
عمر البدوي
«على قمة جبل الرحمة آلاف الحجاج، وعند أقدام الجبل تراصت الخيام، وامتدت عبر الوادي. كانت الخيام مختلفة الأحجام، ما بين كبيرة وصغيرة، وأشكالها متنوعة، وفي أعلى كل خيمة راية، علامة لكل جماعة من الحجيج، خيام في خيام على مرمى البصر، ما يقرب من 50 ألف خيمة. هذا المنظر لا يمكن أن تعبِّر عنه الكلمات. الخيام الصغيرة تجنبنا ضوء الشمس المباشر فقط؛ لكنها لا تمنع عنا الحرارة المحرقة، ورغم حرارة الجو الشديدة، فإن المسلمين الحجاج هنا على درجة كبيرة من الإيمان بالله والثقة».
بهذه الكلمات، وصف الأديب والرحالة الياباني تاكيشي سوزوكي، تفاصيل المشهد الإيماني الآسر الذي اجتذبه ودفعه للكتابة عنه قبل نحو 9 عقود، عندما أرخ تفاصيل رحلته إلى مكة المكرمة في عام 1356 للهجرة، الموافق 1938 للميلاد.
يشكِّل كتاب الرحالة والباحث الياباني تاكيشي سوزوكي الذي دخل الإسلام وحمل اسم «الحاج محمد صالح» صورة من صور أدب الرحلات الياباني، لشخصية يابانية اعتنقت الإسلام، بعد أن عاشت بين المسلمين في جزر إندونيسيا عدة سنوات. وقد أدى سوزوكي مناسك الحج 3 مرات، ما بين 1935 و1938. وبعد رحلته الثالثة ألف كتابه «الحج إلى مكة المكرمة» وأصدره باليابانية في عام 1943.
في كتابه، تحدث سوزوكي عن سفره إلى مكة المكرمة بالباخرة من اليابان إلى مصر، مروراً بقناة السويس، ثم وصوله إلى السعودية وأدائه مناسك الحج. ووصف في فصل مستقل لقاءه بالملك عبد العزيز، كما رصد في طيات كتابه ملامح عن الإسلام ومبادئه، وعن مقاصد العبادات في الإسلام، وشرح رؤيته للعادات العربية الأصيلة التي لمسها عن قرب خلال رحلاته الثلاث للمشاعر المقدسة، وعن الرحلة الأخيرة والظروف التي دفعته إلى القيام بها. وركَّز في حديثه على الأمور الجغرافية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والعمرانية.
ويُعد كتاب الباحث الياباني تاكيشي سوزوكي الذي نشر أول مرة في 1943 باللغة اليابانية، ثالث أقدم وثيقة لأدب الرحلات التي كتبها يابانيون قصدوا مكة المكرمة للحج، ونقلها إلى العربية سمير عبد الحميد إبراهيم، وسارة تاكاهاشي، عام 1999، لمكتبة الملك عبد العزيز، بهدف حفظ ما وثقته المذكرات عن طبيعة وتفاصيل الحياة في الأراضي المقدسة عند المسلمين، من وجهة نظر يابانية في ثلاثينات القرن العشرين.
«الأرض المقدسة... أرض أحلامي»
بهذا العنوان الفرعي، يضع الرحالة اسماً لفصل رحلته إلى مكة المكرمة التي بدأت -حسبما دوَّنه- من ميناء مدينة كوبيه اليابانية. وهي مدينة ساحلية عالمية، بمثابة ميناء صغير قبالة خليج مقاطعة أوساكا، لافتاً في كتابه إلى أنه اضطر إلى التحايل من أجل الدخول إلى مصر، بسبب ظروف سياسية متصلة بإقليم منشوريا (شمال شرقي الصين). وبعدها رافق سوزوكي بعثة منشوريا إلى الحج، وركب سفينة من مصر باتجاه السعودية، حتى بلغ البوابة البحرية لمكة المكرمة.
وبعد أن رست سفينته في مدينة جدة الساحلية، انتقل مروراً بمحافظة بحرة إلى الحرم المكي، وهناك استقرت روحه في رحاب المشاعر المقدسة، وبدأ رحلته الإيمانية، محفوفاً بفضاء اجتماعي وإيماني كبير.
