أكد الدكتور مصطفى زهران أنّ خسارة تنظيم داعش جغرافياً لمساحات سيطر عليها سابقاً وإجباره على التراجع لا يعني مطلقاً أنّه انتهى، أو أنّ قواه انتهت، أو إنّه لم يعد قادراً على المواجهة؛ بل إنه ربما، بصدد صياغة آليات جديدة تتناسب مع الواقع الجديد، وتجعله يتهيأ للعودة بشكلٍ أكثر صلابة.
ورأى زهران، في الحوار الذي أجرته "حفريات" معه، أنّ هذه التنظيمات "تتغذى من الواقع السياسي المضطرب ومن ممارسة السلطوية والاستبداد وما ينتج عنهما من عدم استقرار في الحالة المجتمعية"، ما يؤهلها لإفراز إرباك في مسألة الهوية، داعياً إلى إعادة إدماج هذه الحركات لصعوبة القضاء عليها نهائياً.
يتضمن خطاب الإسلام السياسي جملة من التناقضات في مجموعة أشياء تتعلق بشكل الدولة ومسألة الديموقراطية
والدكتور مصطفى زهران، باحث مصري في مركز سيتا للدراسات والأبحاث، ومساعد رئيس تحرير مجلة رؤية التركية، وهو باحث في حركات الإسلام السياسي والراديكالي والطرق الصوفية، ويدرس حالياً في مركز اللغات بجامعة إسطنبول، وله العديد من الدراسات والأبحاث والمقالات التي تتناول هذه الظواهر، وله مشاركات عديدة في المؤتمرات والندوات في العالمين؛ العربي والإسلامي، وترجمت مقالاته إلى التركية والإيطالية.
وهنا نص الحوار:
الوطن العربي والإسلامي الآن على صفيح ساخن بسبب انتشار موجة التطرف الذي اتبعته التيارات المتشددة والتي تعرف إعلامياً بجماعات الإسلام السياسي، كيف تصفون هذا الوضع الراهن ومآلاته المستقبلية؟
شهدت العقود الثلاثة الأخيرة التي سبقت "الربيع العربي" -قبل أن تنقلب خريفاً عاصفاً- تصاعداً كبيراً لحركات الإسلام السياسي التي تموضعت في بلدان عربية كثيرة في موقع المعارضة، وانخرطت في العمل المجتمعي لتؤثر بأفكارها في البنى المجتمعية والسياسية للواقع من حولها، وساهم توظيف سجالها المتقطع مع النظم السياسية الحاكمة في بلدانها باتساع دائرة مظلوميتها نتيجة "ترك مساحة جزئية لها من قبل السلطة" وترى من خلال مظلوميتها هذه أنّها تعاني تقييداً مباشراً لحقها في ممارسة التعبيرات أفكارها والعقائد التي يعتنقها أفرادها، وهو ما ساهم في قبولها بشكل إيجابي بصفتها حركات "يقع عليها الظلم"، فتقبلتها فئات عمرية متفاوتة، خاصة المنتمية إلى البعد "الريفي -القروي" الذي تقدمه تلك الجماعات والتنظيمات الإسلامية كطرح.
فاتسعت قاعدتها التنظيمية وطاقاتها البشرية من خلال اتساع دائرة الحشد والتعبئة ومن ثم التوظيف لما بات يراه البعض تعاطفاً، يسبق الإيمان بالأفكار والمنطلقات والمعالم الرئيسة التي تشكلها تلك الجماعات والتنظيمات من خلال أدبياتها المختلفة والمتنوعة بصرف النظر عما إذا كانت تتناسب مع الواقع المجتمعي وشكل الإطار السياسي من حوله أو تختلف معه.
جاءت الحرب الأفغانية عام 2001 لتدفع نحو تشكل وانصهار كامل لكيانات جهادية متناثرة في قالب واحد
ولا ينفي ذلك الإيمان الكامل للكثير من أبناء هذه التنظيمات والجماعات بأفكار مؤسسيها، واعتقادهم الكامل بأنّ الحل لكل الإشكاليات التي تواجه الأمة العربية والإسلامية يكمن في الطرح الذي تقدمه كل جماعة أو تنظيم؛ إذ لا يمكن القول إنّ كافة معتنقي تلك التنظيمات أتوا من باب التعاطف مع تصديرها لمظلوميتها وأزماتها مع النظم الحاكمة المتعاقبة.
بيد أن ما أحدثته ثورات "الربيع العربي" من انتقال هذه الجماعات من الهامش إلى المتن وجعلها في قلب المعادلة عبر الانتقال من المعارضة إلى السلطة، ساهم بقدر كبير، في إرباك المشهد السياسي والمجتمعي بداية من السياق العام الملتف بها، وصولاً إلى داخل تلك الجماعات نفسها، ومدى جهوزيتها لتتبوأ دوراً مغايراً لما كانت عليه قبل تحولها نحو السلطة، وهو ما ساهم في زلزلة كبيرة لها ولأفكارها، وكان لها أثر عميق بعد ذلك في حجم التحولات التي انتابتها.
هذه التحولات، جاءت سريعة بعد ارتداد تلك الجماعات وانحسارها نتيجة بعض المتغيرات المفاجئة، كان لها أثر عميق في فقدان كبرى هذه الجماعات مركزيتها ووجودها المحوري كلاعب وفاعل سياسي ومجتمعي، ما أسهم في انشطارها، كنتيجة مباشرة لفقدانها السلطة بعد أن اعتلتها للمرة الأولى خلال فترة زمنية لم تدم طويلاً، وأيضاً، عدم إتاحة الفرصة لها لتعود مجدداً للعب ذات الدور القديم الذي كانت عليه في عقود سابقة.
التجربة الجهادية المعاصرة المعولمة خطت بأيديها طرقاً جديداً وقدمت أفقاً مغايراً أكثر راديكالية
والمتأمل للواقع من حولنا الآن، يجد حالة من التشظي الكبير لموجات العنف والتشدد، وذلك لعوامل هامة ورئيسة؛ منها حالة الإرباك التي حدثت لتنظيمات الإسلام السياسي عقب ارتدادها عن موقع السلطة وانكشافها أمام معتنقيها أولاً، ثم المجتمع الذي كانت تراهن عليه في الحشد والتعبئة والتوظيف ليدعمها، وهو من أتى بها إلى السلطة كونها لم تكن تحمل مشروعاً حقيقياً في إدارة الدولة، وأتت من دوائر مغلقة لتتولى تسيير تشكلاتٍ أكبر وأعمق من أن تدار بنظرة تنظيمية قاصرة وصغيرة لا تتماهى مع المفهوم الإداري للدولة، وهو المفهوم الأكثر عمقاً، فضلاً عن قصور في تفهم طبيعة المتغيرات القائمة في الداخل المجتمعي والسياسي أيضاً.
وإضافة إلى ما سبق، يتضمن خطاب الإسلام السياسي جملة من التناقضات في مجموعة أشياء، تتعلق بشكل الدولة، وبطبيعة الواقع الملتف من حولها مثل مسألة الديمقراطية وإشكالياتها لديهم، فضلاً عن مسألة القانون الوضعي ومدى توافقها مع الشريعة الإسلامية وتفريعاتها، خاصة مسائل الحدود وما شابهها، وهو ما يجعل المشهد برمّته، على قدرٍ كبيرٍ من الإرباك، يفضي بتأويلات ربما يكون لها دور بالغٌ في تغذية العنف أو التمهيد له على الأقل.
ويلعب السياق السياسي دوراً في تغذية العنف وأدبياته لدى بعض من تلك الجماعات والتنظيمات المتباينة والمختلفة عن بعضها بعضاً؛ إذ إنّ تضييق الخناق عليها دون إعطاء الترياق اللازم لعلاج القصور الفكري والمنهجي داخلها. والدفع بها نحو العزلة والاغتراب يسهم بشكل كبير في توحشها وتمسكها بأدبياتها، وليس ذلك فحسب؛ بل وزيادة شرائح المتعاطفين معها.
هناك فرضية ترى أنّ الجماعات المتشددة صنيعة غربية أمريكية، كيف تقيّم هذه الفرضية؟
هناك إشكالية كبرى من قبل البعض، في التعامل مع ظاهرتي الإسلام السياسي الجماعاتي، والآخر الراديكالي، عبر تفسيرهما انطلاقاً من نظرية المؤامرة، وهو ما يعيق محاولة الفهم، ومن ثم تحليلهما والوقوف على أهم الأسباب والعوامل التي أدت إلى إنتاجهما في سياقات وظروف مختلفة.
وفي الواقع، إنّ لكلا الظاهرتين؛ الحركاتية والجماعاتية، بشقيهما؛ السياسي والراديكالي، انطلاقات فكرية صيغت في ظروف سياسية ومجتمعية هامة ودقيقة كان لها عظيم الأثر في تشكلاتهما وتمظهراتهما في أطوارهما التكوينية المتعاقبة.
الحالة الجماعاتية الأصولية والسياسية كانت أحد الانعكاسات لتراجع دور الخليفة، ومن ثم انتهاء خلافته في ربوع العالمين العربي والإسلامي، وهو ما يكشف عنه على سبيل المثال لا الحصر السبب الرئيس لانطلاق جماعة الإخوان المسلمين في بيانها التأسيسي غير المعلن من خلال منطوق المؤسس حسن البنا، وذلك بتوجه بيانه إلى إعادة الخلافة الإسلامية مجدداً بعد أن انتهت وانتفت بظهور الجمهورية التركية مع مصطفى كمال أتاتورك.
لا بد من إعادة احتضان الإسلام السياسي وتصويبه نحو البوصلة الحقيقية التي يتماهى من خلالها مع واقعه المعيش
وبالتوازي مع ذلك، كان ظهور الجماعات السلفية ذات الطابع المجتمعي الدعوي لمواجهة ما لحق بالتمظهرات الإسلامية الطقوسية – كما تذكر أدبياتهم - من البدع والمنكرات، نتيجة غياب المؤسسة الدينية الرسمية المتلاحمة بعد أن تفرقت الإمبراطورية إلى دويلات وأمصار مختلفة، وتراجعها منذ نهاية القرن الثامن عشر وبداية التاسع عشر، إذ كانت لها أسباب وعوامل بعيدة كل البعد عن كونها صنيعة الغرب أو ما شابه، بحسب ما يردده بعض المحللين والباحثين.
ويمكننا القول، إنّه ربما تتقاطع مصالح وأهداف بعض من هذه الجماعات مع الرؤية الغربية –ليس في عمومها بالطبع- لكنها تتركز في تلك الرامية إلى إرباك المسارات السياسية والمجتمعية لبعض البلدان، وذلك من خلال التعامل معهما بوصف "جماعات وظيفية"، وهو الذي يجب تسليط الضوء عليه والقول بأنها ليست في بعض منها صنيعة الغرب أو ما شابه، إنما تعمل لصالحه وفقاً لتقاطع الأهداف والمصالح، والمحصلة لا شك واحدة.
هذا يقودنا إلى تساؤل آخر: برأيكم ما الذي أنتج التيارات الإسلامية المتشددة أو بعبارة أخرى ما الأسباب الخفية التي كان لها الدور الرئيس في ظهور مثل هذه التيارات؟
التنظيمات المتشددة ابنة سياقاتها الاجتماعية وظروفها السياسية، ولا شك أنّ هناك عوامل كبيرة ساهمت في ظهورها؛ إذ يمكننا التأريخ لإرهاصاتها الأولى إبان الحرب "الروسية –الأفغانية"؛ حيث إنّ ممارسات روسيا القيصرية في أفغانستان، ومن ثم البلقان، استدعت هجرة تضامنية. وهجرة المجاهدين العرب لمؤازرة المسلمين هناك في مواجهة القوات الروسية ثم الصربية كانت دافعاً رئيساً بعد ذلك لتشكل جهاد عالمي يسرد في أدبياته أنه يجاهد هنا، وقلبه هناك في القدس التي يراها مغتصبة ومحتلة من الكيان الإسرائيلي.
ثم جاءت الحرب الأفغانية عام 2001، لتدفع نحو تشكل أعمق وأقوى من ذي قبل، وتدفع نحو انصهار كامل لكيانات جهادية متناثرة في قالب واحد، ثم تأتي مرحلة أخرى تشهد مخاضاً لطور تكويني مغاير عقب الحرب الأمريكية على العراق في 2003، وتشظي المنطقة بشكل كبير، وانتقال دائرة الصراع إلى الشرق الأوسط منذ ذلك التاريخ وحتى اللحظة، وهذه المرحلة كانت إيذاناً بولادة جنين ظل حتى مجيء ثورات الربيع العربي، التي شهدت زلزلةً مجتمعية وسياسية كبيرة، كان أحد إفرازاتها ظهور ما يسمى بتنظيم داعش في العراق والشام، الذي كان أكثر غلظة وأقوى تماسكاً وتنظيماً من القاعدة الأم؛ لتعايش المنطقة تشظياً جهادياً وراديكالياً آخذاً في الصعود.
يحيلنا الحديث عن تنظيم داعش إلى سؤال ملحّ مؤدّاه: هل ارتداد تنظيم الدولة المعروف إعلاميًا بداعش إلى الخطوط الخلفية وتقلص المساحات التي كان يستولي عليها في العراق وسوريا وبعض البلدان الأخرى يعني أن داعش قد انتهى أو أنه إلى زوال أم إن هناك تفكيراً في التجمع مرة أخرى والظهور في مكان ما؟
خسارة التنظيم في معاقله الرئيسة وارتداده الجغرافي دفعه إلى أن يخط لنفسه إستراتيجية مغايرة وآليات بديلة، بدأت تنكشف شيئاً فشيئاً من خلال أدبيات التننظيم وممارساته على الأرض، ومنها -على سبيل المثال لا الحصر- ما تضمنته رسالتا المتحدث للتنظيم أبو الحسن المهاجر الأخيرتان من تحريض مباشر للمنضوين تحت لواء خلافة البغدادي؛ بالانطلاق نحو حرب العصابات من صولات عسكرية شرع فيها بشكل كبير مؤخراً، وما تناولته صحيفة "النبأ" الناطقة الرسمية بلسان التنظيم في عددها الـ "105"، بعد أن قدمت رسماً توضيحياً تحفيزياً من خلال إنفوجراف يتضمن النصائح الأمنية لعناصر التنظيم فى الغرب عبر تبني استراتيجية الصولات العسكرية وتحديد الأهداف.. وغيرها، ما يعنى أنّ المرحلة القادمة مرحلة الثأر لما حدث في عواصم خلافتهم من خلال حرب ميليشيات تقترب من الشكل التقليدي لحرب العصابات وإن كانت أكثر تطوراً واحترافية.
ويفيد العرض السابق بأن الخسارة الجغرافية للتنظيم لا تعني أنه انتهى، أو أن قواه انتهت ولم يعد قادراً على المواجهة؛ بل هو في صياغة آليات جديدة تناسب الواقع الجديد وربما يكون أكثر صلابة من ذي قبل، خاصة أنه يرجع إلى نقطة انطلاقه الأولى، ما يعني أن فرضية عودته مرة أخرى إلى مناطق نفوذه لن تكون صعبة، وإنما الإبقاء عليها هو المعضلة لديه؛ لذا سيبحث عن خيارات أخرى واستراتيجيات جديده تتيح له حين العودة كيفية الإبقاء عليها دون أن يخسرها مجدداً، وهذا يحيلنا إلى أن المخيال الجهادي لتنظيم الدولة، خاصة لدى قادته وتحديداً "الخليفة البغدادي" ستظل أحد أهم أهدافه؛ الموصل والرقة ومواطن النفوذ البديلة وإعادتها لحاضنتها مجددًا، وتموضعه بالداخلين السوري والعراقي، ويمكننا اعتبار ما هو قائم الآن، على إنه استراحة محارب.
لقد استخلص تنظيم الدولة فكرة مفادها أنّ الإبقاء على الأرض يحتاج ثمناً باهظاً، وأن الغارات المتتالية هي الوسيلة الناجزة في الوقت الحاضر، وهو أمر لم تقبل به داعش قبل ذلك، عندما كانت تحذر منه القاعدة ورموزها؛ خاصة الظواهري. ما يعني أن التنظيم الآن وبشكله "الذي يشبه شكل الدولة" في إطار مراجعة لاستراتيجيته وآلياته التي كانت متبعة آنذاك.
هذا يفسر لنا لماذا لم تتوقف خطورة التنظيمات الإرهابية بعد موت بن لادن، ولا البغدادي؟ ومن ثم هناك سؤال آخر مهم: هل تموت التنظيمات الإرهابية بموت قادتها وزعمائها؟
التنظيمات الجهادية عمادها الأفكار، وتشحذ هممها بالشخوص والرموز، وهي بقدر ما لهذه الرموز من قدر ومكانة لدى أتباعها، إلا أنّ النظرة التي ينظرونها في بعض الأحيان إلى "الرموز" تكون نظرة قداسة، ما يؤثر سلباً في صيرورة التنظيم أو الجماعة لكونه أصبح فاعلاً محركاً ومهيمناً على الآليات والأفكار معاً، والجماعات التنظيمية، أكرر التنظيمية، التي تختلف جملة وتفصيلاً عن الحالات الأخرى التي تقترب في هيكليتها إلى النسق الدولاتي تتأثر بشكل كبير بغياب القيادات.
فإذا اتخدنا -على سبيل المثال- ثلاثة نماذج رئيسة تنتمي إلى الوعاء الإسلامي الحركاتي والجماعاتي على الساحة الإعلامية وهم بالترتيب؛ الإخوان المسلمون، القاعدة، وتنظيم داعش، ونجد في البداية أن حجم التأثير للقيادة المتمثلة في "المرشد" كبير جداً لدرجة أن غيابه عن إدارة الجماعة تعتريها علات سريعة كونه نافذًا لوجدان التنظيم وفكره وآلياته من مفرق رأسه إلى أخمص قدميه.
المتأمل للواقع يجد حالة من التشظي الكبير لموجات التشدد وذلك لعوامل هامة منها حالة الإرباك التي حدثت لتنظيمات الإسلام السياسي
أما تنظيم القاعدة فتمثل قيادته "مرشدًا روحيًا" لا يمتلك القدرة الاختراقية التنظيمية لأتباعه في كل مكان؛ إذ يقدم لهم التوجيهات، ويحدد لهم من بعيد البوصلة الفكرية للسير عليها وهى بمثابة الأدبيات المخطوطة التي يسير عليها كل من هوى الجهاد وحسب، وفِي حال مقتله أو اختفائه تظل أفكاره، وتبقى دائمة التأثير دون أن يكون لها تأثير ارتدادي بالقدر الكبير على التنظيم سوى بالتراجع النفسي والسكون المرحليين.
أما تنظيم داعش فقد أنتج بالأساس واقعًا مغايرًا ليتفادى تلك الإشكالية، وذلك منذ الأيام الأولى لتشكله وتمظهره على يد أبي مصعب الزرقاوي، ثم بدايات بلورته على يد أبي عمر البغدادي وأبي حمزة المهاجر، ثم اكتمال بنائه في شكله الخلافوي الدولاتي مع أبي بكر البغدادي، بأن أرسى دعائم دولاتية هيكلية تتيح له وقت مقتل الخليفة أو الأمير أو القائد طرح البديل دون التأثير في البناء الهيكلي، خاصة أنه بناء متكامل أكبر من التنظيم، ويقترب من الهيكلية الدولاتية المعاصرة، لذا كان من المفترض عند موت البغدادي الأول ووزير حربه "المهاجر"، أن تتلقى الدولة الإسلامية في العراق – المسمى القديم آنذاك - ضربة قاصمة إما أن تنفي التنظيم نهائياً أو أن تصيبه بالردة التي لا يستطيع أن ينفك عنها، وإنما بات أقوى بعد ذلك لاعتبارات سياقية تربط بالزمان والمكان والمتغير من حولهما، وعلى كل لم تكن ضربة قاصمة للتنظيم كما كان متوقعاً.
وهو ما يعني أن التجربة الجهادية المعاصرة المعولمة خطت بأيديها طرقاً جديداً وقدمت أفقاً مغايراً أكثر راديكالية وأكثر تنظيماً وأعمق غموضاً، لتتماهى مع الحركات الباطنية الذائعة الصيت في التاريخ، وهو ما أهل لها البقاء إلى يومنا هذا.
إذاً، كيف يمكن التعامل أمنياً مع هذه التنظيمات للقضاء عليها؟ السؤال بعبارة أخرى: هل الآليات الأمنية في مواجهة هذه التنظيمات ناجحة؟ وكيف يمكن قطع الطريق على هذه التنظيمات في ضم أعضاء جدد إليها؟
بدايةً، هذه التننظيمات تتغذى من الواقع السياسي المضطرب وممارسة السلطوية والاستبداد وما ينتج عنهم من عدم استقرار في الحالة المجتمعية، وبدورها؛ تفرز إرباكاً في مسألة الهوية، فيتمخض عنها ما يطلق عليه بـ"التيه الهوياتي" المتمخض عن تطاحن الأيدولوجيات وصراع الحزبية وإحلال "العلمنة السالبة" المتشددة محل القيم الدينية، توازياً مع مخططات انتزاع التصورات الدينية من المخيال الشعبي، ودور الإعلام في توظيف ذلك كله لخدمة اتجاه أيديولوجي محدد.
وهذا كله، ينتج عنه ردة فعل كبيرة على أكثر من صعيد، فيربك المجتمع، ما يدفع البعض إلى تبني خطاب مواجه له يصل إلى مرحلة التطرف مندفعاً نحو الحفاظ على قيمه المسلوبة وخطط انتزاع هويته الدينية واقتلاع جذوره، وفي هذا الوقت تتلقفه الأفكار المتشددة وتحمله إلى أدبياتها، وهو مفعم بروح حماسية تسعى لإحلال وإبدال ما يراه لائقاً ومناسباً، وتختلط لديه المفاهيم مرة أخرى، وينتج آليات توقعه بعد ذلك في فخاخ الراديكالية وشبكاتها العتيدة، ومن ثم، فإنه حين يواجه ذلك كله، ويصاب بالإحباط حال فشله، يبحث عن طريقين لا ثالث لهما:
إما إرسال نفسه إلى جنة هرباً من جحيم الأرض عبر عمليات راديكالية، أو الانتقال إلى أرض الخلافة التى يسودها الدفء والشريعة ويطبق فيها الجهاد.. الخ -وفق تصوراتهم- خاصة بعدما لم يجد من يحتويه أو يقم باستيعابه، وشعوره بالعزلة والاغتراب، تؤثر كافة هذه العوامل سلباً في المجتمعات وتصيبها بالتفكك والانهيار، فالإفراط في الانسلاخ عن الهوية والتحرر من الدين، أو التشدد والاتجاه صوب الراديكالية، يستقيان من معينٍ واحد وتتقطع أهدافهما وتلتقي، غير أن محصلتهما واحدة.
وأعيد مجدداً: لا بد من إعادة احتضان الإسلام السياسي وتصويبه نحو البوصلة الحقيقية التي يتماهى من خلالها مع واقعه المعيش، بحيث لا يصبح منعزلاً عنه أو موازياً له، بل متداخلاً أيما تداخل، ليصبح متفهماً لمفردات الوحدة والوطنية والديموقراطية.. إلخ، أما الدفع به نحو الراديكالية ليصبح متجانساً مع الآخر الراديكالي فهو الخطأ الكبير.
لا شك أن حركات الإسلام السياسي لديها الكثير من القصور في الفهم والآليات وغير ذلك، ولكن تنتمي قطاعات وشرائح كبيرة من الشارع العربي والإسلامي على اختلاف تنويعاتها الأيديولوجية، ويصبح من الصعب "الإجهاز عليها أو القضاء على أفكارها جملة واحدة".
كما إن التفكير بهذه الطريقة، دون اعتبار السياقات والظروف القائمة التي تحيط بها، يعتبر مجازفة تداعياتها كبيرة جداً ومكلفة، لذا يجب إعادة تدويرها محلياً، ومن ثم إقليمياً، ومناقشة أفكارها واحتوائها وإعادتها مجدداً إلى اللحمة الوطنية، مع الحذر من استنهاض الحزبية والجماعاتية التي تصيب المجتمع مجدداً بأمراض الفرقة والطائفية.