
لطالما وظفت القوى الإسلاموية القضايا الحقوقية لصالحها، بينما عمدت إلى تطويع المبادئ والقيم، لا سيّما الليبرالية والعلمانية بالغرب، بما يخدم أهدافها السياسية والإيدولوجية. ذلك ما يمكن رصده وتتبعه من خلال التناقضات المختلفة لهذه القوى في إدارتها وتعاطيها مع مسألة الحقوق والحريات، إذ إنّها تضع حواجز صلبة بمقولات دينية إكراهية لعدم تخطي تصوراتهم المسيسة، سواء بخصوص الجسد والملابس أو الأفكار، وغيرها من الأمور. ورغم ذلك تقوم بإدارة تلفيقية لهذه القضايا الجدلية من موقع تبنّيها البراغماتي للتعددية والاحتماء بالقوانين في النظم الديمقراطية المدنية الحديثة، وتصرّ على استعمالها لتراكم نفوذها، كما هو الحال مع قضية الحجاب في فرنسا.
قضية الحجاب تثير الجدل من جديد
تعاود قضية الحجاب إثارة الجدل في فرنسا بين الحين والآخر، وتخضع لاستقطابات جمّة بين القوى السياسية المختلفة الفرنسية، فضلاً عن النزاعات العنيفة التي تخوضها تيارات الإسلام السياسي، سواء من ناحية قانونية وتشريعية، أو حقوقية وسياسية. فيما اتخذت فرنسا خطوة جديدة بخصوص موقفها القائم على حظر الرموز والملابس التي تعكس الانتماء الديني، إذ صرّح وزير الداخلية الفرنسي برونو ريتيلو، الثلاثاء الماضي، أنّه يعتزم فرض حظر على ارتداء الحجاب في الجامعات، وأشار أثناء استضافته على قناة RMC إلى وجود "إسلاموية لا تتوافق مع المعتقدات الإسلامية التقليدية".
وتابع: "هناك إسلاموية تحاول فرض رايتها وقيمها الخاصة، برأيي أنّ هذه قيم تضع مكانة المرأة في مرتبة أدنى من مكانة الرجل"، ولفت الوزير إلى أنّ المواطنين المسلمين ينبغي ألّا يأخذوا كلامه على محمل شخصي، مضيفًا بالقول: "الإسلام السياسي يشوّه إيمان المسلمين".
وقد باشرت فرنسا منذ عهد الرئيس جاك شيراك في تدشين مشروع قانون لجهة حظر الرموز والملابس التي تُعبّر عن الانتماءات أو الهويات الدينية، الأمر الذي يرتبط بـ "الجمهورية الفرنسية" وتعزيز الانتماء لها، وقد نص البند الأول من مشروع القانون الصادر عام 2004 على أنّ "الرموز والملابس التي تُعبّر بشكل ظاهر عن الانتماء الديني للطلاب ممنوعة في المدارس والمعاهد العامة".
وتوضح حيثيات القانون الرموز الدينية، وهي "العلامات والملابس التي يؤدي ارتداؤها إلى التعرف الفوري على انتماء صاحبها الديني"، ومنها الحجاب الإسلامي، أيًا كان الاسم المعطى له، أو القلنسوة، أو الصليب ذو الحجم المبالغ به". وفي ذلك التوقيت عمدت قوى إسلاموية إلى تهييج وتعبئة الرأي العام في أوساط الجاليات العربية المسلمة، وحثهم على الاحتجاج، وزعم رئيس اتحاد المنظمات الإسلامية الفرنسية الحاج تهامي بريزي، وقتذاك، أنّ القانون يقصد استهداف المسلمين، رغم ما يتضمنه القانون من حظر للحجاب والصليب للمسيحيين والقلنسوة لليهود، وبرر مزاعمه بأنّه لا توجد غالبية تضع هذه الرموز غير الإسلامية بالمدارس الحكومية.
وسارع الاتحاد إلى إصدار فتوى لمجلس العلماء الإسلاميين الأوروبيين تقول: إنّ "إجبار امرأة مسلمة على خلع حجابها الذي يُعبّر عن قناعتها الدينية وحرية الاختيار يُعتبر أسوأ قمع يمكن أن تعاني منه المرأة".
استقطابات عنيفة
بالتالي؛ ظل القانون بتبعاته يبعث بجدالات واستقطابات عنيفة، لا سيّما مع تصاعد الإسلام السياسي في أوروبا واحتجاجاته المختلفة، وبعضها المرتبط بحوادث إقليمية منها حرب غزة. وقبل فترة وجيزة تسبب إعلان ترويجي لعلامة الأزياء الهولندية المحتشمة "Merrachi"، في أزمة وصخب شديدين، على خلفية فيديو يظهر برج إيفل الشهير مرتدياً الحجاب. الإعلان كان أحد الوسائط الذي يتم الاعتماد عليها لتأييد أو الترويج لمسألة الحجاب، ومقاومة القانون الفرنسي، حيث نشرت العلامة التجارية على حسابها في موقع التواصل الاجتماعي (إنستغرام): "رُصد برج إيفل مرتديًا مرّاشي، ما شاء الله! يبدو أنّه انضم للتو إلى مجتمع الأزياء المحتشمة".
وعقبت النائبة الفرنسية عن حزب التجمع الوطني اليميني، ليزيت بوليت، بأنّ الإعلان يحمل إساءة إلى "القيم والتراث الديمقراطي لفرنسا". ووصف النائب عن الحزب ذاته جيروم بويسون الأمر بأنّه "مشروع سياسي مرعب واستفزاز غير مقبول".
إلى ذلك، طالب النائب الفرنسي سيباستيان تشينو بتوسيع القانون الصادر عام 2004 الذي يحظر ارتداء الحجاب في المدارس ليشمل الشركات والمباني العامة والإدارات والجامعات. وقال النائب في لقاء تليفزيوني قبل نحو شهر: "نريد أن ندفع الحجاب تدريجيًا إلى الوراء في الأماكن العامة، ونأمل في نهاية المطاف أن نتمكن من القضاء عليه من مجتمعنا". وزعم البرلماني، على وجه الخصوص، أنّ الحجاب هو علامة على الاحتجاز، ودونية المرأة، وأداة لترويج الإسلاموية. وتابع: "في جمهورية علمانية مثل جمهوريتنا، لا يتعين علينا أن نتحمل ذلك". كما صرح رئيس الجبهة الوطنية، جوردان بارديلا، أنّ حظر النقاب والحجاب في الشارع كان هدفًا طويل الأمد. ولكنّه أقر بأنّ هذا لن يحدث بين عشية وضحاها، لأنّ التطبيق معقد.
في النصف الثاني من شباط (فبراير) وافق مجلس الشيوخ الفرنسي "الغرفة الأولى في البرلمان الفرنسي"، على مشروع قانون يهدف إلى حظر الحجاب في المنافسات الرياضية، بأغلبية (210) أصوات مقابل رفض (81) عضواً، وامتناع (38) عضواً عن التصويت، ولم يشارك (19) عضواً في التصويت. ويتضمن مشروع القانون، الذي قدّمه إلى مجلس الشيوخ السيناتور ميشيل سافين من حزب الجمهوريين، حظرًا أيضًا على صلاة الجماعة بالأماكن الرياضية العامة. وشهد المجلس توترًا بين أعضاء مجلس الشيوخ أثناء مناقشة مشروع القانون، الذي من شأنه أيضًا حظر الرموز والملابس الدينية، مثل "البوركيني"، في أحواض السباحة العامة.
الحجاب في حقل الصراع بين اليسار واليمين
اتّهم أعضاء مجلس الشيوخ اليساريون الأعضاء من حزب الجمهوريين الذي يشكل الأغلبية في الجمعية العامة باستهداف النساء المسلمات بهذا المشروع. وفي حديثها في مجلس الشيوخ، لفتت السيناتورة الاشتراكية سيلفي روبرت إلى أنّ القضايا التي اختار أعضاء حزب الجمهوريين مناقشتها في مجلس الشيوخ "أدت إلى انقسام المجتمع". وقالت روبرت: "مشروع القانون هذا له غرض سياسي، وهو استهداف دين (الإسلام) بذريعة العلمانية".
كما سبق للمحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أن أصدرت أمرًا يقضي بكون مسألة منع التلامذة من إبراز الرموز الدينية لا ينتهك حقوقهم، منتصف العام الماضي، ردًا على دعوى تقدمت بها (3) شابات بلجيكيات مسلمات مُنعن من ارتداء الحجاب في مدرستهن. وتلقت الشابات الثلاث تعليمهن في مدارس ثانوية ضمن التعليم العام الذي ينظمه المجتمع الفلمنكي الذي قرر في 2009 توسيع نطاق الحظر المفروض على الرموز الدينية المرئية. وطلب أهالي مقدمات الشكاوى من القضاء البلجيكي، دون جدوى، اعتبار هذا الحظر غير قانوني باعتبار أنّه يتعارض مع الحرية الدينية، ثم قُدّم طلب إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في تشرين الثاني (نوفمبر) 2020.
واعتبرت المحكمة أنّ "مفهوم حياد التعليم (...) الذي يحظر بشكل عام ارتداء الرموز الدينية المرئية لا يتعارض في ذاته مع حرية الدين". لافتة إلى أنّ الحظر الذي تعترض عليه مقدمات الشكوى لا يستهدف الحجاب الإسلامي فحسب، بل كل الرموز الدينية المرئية، موضحة: "الشابات أُبلغن مسبقًا بالقواعد المطبقة في المؤسسات المعنية ووافقن على الامتثال لها".
وسبق أن أثارت المحكمة التي يقع مقرها في ستراسبورغ الفرنسية موضوع الرموز الدينية بالمدارس. ففي حزيران (يونيو) 2009 أعلنت المحكمة عدم قبول الطلب المقدم ضد فرنسا لـ (6) تلامذة طُردوا من مدارسهم بسبب وضعهم رموزًا واضحةً تشير إلى انتماء ديني، كانت في تلك الحالة الحجاب الإسلامي وعمامة "الكيسكي" التي يضعها السيخ. وحينها أشارت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان إلى أنّ الحظر لم يكن يستهدف انتماء الأطفال إلى دين محدد، بل كان يسعى إلى تحقيق الهدف المشروع المتمثل في حماية حقوق الآخرين وحرياتهم والنظام العام.
منذ أن أدخل نظام التعليم العلماني في أواخر القرن التاسع عشر، شهدت فرنسا عدة قوانين تتعلق بالرموز الدينية في المدارس. ففي الماضي كان التركيز على الرموز المسيحية، أمّا اليوم، فإنّ الجدل يتركز على الملابس المرتبطة بالإسلام. وخلال فترة ما بين الحربين العالميتين، انقسمت فرنسا بين المدافعين عن المدرسة الجمهورية ومعارضين من حركات كاثوليكية ملكية، قومية وهوياتية، مثل "العمل الفرنسي". وكان الشباب جزءًا من هذا الصراع أيضًا، حيث حاولت عدة منظمات كسبهم إلى صفوفها. وكان الشبان الناشطون يُظهرون انتماءهم من خلال ارتداء ملصقات عليها شعارات أو صور، ممّا تسبب في توترات ومشاجرات، حتى داخل المدارس. وقد أعلن وزير التربية الوطنية جان زي وقتها أنّ "المدرسة يجب أن تبقى الملاذ المقدّس الذي لا تخترقه نزاعات البشر"، وفق ما تقول صحيفة (لوموند) الفرنسية.
وإحدى المحطات التي انبعثت فيها القضية من جديد في شباط (فبراير) 2019، عندما حاول النائب إريك سيوتي، مرة أخرى، تشريع حظر الأمهات المرتديات للحجاب في الرحلات المدرسية. وعلى الرغم من دعم وزير التعليم الوطني جان ميشيل بلانكير، تم رفض الفكرة من قبل النواب. وحاولت الأغلبية اليمينية في مجلس الشيوخ تمرير الحظر على الحجاب في الرحلات المدرسية في صيف 2021، عبر تعديل على مشروع قانون مكافحة الانفصالية، الذي حاول توسيع نطاق قانون 2004 ليشمل "جميع الأشخاص المشاركين في الخدمة العامة التعليمية". لكنّ الجمعية الوطنية رفضت الاقتراح مرة أخرى. وفي نهاية آب (أغسطس) 2023 ذهب خليفته، غابرييل أتال، إلى أبعد من ذلك، وأعلن عن نيته الواضحة لحظر العباءة والقميص في المدارس، اعتباراً من بداية العام الدراسي الجديد. في مذكرة قالت الوزارة إنّ ارتداء هذه الملابس "يُظهر بوضوح انتماءً دينيًا في بيئة مدرسية"، ويجب أن يؤدي إلى حوار مع الطالب، وفي حالة الرفض، إلى "إجراء تأديبي".