نظام الرؤوس المتعددة يفضي إلى أزمة حادة في تونس

نظام الرؤوس المتعددة يفضي إلى أزمة حادة في تونس


07/11/2018

مختار الدبابي

خرجت الأزمة السياسية التي تعيشها تونس من دائرة “الحرب الباردة” بين رأسيْ السلطة، إلى الحرب المعلنة لتصبح أزمة دستورية وقانونية تلقي بظلالها على الوضع الاجتماعي والاقتصادي الصعب، وذلك بعد أن قالت الدوائر المحيطة برئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي إنه لم يعلم بتفاصيل التعديل الحكومي الذي أعلنه الاثنين رئيس الحكومة يوسف الشاهد، ولم تتم استشارته، ولذلك رفض التصديق عليه وقد لا يحتضن قصر قرطاج موكب أداء اليمين الدستورية بالنسبة إلى الوزراء والمسؤولين السامين الجدد.

وبقطع النظر عن صلاحيات رئيس الحكومة الدستورية، وهل من حقه الإعلان عن تعديل وزاري دون استشارة رئيس الجمهورية من عدمها، فإن هناك انطباعاً عاماً في الساحة السياسية بأن الأزمة تتجاوز الصلاحيات، لتعكس توتراً بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة انتهى إلى قطيعة نهائية الاثنين بعد إعلان يوسف الشاهد عن تشكيلته الحكومية الجديدة.

ويحاجج البعض بأن الخلاف بين رأسيْ السلطة ليس جديداً، وقد حصل أكثر من مرة في دول أوروبية مختلفة، لكن الأمر هنا مختلف تماماً، فتونس تعيش حالة مرتبكة من الانتقال الديمقراطي، ويمكن أن يتحول هذا الصراع الحاد إلى مبرر قوي لانتكاسة هذا الانتقال، وإشاعة مناخ من التشاؤم تجاهه، وكان الجانب السياسي النقطة المضيئة في هذا الانتقال بالرغم من المآخذ الكثيرة على العملية السياسية وصورة السياسيين في أذهان الناس.

وتقول أوساط سياسية تونسية إن الاحتراز على التعديل الأخير ليوسف الشاهد ليس من جانب فرض حقه الدستوري في تعديل حكومته بالشكل الذي يريد، ولكن في ما وراء الأكمة، ذلك أن التسريبات المختلفة تؤكد أن رئيس الحكومة اختار أن يعمل باستقلالية تامة عن رئيس الجمهورية كنتيجة لمآلات الصراع داخل حزب نداء تونس، الذي هو قانونياً وسياسياً الحزب الحاكم الذي رشّح الشاهد للحكومة ودعمه.

لكن الباجي قائد السبسي، هنا، ليس مجرد رئيس جمهورية، أو رئيس حزب حاكم، يمكن الاختلاف معه وتجاوزه والبحث عن تحالفات بعيدة عنه، فالسبسي هو إحدى الضمانات المحورية، إن لم يكن الضامن الوحيد، الذي يقف وراء نجاح الانتقال الديمقراطي بعلاقاته الوازنة محليا وخارجيا، ومن المنطقي أن يكون له رأي ودور في أي تشكيل حكومي حتى وإن كان القانون يجيز لنا أن نتجاوزه، وحتى إن التبس موقفه وتقييمه وانحيازه في الخلاف السياسي إلى جانب نجله حافظ قائد السبسي الذي يقف، بشكل مباشر، وراء الهوة بين رأسيْ السلطة.

ووصف قياديون في حركة نداء تونس التعديل الوزاري بالانقلاب على رئيس الجمهورية خاصة وأنه لم يتم استشارته. ومن الواضح أن الحكومة المعدلة التي أعلن عنها الشاهد ستكون دون غطاء سياسي خاصة على المستوى الخارجي، وأنها ستجد نفسها خارجياً محصورة في الدائرة الضيقة التي يوفرها وجود حركة النهضة داخلها، تماما مثل حكومة الترويكا التي حكمت البلاد بين 2012 و2013. وأعتقد أن هذه ستكون إحدى المشاكل الصعبة التي تواجه حكومة الشاهد المحاصرة بالمشاكل والأزمات.

صحيح أن الشاهد، التكنوقراط، قد نجح في الحصول على دعم المؤسسات المالية الدولية لإصلاحاته الاقتصادية، وبعض الدول الأوروبية الداعمة للانتقال الديمقراطي على أمل أن توفر التجربة التونسية نموذجاً يمكن الاعتماد عليه لدعم تسويات سياسية في ليبيا وسوريا توفر حزاما آمنا لأوروبا من جانب الحرب على الإرهاب والمعركة الطويلة مع الهجرة غير القانونية مقابل دعم اقتصادي ومالي محدود يساعد على تركيز السلطة واستقرارها.

لكن المشكل، هنا أكبر، ذلك أن الدعم الذي تلقته حكومة الشاهد ليس لذاتها، وإنما هو دعم لشكل من الانتقال السياسي نجح السبسي بخبرته في توليفه والإقناع به عربياً وأوروبياً ولدى الولايات المتحدة، ويقوم أساسا على احتواء الإسلاميين ودفعهم إلى تقديم التنازلات الضرورية للمشاركة في حكومة جامعة لمختلف أنواع الطيف السياسي.

ويبدو أن النتيجة لم تنجح تماما، وعلى العكس فقد انتكست سريعاً خاصة بعد أن نفض السبسي يده من التحالف مع حركة النهضة، وهو ما يعني آليا أن الرئيس التونسي لم يعد ضامنا لـ”تمدين” الإسلاميين ودفعهم إلى مغادرة مربع الأخونة والسيطرة على مؤسسات الدولة. وكان لفك هذا التحالف صدى سريع خارجياً كشفت عنه تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون حين أعلن أن بلاده تقف مع نظيره التونسي في مواجهة الظلاميين.

وقال ماكرون في قمة الفرنكوفونية في أرمينيا منذ أيام أن السبسي تحدى الجميع وقام بإصلاحات داعمة لحقوق المرأة مثل الحق في حرية الزواج والحق في الميراث، مضيفا “في حين قال الظلاميون لا للقيام بهذه الإصلاحات تحداهم السبسي دون خوف، لقد فعلها وعلينا أن ندعمه في هذه المعركة”. وفُهم الكلام على أنه موجّه لحركة النهضة، وأنه نتيجة مباشرة لتوقف تجربة التحالف مع السبسي الذي حسّن من صورة الحركة خارجيا وفتح باب التعاطي الدولي معها، وهو تعاط لم يصل إلى درجة الاعتراف وكان إلى حد كبير مشروطاً بضمانات السبسي شخصياً.

ومثلما أن الدعم الخارجي للحكومة الجديدة مثار شك وانتظار، فإن الدعم الداخلي بدوره مثار جدل كبير وسط اتهامات صريحة من شخصيات سياسية مختلفة بأن الحكومة في ظاهرها حكومة الشاهد، لكنها في الواقع حكومة النهضة التي تحتمي بها لمواجهة آثار فك ارتباطها بالسبسي من جهة، ومن القضايا القانونية المرفوعة بشأن اتهامات عن صلة مفترضة لها بقضايا الاغتيال السياسي وتسفير الجهاديين إلى بؤر التوتر، في فترة حكمها بين 2012 و2013.

ويقول متابعون للشأن التونسي إن الحكومة بلا سند حزبي حقيقي عدا حركة النهضة، وأن الأحزاب والكتل النيابية التي حصلت على حقائب وزارية في الحكومة الجديدة أغلبها مجموعات صغيرة ودون سند شعبي، وهو ما كشفت عنه الانتخابات البلدية خاصة ما تعلق بحركة مشروع تونس أو حزب المبادرة، فضلاً أن نواب الكتل الداعمة لهذه المجموعات وصلوا إلى البرلمان من بوابة نداء تونس، ومن الصعب أن يتم انتخابها في البرلمان القادم تحت أي غطاء جديد، وكان الأولى سياسياً وأخلاقياً أن يكون لحزب نداء تونس الدور الأهم في أي تشكيل حكومي وليس للمنشقين عنه.

والمثير أن الأزمة العميقة التي خلّفها التعديل الوزاري لا تتعلق بحكومة طويلة الآجال، بل لحكومة سيكون دورها التحضير للانتخابات الرئاسية والتشريعية المقررة العام القادم، وهي بالتالي أقرب إلى حكومة تصريف الأعمال منها لحكومة ذات برامج وخطط استراتيجية. لكن مثار الجدل الحقيقي هو البحث عن حكومة "محايدة" يكون دورها الإشراف على التحضير اللوجستي للانتخابات وخلق المناخ الأمني والسياسي الملائم لإجرائها على أن تستقيل آلياً، وهو أمر في غاية الغموض خاصة أن رئيس الحكومة يوسف الشاهد يتكتم على أمر ترشحه للانتخابات الرئاسية القادمة، وسط تسريبات وتوقعات بأنه سيترشح مدعوماً من الحزب الجديد الذي يجري الحديث عن تكوينه قريباً.

وسواء نجح الشاهد في الحصول على الأغلبية في البرلمان أم لم يحصل، فإن الأزمة مع السبسي ومع نداء تونس ستترك تأثيرات سلبية على الانتقال الديمقراطي، وستزيد من حالة الشك والارتباك بين الطبقة السياسية وفي الشارع، وستكون عنصراً فارقاً في اتساع الطبقة الصامتة وبناء حاجز سميك بين السياسيين والناس، فضلاً عن فشل النظام السياسي الهجين الذي يوزع الصلاحيات يشكل يمنع أي سلطة من أداء دورها، ويفرض سلطة برؤوس متعددة.

عن "العرب" اللندنية


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية