعاياها السابقين، الذين تتلاقى مصالحهم معها في الأراضي السورية، وبدأ فصل جديد من التعامل معهم قد يكون مختلفا في تفاصيله عن الفصل السابق الذي مني بهزيمة ساحقة.

تحركت تركيا نحو دفع القوى المتطرفة إلى التحرك ضد النظام السوري، ومعها هذه المرة قوة دفع إقليمية ودولية، ممثلة في كل من إسرائيل والولايات المتحدة اللتين تريدان تصفية ما تبقى من حسابات مع دمشق والتخلص من الوجود الإيراني ومضايقة الحضور العسكري الروسي، وتم التغاضي عن كل الشعارات المناهضة للمتشددين من قبل واشنطن وأنقرة، وقد صنفتا هيئة تحرير الشام في قائمة الإرهاب.

ما يعني أن المهمة التي تقوم بها تركيا متشعبة وكبيرة ومغرية، فهي تعلم أن مردودات دعمها للمتطرفين سوف تؤثر حتما على العلاقات مع السعودية والإمارات ومصر، وهي دول لها مواقف ثابتة من الإرهاب، لن تقبل بتطوير التعاون مع رعاته، ما يشي بأن تركيا على موعد مع اختبار جديد مع الدول الثلاث، والتي لها مواقف داعمة لوحدة الأراضي السورية، ورؤاها ودية للنظام السوري، وليست سلبية.

وضعت أنقرة علاقاتها مع بعض الدول العربية على المحك بعد تزايد الأدلة التي تؤكد دعمها لهيئة تحرير الشام، وأن الفترة المقبلة قد تشهد انسجاما مع القوى الإسلامية يذكّر بما جرى قبل سنوات، وأن صورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وهو في ثوب خليفة المسلمين ربما تعود إلى الضوء، الأمر الذي لن تتردد جماعة الإخوان في استثماره، وبدأ خطابها فعلا يسير في اتجاه استرداد حيويتها، وأن الكمون النسبي الذي ظهرت عليه الفترة الماضية في طريقه إلى الزوال، ما يضع أنقرة في اختبار آخر، هل تضحّي بما حققته من تقدم في علاقاتها الخارجية وتعود إلى ما كانت عليه؟

وعلى الرغم من أن الإجابة بنعم أو لا مستحبة للقارئ، فإن الغموض الذي يكتنف الأوضاع في سوريا والتشابكات الإقليمية والحسابات الدولية المعقدة تجعل من ترجيح كفة أحد الخيارين مسألة صعبة، ومع ذلك فتركيا التي تبحث لها عن دور لم تكن فاعلة في الفترة التي تخلت فيها عن دعم المتطرفين، وزادت فاعليتها في المنطقة عندما كانت علاقتها المعلنة بهم قوية، وإذا قُدر لما يجري في سوريا أن ينجح في تحقيق سيطرة ميدانية واسعة للمتشددين فإن أنقرة لن تتركهم في ظل اكتساب قوى إسلامية متطرفة نفوذا في أماكن عديدة في أفريقيا، تعتقد تركيا في إمكانية توظيفها لخدمة أهدافها الإستراتيجية في القارة.

من هنا تتجاوز القراءة الموضوعية لدعم تركيا القوى الإسلامية سوريا وما تحمله أنقرة من أجندة واضحة للسيطرة على جزء من أراضيها، ففي جانب منه يحمل عقابا للرئيس بشار الأسد الذي رفض عرضا للمصالحة مع أردوغان، فتمكين المتطرفين من حلب وإدلب وحماة سوف يفتح الطريق لترسيخ فكرة أن سوريا باتت رجل المنطقة المريض، والذي يجب على تركيا أن تستفيد منه، لتتمكن من تثبيت أقدامها إذا حدثت تغيرات هيكلية في الشرق الأوسط، من زاوية إعادة رسم خرائطه، بما يتواءم مع مستجدات أدت إلى خروج دول عربية من نطاق التأثير واقتراب أخرى من التقسيم.

أحيت تركيا ومن يقفون معها في سوريا ورقة القوى الإسلامية مرة أخرى بعد أن ظن كثيرون أنها فقدت أهميتها عقب الانتكاسات التي منيت بها في دول عدة، ما يشير إلى عدم استبعاد تهيئة الأجواء أمام موجة جديدة أمامهم، وعودة الرعاة الرسميين السابقين لهم، في مقدمتهم أنقرة التي تاهت سياسيا عندما ابتعدت عنهم، وفي كل تقدم أحرزته كانت قريبة منهم، وربما لم تحرز تفوقا ملموسا في أي منطقة وهي بعيدة عنهم، وهذه المفارقة تمثل مؤشرا على أن هناك تبدلا في الحسابات التركية حيال الدول التي شهدت العلاقات معها تطورا وهدوءا لافتين.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية