كيف نفهم حملات التكفير التي قامت بها بعض الجماعات الأصولية المتشددة، بدعم من عدد من رجال الدين، منذ أواخر السبعينيات وحتى الآن، ضدّ الأقباط والمفكرين والأدباء والفنانين، التي تلتها عمليات اغتيال، أو محاولات، شهدت إهدار للدماء وعنف ضد الأقباط؟ البداية كانت بالتكفير، الذي يعني استباحة الدم، ثم يأتي بعد ذلك فعل تطوعي بقتل من تم تكفيره عن طريق أحد المؤمنين الغيورين على دينهم. ليس التكفير والقتل فعلين مستقلَّين عن بعضهما؛ بل هو فعل واحد يأخذ مرحلتين، أو يمرّ بخطوتين، دائماً ما يكون فعل التكفير فعلاً عمومياً يحدث في المجال العام، وهو المجال العام الذي سيطرت عليه جماعات العنف والتكفير، والتكفير -في حد ذاته- هو محاكمة وإدانة للذي يتعرض للتكفير، ولا يبقى بعد ذلك سوى تنفيذ العقوبة، وهي القتل، ذلك القتل الذي ينظر إليه القاتل على أنّه مشروع تماماً؛ بل على أنّه دفاع عن الدين، والأكثر من ذلك، أنّه فعل إيماني في حدّ ذاته.
التاريخ عندما يعيد نفسه يتّخذ مظهر الملهاة كما قال ماركس لكنّها في الحالة المصرية مهزلة عبثية لاعقلانية
لدينا إذاً؛ فيما يخصّ فعل التكفير الذي يتضمّن استباحة الدم، وتعقبه جريمة قتل، العناصر الآتية: علنية المحاكمة الافتراضية التي تمارس التكفير والإدانة، وتعاطف من الجماهير التابعة لسيطرة جماعات العنف، وسكوت مطبق ولامبالاة من جماهير أخرى متشددة دينياً، واستناد هذه المحاكمة وحكمها بالتكفير على نصوص تراثية تم اعتبارها مقدَّسة، ثم أخيراً فعل القتل نفسه، وفوق كل ذلك عجز الدولة التام عن التدخّل في أية مرحلة من هذه المراحل، لإيقاف القتل المتوقَّع، تجعلني هذه العناصر المترابطة في حملات التكفير التي أعقبتها عمليات اغتيال وعنف ضدّ الأقباط أربط، مع ظاهرة أخرى انتشرت في أوروبا المسيحية، في أواخر العصور الوسطى وطوال عصر النهضة، وهي ظاهرة اضطهاد اليهود والمسلمين في الممالك الإسبانية الناشئة آنذاك، وما صاحب هذا الاضطهاد من عنف جماعي ضد الأقليات اليهودية والمسلمة، وترحيل قسريّ، وعمليات القتل المعروفة بالقتل كفعل إيماني، وفوق كلّ ذلك، محاكم التفتيش التي أعطت شرعية دينية وسياسية لكل هذه الظواهر.
إنّ التاريخ عندما يعيد نفسه، فإنّه -في المرة الثانية- يتّخذ مظهر الملهاة، كما قال ماركس، لكنّها في الحالة المصرية، مهزلة عبثية لاعقلانية؛ لأنّها تحدث في عصر يُفترض فيه أنه ترك العنف الديني وراءه منذ زمن، لكن يبدو أنّنا لازلنا نعيش عصورنا الوسطى.
الحقيقة؛ أنّ أحداث العنف الجماعي والقتل التي شهدتها مصر ضدّ الأقباط، منذ أواخر السبعينيات، وحتى الآن، وضدّ الشيعة في السنوات الأخيرة، وضدّ بعض المفكرين، تقدم مثالاً لحالة تاريخية تكرّر ما كان قد حدث في إسبانيا في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، وهي ظاهرة اضطهاد المسلمين واليهود في المناطق التي استردتها الممالك الإسبانية من السيطرة الإسلامية، وتشابه الحالتين يعطي إحساساً بعبثية الحالة المصرية، نظراً إلى ما كان متعارفاً عليه من ترابط الشعب المصري تاريخياً، وتعايش مكوناته.
إنّ عدد الاعتداءات الطائفية على المسيحيين في مصر، وعدد الكنائس المحروقة والمفجرة والمعتدى عليها، وعدد بيوت الأقباط المعتدى عليها بحجة إقامة كنائس بها، وعدد الضحايا والجرحى الأقباط في هذه الأحداث، والتي هي كلها من فعل جماهير متشددة مسيطر عليها تماماً من جماعات عنف، يجعلنا نقارن الحالة المصرية مع أقرب حالة من حيث الشبه البنيوي، بينهما ومن حيث العناصر المكونة والفاعلة لكلّ حالة، وهي الحالة الإسبانية في الفترة المذكورة.