ويسرد الباحث الياباني في كتابه المشهد الذي رافق استقبال الحجاج من جميع مشاربهم لإخوانهم المسلمين اليابانيين، وكيف ذابت في تلك اللحظة جميع الفوارق رغم اختلاف خلفياتهم الثقافية والعرقية. وقال: «لقد امتدت الأيدي بالسلام، أيادٍ بيضاء، وأيادٍ سمراء، لم تتوقف الأيدي إلينا بالمصافحة».
ووصف سوزوكي في الكتاب مظاهر احترام الكبير، والتأدب عند الحديث إلى الوالدين، وعن أثر تعاليم الدين الإسلامي في أخلاق الناس عموماً، وعند التواصل فيما بينهم، والتزامهم الدقيق بهذه القيم الحميدة.
كما دوَّن تاكيشي مشاهد من عادات الزواج العربية؛ إذ تيسَّرت له رؤية جوانب من ثقافة وتقاليد الزواج، وكيف يمهر الزوج عروسه بما يتم الاتفاق عليه، بالإضافة إلى استعراض الأثر الذي تركته تضاريس الصحراء في نفوس العرب، وما شكلته في طبيعتهم من نباهة ذهنية وقوة جسمانية وجسارة في مواجهة المشاق والتحديات.
قائد أمة وموحد بلد كبير
بهذه الصورة البديعة التي كتبها الرحالة الياباني في نحو 300 صفحة لرحلته الإيمانية منذ 9 عقود؛ بدأت ملامح العهد السعودي تتضح في مكة المكرمة التي يؤمها ملايين المسلمين سنوياً من أصقاع العالم، ويشهدون في كل رحلة مشهداً جديداً من التطوير والتحسين الذي عرفته قِبلة المسلمين في العهد السعودي.
ووصف الرحالة الياباني في مؤلفه التأثير الذي يتركه الملك عبد العزيز آل سعود في نفس وذهن كل من يلتقيه. وأسهب في الحديث عن شخصيته الفذَّة التي مكنته من تأسيس البلاد وتوحيدها، وجعلت منه قائد أمة، وموحِّد بلد كبير، وأن الخبرة السياسية التي نمت معه منذ صغره انعكست على شخصيته ودوره في بناء كيان سياسي فذٍّ.
ورسم الرحالة الياباني صورة للملك عبد العزيز الذي شاهده عن قرب والتقى به، وقد خصه الملك دون غيره من الحجاج باللقاء أطول وقت ممكن. وكتب عن حياة الملك عبد العزيز الأولى، وعن كفاحه حتى استرد مُلك آبائه، وتمكن من توحيد أجزاء البلاد، وتأسيس المملكة الحديثة. وقال: «جاء الناس للقاء الملك ابن سعود والسلام عليه. كانوا جميعاً في ملابس جميلة، وهم يمثلون مختلف بلاد العالم. وكانت أزياؤهم المختلفة الأشكال والألوان عجيبة جداً بالنسبة لنا؛ لكن يبدو أنها غالية جداً. وتنوعت هذه الأزياء ما بين الأزياء الأفريقية، والأزياء الهندية، والأزياء الإندونيسية، والأزياء الأفغانية، وغيرها. أكثر من 24 وفداً يمثلون أكثر من 24 دولة. يقف هؤلاء الآن في أزيائهم القومية كما لو كنا في معرض للقوميات».
ويضيف في الصفحة 243: «لو لم يظهر ابن سعود إلى عالم الوجود، لما تحققت وحدة الجزيرة العربية حتى اليوم... لا زلت أتذكر ابن سعود بجسمه القوي، وقامته الفارعة، والتعبير الحار الذي يملأ قسمات وجهه. ولا أزال أتذكر سنوات حياته التي تشبه المصباح الياباني الملون الذي يدور مع هبوب الرياح، فيكشف عن كثير من الألوان والأشكال. أحداث النصف الأول من حياته تدور أمامي الآن كما يدور هذا المصباح... إنه الملك ابن سعود العظيم المهيب. والمملكة العربية السعودية بلد مهم جداً لجميع البلدان الإسلامية جغرافياً ودينياً. ويحتل الملك ابن سعود مكانة طيبة في قلوب 400 مليون مسلم. لا يمكن أن أنسى ما حييت أسعد اللحظات التي شاهدت فيها الملك ابن سعود، فهو يمثل عظمة التاريخ».
عن "الشرق الأوسط" اللندنية