لا يمكن أن نفكّر في مواجهة شاملة لتصورات وتنظيمات ما يسمّى "الإسلام السياسي"، بعيداً عن إمعان النظر، والتدبّر مليّاً في ثلاث سمات له، يجب أن تؤخذ في الاعتبار، حال تقييم وجوده ودوره وأفكاره، وأنماط تصرفاته المتكررة، ألا وهي:
1 ـ تعدّ الجماعات والتنظيمات التي توظّف الإسلام كأيديولوجيا في سبيل تحصيل السلطة والثروة، هي الظاهرة الأكثر توالداً وانشطاراً من بين الحركات السياسية والاجتماعية الحديثة والمعاصرة، وربّما تفوّق في ذلك بكثير التنظيمات الشيوعية التي كانت تعاني من الانقسام الدائم على نفسها، وطالما أدّى هذا إلى إضعافها.
لا تكاد تظهر جماعة دينية سياسية، حتى يدبّ الخلاف بين أجنحتها وأفرادها، بسبب الصّراع حول المنافع
فلا تكاد تظهر جماعة دينية سياسية، حتى يدبّ الخلاف بين أجنحتها وأفرادها، بسبب الصّراع حول المنافع، أو بفعل تباين وجهات النظر حول مقولات وآراء فقهية، أو تفاسير لآيات وأحاديث، أو تقدير لمواقف تاريخية صنعها الأوّلون، أو لاختراق الأجهزة الأمنية لها، وتجنيد بعض عناصرها، ودفعهم إلى إثارة الشّقاق في صفوفها بغية كسر شوكتها، وتتمكّن هذه الأجهزة، أحياناً، من القبض على قيادات كبرى ممكسة بدفّة الأمور داخل التنظيم فيتصدّع بغيابها. وقد يكون سبب الانقسام طمع بعض قيادات التنظيمات في التصعيد بين صفوفها، وحقدها على الممسكين بالزمام، والمتحكمين في القرار، أو للتغيرات التي تطرأ على السياق الاجتماعي السياسي، الذي يحيط بهذه التنظيمات، ويضغط عليها من كلّ جانب، وبلا هوادة.
لكلّ هذه الأسباب، تتشظى هذه الجماعات والتنظيمات، وتصير مجموعات صغيرة، بعضها يذوب ويختفي، وبعضها يفقد الفاعلية بمرور الوقت، لكنّ هذا التشظّي لا يمنع من أمرين هما: اتجاه بعض هذه الجماعات الصغيرة إلى التحالف، ولو مؤقتاً، أو التنسيق بينها في العمليات الإرهابية.
أما الاتجاه الثاني فتحوّل هذه الجماعات إلى أخرى تحمل اسماً جديداً، وقد تعدل من بعض أفكارها وتدابيرها، ويمكن أن تغير قياداتها أو تدفع بآخرين إلى صفوف القيادة.
هناك دوماً من يوظّف الدين في الصراع السياسي فيطلق فكرة تتمكن من جذب أتباع يدافعون عنها
2 ـ يبدو "الإسلام السياسي" مثل مرض السكريّ، لا يرجى منه شفاء، لكن يمكن التّحكم فيه، وتقليل أخطاره. وقد تكون هذه غاية ما يمكن الوصول إليه حال تبنّي إستراتيجية لتفكيكه، أو تقليم أظافره، وخلع أنيابه الحادّة، فطيلة تاريخ المسلمين، هناك دوماً من يوظّف الدين في الصراع السياسي، فيطلق فكرة تتمكن، مهما كانت درجة تهافتها أو تناقضها، من أن تجذب إليها أتباعاً يدافعون عنها، ويعملون من أجل تحقيقها على أرض الواقع. ولا تخلو حقبة زمنية من هذا التاريخ من ظهور تلك الجماعات، حتى لو لم يكن المؤرخون قد انتبهوا إليها، وسجلوا يومياتها.
3 ـ تستفيد هذه الجماعات والتنظيمات من الاتكاء على حضور الدين في المجال العام من ناحية، ومن الجهد الذي بذلته في سبيل بناء مجتمعها العميق من ناحية أخرى. وهذا يعطيها منعة حيال أيّة محاولات لتفكيكها، فطالما أطلق "الإسلام السياسي" خطاباً في وجه من يتصدّون له، باتهامهم بأنّهم يريدون النيل من الإسلام نفسه، أو يريدون إيذاء الأفراد والأسر التي تستفيد من برامج النّفع العام التي تتبناها هذه الجماعات.
في ضوء الملاحظات، سالفة الذّكر، يمكن النظر إلى مسألة تفكيك "الإسلام السياسي" من ثلاث زوايا:
أولاًـ دحض الأفكار: وهذه مهمّة ليست عويصة، إن استعمل مواجهو خطاب الإسلام السياسي التفكير العلمي، ونشروه على نطاق واسع، عبر مدارس التعليم ومؤسسات التثقيف والإعلام. فخطاب هذه الجماعات ينطوي على عيوب جسيمة، فهو بالأساس خطاب عاطفي، بوسعه أن يعبّئ الجماهير، ويحشدها سريعاً، لكنّه لا يستقر في الروؤس طويلاً، إلّا إن كانت خاوية، أو لا تمتلك القدرة على النقد، أو تتعرض لخطاب آخر مغاير، كما أنّه خطاب تقليدي، لغته عتيقة في الغالب الأعم، ومسار برهنته ذو طبيعة تاريخية، تبدو مجافية لواقعنا المعيش في كثير من المواقف والمواضع، كما أنّه خطاب متناقض، نظراً إلى اختلاف مشارب وأهواء الجماعات التي تنتجه، وتضارب الروايات التاريخية التي يعتمد عليها، وتقلّبه حسب مصالح هذه الجماعات، التي تجعلها أحياناً تُظهر عكس ما تبطن، وتُبدي غير ما تخفي.
وإذا كنت قد شرحت سابقاً أسباب تجنيد الإخوان وغيرهم، لطلبة الكليات العلمية، فإنني هنا، في مجال دحض الأفكار، أرى ضرورة إدخال مواد محددة للعلوم الإنسانية على طلبة الكليات العملية، فيما تدخل دراسات علمية إلى مساقات تعليم العلوم الاجتماعية، وقبل كل هذا؛ تغيير مناهج التعليم، لتقوم على ترسيخ أسس "التفكير العلمي"، فمثل هذا هو حائط الصدّ الأساسي أمام اصطياد الجماعات المتطرفة لطلبة الطّبّ والهندسة والعلوم، على وجه الخصوص.
خطاب هذه الجماعات ينطوي على عيوب جسيمة فهو خطاب عاطفي يحشد الجماهير سريعاً لكنّه لا يستقر في الروؤس
فإذا كانت هناك نسبة من طلبة وخريجي هذه الكليات، قد انضمت إلى تنظيمات "الإسلام السياسي"، وباتت تشكّل الجزء الأكبر منها، فإنّ الأغلبية رزقت عوامل حمتها من الانجرار إلى هذا الطّريق، وعلينا أن نبحث في الاتجاه المضادّ، عما يتعلق بالتعليم والتثقيف من هذه العوامل، ونعزّزه.
ثانياًـ تحجيم الأدوار: وهذا يتطلّب سدّ الثغرات التي تنفذ منها التنظيمات والجماعات الدينية المسيّسة إلى أعماق المجتمع، من خلال تطبيبها لعوز النّاس، سيما مع تراجع دور الدولة في تقديم الخدمات للمواطنين، واتساع الهوّة بين الطبقات، والنقص الكبير في احتياجات الناس الأساسية، من غذاءٍ وكساءٍ ودواءٍ وإيواءٍ، فهذا التراجع ساهم، إلى حدٍّ بالغٍ، في تمدّد "الإسلام السياسي"، مستغلّاً توظيف إمكاناته في العمل الخيري والنّفع العام، وعلى رأسها الوفورات المالية والشبكات الاجتماعية والمؤسسات الدينية، في جذب قطاعات عريضة من الناس إليه، وربطه بهم، ودفعهم إلى الالتفاف حوله.
وهذا التحجيم يحتاج إلى عدة إجراءات أساسية، يمكن ذكرها على النحو الآتي:
أ ـ المشروع الوطني: فأي مشروع وطني متماسك، يصلح لبناء دولة وطنية مدنية حديثة، من شأنه أن يطوّق مشروع هذه الجماعات، الذي اعتمد بشكل رئيس على غياب المشروعات الأخرى المنافسة أو تصدّعها، فبدأ يسوّق دعايته التي تحاول إيهام الناس بأنّ هذا التيار يمتلك الوعد والأمل والحلّ، وأن الآخرين قد أفلسوا، وعليهم أن يتنحّوا جانباً، ويتركوا له الفرصة لقيادة المجتمعات العربية والإسلامية.
ب ـ الدور الرعائي: ويعني عودة الدولة، ومعها المجتمع المدني الحديث، إلى أداء دورهما في الاستجابة لمطالب الناس الأساسية، وتلبية احتياجاتهم الضرورية، بما يغنيهم عن طلب هذا لدى جماعات "الإسلام السياسي".
ج ـ الدور الخيري منزوع السياسة: وكل ما سبق لا يعني منع الجمعيات الأهلية الإسلامية من أداء دورها في النفع العام، الذي يقوم على النزوع الديني إلى التراحم والتكافل، ولكن عدم السماح لها، من خلال القانون، بأن تستغلّ إمكاناتها في هذه الناحية في تعبئة الناس سياسيّاً. فالتجربة تقول بوضوح: إنّ هذا التيار قد استغلّ بنيته الأساسية، التي كوّنها في المدارس والمستوصفات والمتاجر، لدفع الناس كي يلتفّوا حوله، ويدافعوا عنه، ويشكّلوا بيئة حاضنة له، ويصوّتوا لصالحه في الانتخابات، ويعوّلوا عليه في انتشالهم من الأوضاع الصعبة التي يعيشونها.
الإسلام السياسي اقتات على فشل الآخرين واستفاد من انغلاق المجال العام وتراجع الدّور الرعائي للدول
ثالثا ـ إطلاق الحوار: فالتجربة تقول بجلاءٍ، إنّ أتباع هذا التيار يتمسّكون به أكثر، كلّما شعروا بأنّ هناك من يعلن الحرب عليهم، فوقتها يظنون أنّ ما لديهم ثمين، لدرجة أنّ هناك من يقاتلهم عليه، ويلوذون بجماعاتهم أكثر كي تحميهم، فتؤوي المطاردين، وتعول أسر المسجونين، وتتفنّن في ابتكار الأساليب التي تمكّنها من مواصلة طرح خطابها على النخب وعموم الناس، والتحايل في مواجهة من يقصدون تحجيمها. أما الحوار؛ فقد أدّى، في بعض التجارب، إلى انفضاض كثيرين من الأتباع عن تنظيماتهم، بعد أن اهتز في رؤوسهم اليقين الزائف، وأدركوا خطأ أفكارهم، وعدم صواب قياداتهم، طيلة الوقت وفي كلّ المواقف، كما يزعمون.
لكنّ الحوار لا يجب أن يجري بلا ترتيب أو تخطيط؛ إنّما وفق خطة واضحة المعالم، ينهض بها علماء من كافة التخصصات، وتتوفر لها كافة الإمكانات، ولا يجب أن تقتصر على السلطة، إنما يسهم فيها المجتمع المدني والمفكّرون المستقلون، وتتم من خلال آليات متعددة، سواء كانت مباشرة، عبر مناقشة أتباع "الإسلام السياسي" وجهاً لوجه، أو عبر الكتب والبرامج المتلفزة، ومؤسسات التعليم والتثقيف، ...إلخ.
إنّ "الإسلام السياسي" قد اقتات على فشل الآخرين، واستفاد من انغلاق المجال العام، وتراجع الدّور الرعائي للدول، ووجود مؤسسات خيرية ودعويّة له، تتمدّد باستمرار، في الحفاظ على وجوده، وتعزيز نفوذه، وطرح نفسه باعتباره بديلاً؛ بل منقذاً، ولا سبيل إلى تفكيك هذا التصوّر، أو على الأقل تحجيمه، إلّا من خلال تبنّي إستراتيجية ترمي إلى منعه من أن يكون على الهيئة التي ظهر ويظهر عليها.