هل نفهم التحرش فعلاً؟

هل نفهم التحرش فعلاً؟


04/09/2018

يعد التحرُّش، الذي يتخوّف البعض من إعلائه إلى كونه "ظاهرة"، من المشكلات التي تطرأ على الساحة الاجتماعية، المصرية والعالمية، كلّ حين.

ورغم التكتيكات والأساليب المتجددة التي يمارسها المتحرشون في مجتمعٍ كمصر، إلا أنّ آليات مقاومة هذا التحرّش ما تزال فرديّة، دون أيّ رادع قانونيّ حقيقي.

رغم الأساليب المتجددة التي يمارسها المتحرشون إلا أنّ مقاومتها ما تزال فرديّة دون رادع قانونيّ حقيقي

في الأسابيع الأخيرة؛ أطلّت حادثة تحرّش على صفحات التواصل الاجتماعيّ عرفت باسم "أون ذا رن"، صارت حدث الساعة؛ فكُتبت فيه مقالات، وظهرت فيديوهات، تتعلق بتحرّش شاب في التجمّع الخامس، وهي منطقة الطبقات العليا بمصر، بفتاة، ثمّ عرضه عليها أن تشرب معه فنجان قهوة "أون ذا رن"، وبعد أن رفعت الفتاة الفيديو، توالى الهجوم؛ عليها من ناحية، باعتبار أنّ الأمر عاديّ، وعلى الشاب، من ناحية أخرى، باعتباره متحرّشاً.

لكن الغريب في هذا الأمر، الذي يحدث تقريباً يومياً في مدينة شاسعة كالقاهرة؛ هو كتابات أولئك الذين حاولوا التحايُل على الحدث، عبر اختراع فكرة "عرض وطلب"؛ باعتبار أنّ الشاب "المتحرِّش" قد "عرض" وهي رفضت "الطلب"، وعليه فالأمر لا يحتاج إلى كل هذه الجلبة. يتجاهل، أو يجهل بالفعل، هذا الخطاب الرديء المناصر للتحرّش، حتى ولو على مستوى بسيط، أنّ الأمر ليس عرضاً وطلباً، إنّه اقتحام في موقف لشخص لا تربطك به أيّة صلة، ومن حقّه أن يرى أنّ هذا التصرّف مهين.

إشكالية قانونية: ما هو التحرّش؟

أثار الموقف، آنف الذكر، ردود فعلٍ كثيرة، لكن الأهم أنه طرح أسئلة إشكالية لم تُحسم إجاباتها: ما هو التحرّش؟ وما الفعل الذي يقوم به فردٌ ما، فنقول عنه إنّه متحرّش وهذا ليس بمتحرّش؟ هل يمكن وضع أداة اجتماعيّة، ومن ثمّ قانونيّة لاحقة، للمتحرّشين؟

لا شكّ في أنّ هناك حراكاً مهمّاً في الواقع ضدّ التحرّش، وهذا الحراك المُناصَر من جهات فاعلة عديدة، ليبراليّة في أغلبها، وإسلاميّة أيضاً، عُبّر عنه بلغة ذاتية أحياناً على وسائل التواصل، وبالكتابة حيناً، واللافتات أحياناً أخرى، بيد أنّ هناك دعوى لتقنين ممارسة التحرش، باعتباره "إساءة" في المجال العامّ.

النظرة بأنّ العرب متحرشون استناداً إلى النظرة الاستشراقيّة للعالم الثالث تُظهر الغرب وكأنه خالٍ من هذه الآفة

لكن، وهنا المفارقة؛ النقاش حول "تجريم" سلوك ما في مجال عامّ حرّ، إذا سلّمنا بالفرضيّة الليبراليّة حول المجال العام، يبدأ بالاستنجاد بالدولة والقانون، ليلعب كوسيط محايد في هذه القضيّة، عبر تقنين قانون لتجريم الذات المتحرّشة، ضد الذات المتحرَّش بها؛ أي إنّ الحريّة تحددها الدولة، بل ويُستنجد بها للحماية.

لا شكّ في أنّ النضالات النسائيّة مهمة، بيد أنّه عندما نأتي للدولة تتعثر الأمور كثيراً، نحن نعيش في عالم تهيكله الدولة، والقانون (الذراع الرمزّي والعقابيّ لها)، لا ينفكّ يحكم عالماً لا يمكن تصور حريّة "مطلقة" فيه خارج سلطة الدولة تماماً.

الأمر الثاني، والمتعلّق بتشريع قانون ههنا؛ هو أنّ تقنين الشيء يتطلب تحديده وتعريفه بدّقة؛ فأنت عندما تطالب الدولة بالتدخل في المجال العام لتجريم التحرش، عليك، سلفاً، أن تعرّف ما هو التحرش بدقة تسمح بها القوانين أن تُنجَز لغرضك التحريريّ، والحال أنّنا نجد تخبّطاً في ذلك؛ حيث إنّه مع توالي الأحداث، صار يختلط ما هو تحرّش بما هو ليس كذلك، وهنا المشكلة؛ عندما تريد أن تقنن ما هو اجتماعيّ يستعصي تعريفه مع ضرورة ذلك.

اقرأ أيضاً: هل يجوز تبرير التحرش بسلوك الفتاة أو ملابسها؟ الأزهر يجيب!

وبالطبع، لا أقول ذلك لأختزل الأمر في قضيّة تعريف، لكنّني أقول إنّه حاسم ما دمتَ تريد تقنينه.

الظلم الواقع على المرأة مماثل للواقع على الرجل من المشكلات المجتمعيّة التي أفرزت الذكوريّة الظالمة لهما على حد سواء

ثالثاً: هناك من يطرح نظرة للتحرّش باعتبار أنّه مسألة ثقافة، وأنّ الأمر منوط بثقافة الفرد المتحرّش الذي يوصف بالجهالة دائماً، لكنّ حادثةً كحادثة "أون ذا رن" توضّح لنا، بجلاءٍ، أنّ المسألة لا علاقة لها بالثقافة والتمدّن كما يريدُ أنصار النزعة الثقافية في العالم العربيّ، من النشطاء الحقوقيين، توصيف الأمر؛ فهذا شاب، من طبقة عليا أغلب الظن، أو طبقة وسطى عليا، تلقّى تعليماً أكاديمياً عالياً، ما يجعل هذه القضية ربما عَرَضاً لمشكلة اجتماعية أكبر تتجاوز الثقافة.

ثمّ إنّ النظرة بأنّ المصريين والعرب عموماً "متحرشون"، استناداً إلى السردية الاستشراقيّة القائلة بأنّ الأشخاص في العالم الثالث يعانون من الكبت، تطرح الموضوع وكأنّ الغرب خالٍ من هذه الآفة، وأنّه مجرد سلوك شرق أوسطيّ تجاوزته المجتمعات الغربية بحكم ليبراليتها.

رابعاً: إن معاداة التحرّش، أياً كان الدافع، ليس موقفاً ضدّ الذكورة، وإنّما بالأحرى، ضدّ بنية "الذكورة" بمعنى الميل إلى السيطرة وهو ما تنطوي عليها المرأة والرجل على السواء، وأنّه صراع جندريّ وليس للنساء وحدهن. وهنا نأتي إلى مشكلة كبيرةٍ في الخطاب النّسويّ المصريّ في تعريفه لنفسه، وفي قصور فهمه لظاهرة التحرّش عبر ردّها، من بعضهن، إلى "الذكورة" بما هي كذلك، وكأنّ السبب أنّ الرجل له شاربٌ ولحية؛ فهو ذكوريّ بطبعه الذي نشأ عليه. في واقع الأمر؛ إنّ الظلم الواقع على المرأة مماثل للواقع على الرجل ليس من المرأة، إنّما من البنية الاجتماعيّة، ومن المشكلات المجتمعيّة التي أفرزت النزعات الذكوريّة التي تشمل الرجل والأنثى على حد سواء، ولا شكّ في أنّنا نجد نساءً أكثر ذكوريّة من رجال. لماذا؟ لأنّ الذكوريّة إنتاج اجتماعيّ يُربّى المرء عليه.

البُعد الطبقيّ والدينيّ

عوداً إلى حادثة "أون ذا رن"، نجدُ أنّ الفتاة المتحرَّش بها، وبسبب نشرها للفيديو، قد تأذّت، وتمّ فصلها من العمل، بحسب ما أفادت هي على صفحتها، وقد كتبَ أخو المتحرّش؛ أنّها إذا حذفت الفيديو فإنّنا سنعيدها إلى العمل؛ الأمر الذي يعيدنا إلى مسألة الطبقة الاجتماعيّة، وعلاقات السلطة، بين بعض الذكور والمؤسسات.

ورغم الحوادث التي تُنشر على وسائل التواصل الاجتماعيّ، من تحرّش وغيره، إلا أنّ هذا أيضاً مرتبط بطبقةٍ وسطى تعرف الدخول إلى الإنترنت، وتعرف أن تسردَ ذاتها، وتحكي وقائع التحرّش بها، في حين أنّ آلاف قصص التحرّش لا نعرف عنها شيئاً، وتحدثُ بصورةٍ يوميّة، لنساءٍ من الطبقات الدنيا والعاملة، التي لا يسمح لها، لا المجال الاجتماعيّ الذي تعيشُ فيه، ولا وصولها إلى صفحةٍ شخصيّة بالفيسبوك أو تويتر؛ أن تحكي عن نفسها، بجرأة، وقائع التحرّش التي مرّت بها.

يؤكد العاملون بالحقل الدينيّ على حرمة التحرّش إلا أن بعض النساء يقلنَ: الحديث عن المرأة كعورة من أسباب الآفة

أردتُ من ذلك؛ التنبيه إلى مسألة الطبقة في ذلك؛ فهي محوريّة جداً، وعندما قامت حملات في القاهرة بخروج نساء ورجال رافعين لافتات ضد التحرّش، فإنّ هذه التجمّعات كانت تعبّر عن طبقةٍ بعينها، وهناك طبقات لا مجال لها لأن تقول ما عندها.

هذا من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ أخرى؛ لعب الخطابُ الدينيّ دوراً في مسألة التحرّش بالإدانة، التي رآها نشطاء لا ترقى إلى فعلٍ شيء، ورغم التأكيد الدائم من العاملين في الحقل الدينيّ على حرمة التحرّش، إلا أن بعض النساء حاولن القول إنّ خطابات بعض المشايخ حول المرأة باعتبارها عورة، هو السبب في تحرّش البعض.

اقرأ أيضاً: السعودية تواجه التحرش بنظام جديد.. هذه هي العقوبات

وفي خطوةٍ ممتازة وجريئة، خرج تصريح الأزهر الأخير بتجريم التحرّش بإطلاق دون أيّ سبب؛ إذ إنّنا نجدُ حججاً لدى بعض الرجال، وحتى النساء، أنّ لباس المرأة هو السبب في التحرّش، وهي حجّة رجعيّة؛ إذ تنفي حريّة الفرد في ارتداء ما يريد، في هذه النقطة كان تصريح الأزهر واضحاً، حيث قال: "يؤكد الأزهر الشريف أنّ تجريم التحرش والمتحرِش يجب أن يكون مطلقاً ومجرداً من أي شرط أو سياق، فتبرير التحرش بسلوك أو ملابس الفتاة يعبر عن فهم مغلوط؛ لما في التحرش من اعتداء على خصوصية المرأة وحريتها وكرامتها، فضلاً عما يؤدي إليه انتشار هذه الظاهرة المنكرة من فقدان الإحساس بالأمن، والاعتداء على الأعراض والحرمات".


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية