في أعقاب الإطاحة بنظام البشير، شرعت حكومة حمدوك في تفكيك بنية المكوّن الإخواني، ودخلت لجنة التفكيك في صراع طويل مع رموز الإخوان، وفي المقابل حاولت الجماعة إشعال الحرائق، وإثارة الاضطرابات لتقويض عمل اللجنة، عبر توظيف المكوّن القبلي والعرقي، وإثارة النعرات، وابتزاز الحكومة لمنع عمل اللجنة.
واتسمت جماعة الإخوان في السودان، منذ تكوينها، بالانقسام والتفكك، وكان الخروج الأكبر لتيار حسن الترابي الذي ظلّ متحدثاً رسمياً، ومهيمناً على القرار الإخواني طوال عقود طويلة، رغم خروجه ومجموعته من الجماعة، فالإخوان في السودان تيار عريض ومنقسم، تجمعه أطر إيديولوجية واحدة، وتفرّقه آليات العمل، والرغبة في القيادة والظهور.
يُذكر أنّه بعد تاريخ طويل من التفكك والانقسام، الذي جرى في صفوف الإخوان في العام 1991، ونتج عنه وجود جناحين للجماعة؛ الجناح الأول باسم الإخوان المسلمين، ويرأسه الشيخ علي جاويش، والثاني باسم الإصلاح برئاسة الشيخ صديق علي البشير، وقد توسّط الداعية الإخواني يوسف القرضاوي، في أعقاب سقوط إخوان مصر العام 2013، وبالفعل أعلن في 16 كانون الثاني (يناير) 2016، عن قرار الوحدة بين الجناحين، وتعيين علي جاويش مراقباً عاماً للجماعة في السودان.
مراقب جديد لجناح مهمّش داخل التنظيم
سرعان ما دبّ الخلاف بين عوض الله حسن سيد أحمد رئيس شورى الإخوان، والشيخ علي جاويش، لينتهي الأمر بقيام مجلس الشورى بعزل جاويش، واختيار الشيخ الحبر يوسف نور الدائم مراقباً عاماً مكلفاً، قبل أن ينتخب المؤتمر العام عوض الله سيد أحمد مراقباً عاماً، بينما رفض جاويش ومجموعته القرار، وكان جاويش قد حلّ مجلس الشورى، وبعد وفاة الأخير انتخب عادل على الله إبراهيم، مراقباً عاماً آخر، لتعود الجماعة إلى الانقسام.
وفي 18 حزيران (يونيو) الماضي، خلف سيف الدين أرباب، عوض الله حسن سيد أحمد، على رئاسة الجناح الأكثر نشاطاً، وأكد أرباب عقب اختياره استمرار جماعة الإخوان المسلمين في الانخراط ضمن التيار الإسلامي العريض، الذي تم تأسيسه مؤخراً، بينما احتفظ جناح عادل على الله إبراهيم، باعتراف الجماعة الأم والتنظيم الدولي.
حاول عوض الله حسن سيد أحمد تصدّر المشهد الإخواني في السودان، عبر ممارسة أنشطة اجتماعية وسياسية متعددة، وكذلك حاول تطوير علاقته بحزب الأمّة، وبالقيادات الفاعلة في المشهد السوداني، وكان شديد الانتقاد لحكومة حمدوك، لكنّه لم يتحمس لانقلاب البرهان في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي.
علي كرتي كان أبرز نشطاء التيار الإسلامي في الجامعة وهو محسوب على الجناح القطبي في جماعة الإخوان المسلمين
ويبدو سيف الدين أرباب الأكثر قدرة على النفاذ داخل دوائر صنع القرار، وسبق أن شغل مناصب قيادية، وفي العام 2017 اعترف أرباب بوجود مشاكل تعاني منها الجماعة، وقال إنّ أسبابها داخلية، لكن توجد جهات خارجية تغذّيها، وأكّد أرباب أنّ جماعته أقرّت مبدأ المشاركة في حكومة الوفاق الوطني، لكنّها ستتجه للتركيز على المستوى البرلماني والمجالس التشريعية بالولايات، وستقلل من حجم المشاركة على الصعيد التنفيذي.
ويُعتبر أرباب من التيار الإصلاحي داخل الجماعة، والأكثر ممارسة للعمل السياسي، وكان ضمن مجموعة عوض الله سيد أحمد التي تمردت على الشيخ علي جاويش، ويحسبه البعض على التيار الذي يميل لأفكار حسن البنا، وهو سياسي حركي، بعكس عادل على الله إبراهيم، الذي يميل إلى تكثيف استخدام الخطاب الديني، والظهور بمظهر الداعية، ويرتبط أرباب بعلاقات قوية بحزب التحرير الإسلامي، وتشير تقارير إلى قربه من البرهان والمكوّن العسكري، وكان أكثر المنتقدين لحكومة حمدوك، وملف التطبيع مع إسرائيل، وكذلك القوانين العلمانية.
بارون الحديد والإسمنت يعود إلى المشهد
على إثر التغييرات الإدارية داخل الجماعة، وفي ظهور مفاجئ على الساحة، تزامن مع عودة عدد من رموز الإخوان إلى مواقعهم، بثت قناة "طيبة"، التابعة لجماعة الإخوان المسلمين، التي يديرها عبد الحي يوسف من تركيا، حواراً مع القيادي الإخواني وزير الخارجية السابق علي كرتي، الأمر الذي رأى فيه مراقبون تمهيداً لعودة الجماعة إلى العمل من الداخل بشكل علني، بعد انقلاب 25 تشرين الأول (أكتوبر)؛ خاصّة مع تجميد عمل لجنة التفكيك.
ظهر كرتي بغطاء ديني من إطلاق اللحية والعمامة والجلباب الأبيضين، واستبق المحاور اسمه بلقب الشيخ، وفي اللقاء هاجم تجربة حكومة الثورة بقيادة حمدوك، واتهمها بالفساد وإفساد أخلاق الناس.
لكنّ الأبرز في اللقاء الأخير لكرتي هو لهجته الجديدة تجاه المكوّن العسكري، في ظلّ تقارير تؤكد سماح الأخير بعودة الإخوان لمواقعهم في السلطة مجدداً، وردّ الأموال المصادرة إليهم، وممارسة نشاطهم علناً، وقال كرتي: إنّ انقلاب البرهان تأخر كثيراً، كما كشف عن نفوذ الإخوان داخل البلاد، قائلاً إنّه على الرغم من كونه لم يكن "يشغل منصباً في الجماعة أو الحكومة، ولكنّه كان بمكالمة واحدة تأتيه كل التقارير".
في العام 2017 اعترف أرباب بوجود مشاكل تعاني منها الجماعة، وقال إنّ أسبابها داخلية، لكن توجد جهات خارجية تغذيها
جدير بالذكر أنّ كرتي كان أبرز نشطاء التيار الإسلامي في الجامعة، وهو محسوب على الجناح القطبي في جماعة الإخوان المسلمين. اشتغل فترة بالمحاماة، قبل أن ينخرط في صفوف الأذرع الإخوانية، ويقدّم خدماته لنظام البشير؛ حيث عمل منسقاً لقوات الدفاع الشعبي في التسعينيات، ثم وزيراً بوزارة العدل، ووزير دولة بوزارة الخارجية، ومن ثم وزيراً للخارجية. وهو أيضاً رجل أعمال سوداني بارز، واشترى سابقاً فندق الصداقة في الخرطوم مقابل (85) مليون دولار، وهو تاجر إسمنت وصلب، وأحد أبرز بارونات عهد البشير.
في 21 تمّوز (يوليو) 2011، أجرت معه صحيفة "الشرق الأوسط" حواراً، وكان يشغل منصب وزارة الخارجية، وعندما سُئل عن قضايا الفساد، واحتكاره لتجارة الإسمنت، ردّ قائلاً: "الثراء ليس تهمة أنفيها، وآمل أن يزيدني الله ثراء"، على الرغم من أنّ القانون السوداني كان يمنع شاغلي المناصب الدستورية من الجمع بين المنصب العام وإدارة أعمال تجارية خاصّة.
محمد رشاد: ليس هناك أمل في عودة الإخوان نتيجة للخلافات التي تضرب التنظيم من الداخل، وكذلك الغضب الشعبي من كلّ ما هو إخواني
في 17 آذار (مارس) العام 2020 أمرت النيابة السودانية بالقبض عليه؛ لدوره في انقلاب العام 1989 الذي أوصل عمر البشير إلى السلطة، وقالت في بيان إنّه سيتم تجميد أصوله، وبالفعل قامت لجنة إزالة التمكين بنزع أكثر من (500) قطعة أرض في ولاية الخرطوم من كرتي.
اللواء محمد رشاد، وكيل جهاز المخابرات العامة المصرية سابقاً، خصّ "حفريات" بتصريحات، قلل فيها من فرص عودة الإخوان إلى الحكم في السودان، ذلك أنّ الشعب اختبر وجودهم لـ (3) عقود، قبل أن تفجّر الثورة الأعمدة الشعبية التي قامت عليها الجماعة؛ وبالتالي ليس هناك أمل في العودة، نتيجة للخلافات التي تضرب التنظيم من الداخل، وكذلك الغضب الشعبي من كلّ ما هو إخواني، كما استبعد أن يمنحهم المكوّن العسكري أيّ أدوار مستقبلية؛ لأنّ القيادة السودانية تراعي جداً علاقاتها بمصر، وضرورة التنسيق معها فيما يخص ملفات الأمن القومي، كما أنّ التقارير الواردة بشأن تسليم مطلوبين لمصر، اقترفوا جرائم إرهابية، تدحض وجهة النظر التي تقول بوجود تحالف بين المكوّن العسكري والإخوان.
ويلفت رشاد إلى أنّ دور الإخوان وظيفي بحت ومرحلي، والجميع يبحث عن الوصول إلى معدل صفر مشكلات، نظراً للأزمة الاقتصادية العالمية، جرّاء وباء كورونا، والحرب الروسية الأوكرانية، وبالتالي أصبحت الجماعة عبئاً على الجميع، والجميع يريد التخلص منها، لبناء نظام إقليمي جديد، قائم على التعاون لا التنافر والصراع.
مواضيع ذات صلة:
- الإخفاق السياسي يطارد السودانيين: حوار الآلية الثلاثية مثالاً