الممالك الإسبانية التي تصارعت مع الإمارات الإسلامية بالأندلس قدّمت نفسها كممثلة للمسيحية فكان هذا غطاءً سياسياً للعنف
لنعد إذاً، إلى الحالة الإسبانية لنحللها، نظراً لأهميتها في إلقاء أضواء على الحالة المصرية، في أواخر العصور الوسطى وعصر النهضة، لم يكن اضطهاد الأقليات الدينية غير المسيحية سياسة رسمية للممالك الإسبانية آنذاك، مثلما أنّه ليس سياسة رسمية للدولة المصرية حالياً؛ بل كان نابعاً من الجماهير المسيحية التي سيطر عليها رجال الدين، بتوجيه وتحفيز وتحريض واضح؛ بل إنّ السلطات السياسية كانت كثيراً ما تتدخل لإنهاء الاعتداءات الشعبية على الأقليات غير المسيحية، ولحمايتهم من العنف الممارس ضدّهم، تماماً مثلما تفعل السلطات المصرية الآن. وبعد أن انتشر الاضطهاد الشعبي للطوائف اليهودية والمسلمة، وشهدت الممالك الإسبانية أحداث عنف دموي واسع (الشبيه بالاضطهاد الشعبي للأقباط، الذي تعقبه أحداث عنف أيضاً)، تدخلت السلطات الإسبانية، وأخذ تدخلها هذا شكل محاكم التفتيش. كانت محاكم التفتيش قد ظهرت في بداية أمرها في فرنسا وإيطاليا، وصدرت من الكنيسة الكاثوليكية نفسها، بهدف تعقّب الهراطقة والملحدين؛ الذي حدث في إسبانيا بين القرنين الثالث عشر والسابع عشر، وكان إدخال محاكم التفتيش بهدف تقنين اضطهاد الطوائف غير المسيحية، وذلك بسحب حق محاكمة وإدانة وعقاب المخالفين من أيدي رجال الدين وزعماء الشعب الديماغوجيين، وجعله حقاً حصرياً للدولة، وقد كانت الدولة الإسبانية مشاركة بفاعلية في تشكل ظاهرة محاكم التفتيش، ذلك لأنّ السلطات آنذاك كانت تعمل على تخيير المسلمين واليهود بين اعتناق المسيحية أو الرحيل عن الأراضي الإسبانية. وقد قامت أعداد كبيرة منهم بالتنصّر، ومن لم يتنصّر منهم كان مجبراً على الرحيل، وقد سمحت السلطات الإسبانية لليهود بوجود مؤقّت في إسبانيا، يُمكِّنهم من إخلائها بالتدريج، نظراً لأعدادهم الكبيرة، وحددت لهم حداً نهائياً يرحلون بعده تماماً، وهو 1492، والمصادفة أنّه تاريخ اكتشاف أمريكا. (والملاحظ أنّ مصر قد شهدت شيئاً مماثلاً للإخلاء الطائفي؛ أي ترحيل الأقليات الدينية عن مناطق الأغلبية المسلمة، في العامرية بالإسكندرية، وفي العريش، وفي بعض مناطق الصعيد). وكان العديد من اليهود والمسلمين يعلنون التنصّر في الظاهر، ويتمسّكون بديانتهم الأصلية سرّاً، ويمارسون شعائرها في الخفاء. وهنا كانت مهمة محاكم التفتيش مراقبة هؤلاء المتنصرين الجدد، والكشف عمّا إذا كانوا يمارسون شعائر دينهم الأصلي في الخفاء أم لا، وعن طريق هذه السياسة الرسمية للدولة، زاد الاضطهاد الشعبي والديني للطوائف اليهودية والمسلمة، بعد أن أعطت الدولة لهذا الاضطهاد غطاء سياسياً ومبرراً قانونياً.
هل يمكن للدولة التي تناصر ديناً معيناً وتعلنه ديناً رسمياً الوقوف أمام العنف الديني الطائفي؟
والحقيقة أنّ الممالك الإسبانية التي كانت في صراع مع الإمارات الإسلامية في الأندلس، منذ القرن الحادي عشر، التي قدّمت نفسها على أنّها ممثلة للمسيحية، والتي أعلنت أنّ دينها الرسمي هو المسيحية، وأنّها راعية الكنيسة الكاثوليكية بعد أن اتحدت في الدولة الإسبانية الجديدة، كانت هي أكبر مبرَّر، وأشمل وأعمّ غطاء سياسي لممارسة الاضطهاد والعنف ضدّ الطوائف غير المسيحية. فغالباً ما يسفر إعلان الدولة عن دين رسمي عن اضطهاد من لا يدينون به، وكلّ ما نخشاه أن تتخذ الدولة المصرية -بسبب المادة الثانية من الدستور المصري التي تعلن الإسلام ديناً رسمياً للدولة- دوراً جديداً مشابهاً للدور الذي قامت به إسبانيا في الفترة المذكورة.
هل يمكن للدولة التي تناصر ديناً معيناً، وتعلنه ديناً رسمياً، وتناصر مذهباً معيناً داخل هذا الدين، الوقوف أمام العنف الديني الطائفي المتوقَّع دوماً في هذا الإطار؟