لا تفسير لديّ في موضوع "تحريم" أو "عدم جواز" مصافحة المرأة للرجل، سوى أنّ العقل الذكوري السلفي يريد تأبيد السيطرة على المرأة وسجنها في معتقل "الحلال والحرام" و"الجائز والمنهي عنه" وإشغالها بهوامش الأمور، حتى لا تستقلّ بذاتها، وتتخذ قرارها، وتتمرد على البنى الاجتماعية المهترئة التي عطّلت نصف المجتمع ووسمته بالدنس والخطيئة.
المصافحة، في سياقها الطبيعي والفطري، تعني الترحيب، وتؤكد معنى السلام الذي يتنافى مع أمراض العقل السلفي الذي لا يرى في المرأة إلا علامة على الشهوة والإغراء والفتنة، وهو نفس العقل المنفصم الذي يحلو له في القرن الحادي والعشرين الاستمرار في ترديد قول النبي الكريم، الذي لا أدري مدى صحته: "ما تركت فتنة لرجال هذه الأمة شر من نسائها".
هؤلاء الذين يختارون من الأحاديث ما يعزّز آراءهم المتشدّدة، ينكرون قول النبي "من شدّد شدّد الله عليه"، ودعوته: "يسّروا ولا تعسّروا، وبشّروا ولا تنفّروا".
المرأة التي تخرج إلى الفضاء العام، يتعيّن عليها أن تشتبك مع شروطه، وتنخرط في إيقاعه، بلا مخاوف
المرأة التي تخرج إلى الفضاء العام، يتعيّن عليها أن تشتبك مع شروطه، وتنخرط في إيقاعه، وعليها أن تعزّز من رصيد كفاءتها وحضورها وتميّزها وارتقائها، ولا تنشغل في أشياء عقيمة وعتيقة تتصادم مع إيقاع العصر الذي يسعى إلى تقسيم العمل وتحقيق مساواة بين الجنسين، من دون مخاوف زرعها العقل الذكوري في نفوس النساء، وصوّر الرجال على أنهم وحوش تتحيّن الفرصة للانقضاض على النساء وافتراسهن.
ماذا يجري لو صافحت امرأة رجلاً. هل ستسري الشهوة إلى نفسها لمجرد مصافحة عابرة. وكم من النساء اللواتي يصافحن الرجال في العمل والحياة، واجهن مثل هذا الموقف. ولماذا يجري نزع القوة من نفس الفتاة أو المرأة بإخافتها بفتاوى أكل الدهر عليها وشرب، وكأن المرأة عاجزة عن مواجهة أي موقف تعتقد أنه يسيء إليها، أو ينتهك كرامتها أو خصوصيتها؟
المرأة قادرة على تقييم الغث من السمين، وفرز الرجال السيئين من الطيبين، ولا تنتظر أوامر ونواهي الفقه الذكوري الذي يختزل المرأة في الجنس، ويصوّر الحياة باعتبارها غابة لا طيبة فيها ولا خير، ولا علاقات إنسانية قائمة على التقدير والمحبة.
العقل الذكوري، يا سيدتي، ويا آنستي، يريد حبسك في زنزانة النصوص، لتسهل عليه عملية السيطرة عليك وتدجينك، ومنعك من الخروج إلى العمل، لتظلي خادمة في منزل الذكر الذي لا يرى فيك إلا أداة أو ماكينة لإرضاء شهواته. ألا يتغنى هذا العقل المنشطر بأنّ قصر المرأة هو منزلها، وبعضهم يقول مطبخها، وغرفة نومها؟!
العقل الفقهي السلفي عقل مريض وشهوانيّ، وقد زرع في نفوس النساء المسلمات ذعراً لا حدود له
ولأنّ هذا العقل الفقهي السلفي عقل مريض وشهوانيّ، فإنه يعتقد أنّ البشر كلهم على شاكلته، لذا ترى أنّ غالبية النصوص الفقهية تركّز على المرأة، وعلى حركيتها، وماذا تلبس، أو كيف تتحدث، أو تتحرك ، أو تجلس، أو تمشي في الشارع، إن قيّض لها أن تسير في الشارع من دون أن يكون حارسها/ زوجها رقيباً عليها يحصي أنفاسها، وكأنها قنبلة موقوتة على وشك الانفجار، وبعثرة الفتنة في الفضاء!
لقد زرع هذا العقل الفقهي المعطوب في نفوس النساء المسلمات ذعراً لا حدود له. وأذكر كيف أنّ امرأة في عُمر أمي، واجهتها قرب مصعد في بناية تجارية، ولما هممت بالدخول إلى المصعد رجتني أن تصعد وحدها. يا إلهي إلهذا الحد انزرع الخوف في نفوس النساء. ماذا سيجري بين رجل وامرأة إذا التقيا في حجرة مصعد لمدة دقيقة أو أقل؟ إنها فوبيا الذكور التي رعاها العقل الفقهي السلفي، وما زالت فتيات صغيرات في مقتبل العطاء يمتثلن لإملاءاتها التي تجفف ماء البراءة في نفوسهن، وتنزع منهنّ التلقائية والعفوية، وتحولهنّ إلى أجهزة رقابة ترصد إشارات الذكور، وتحول دون توجيه الرصاص إليهن، وهذه كلها جزء من التلف النفسي الذي أصاب روح النساء، وملأها بالشياطين!
المصافحة جزء من السلام وأخلاقيات التواصل الإنساني. وأولى بالإنسان الخلوق، ذكراً كان أم أنثى، أن يرد التحية بأحسن منها
المصافحة كما أسلفنا، جزء من السلام. وأولى بالإنسان الخلوق، ذكراً كان أم أنثى، أن يرد التحية بأحسن منها، لا سيما في المواقف ذات الطبيعة الرسمية التي تكون في الأغلب جزءاً من تكريم المرأة والثناء على كفاءتها والإشادة بعقلها الخلاق. فلماذا تُهدر كل هذه القيم والفضائل في سبيل نصوص خرجت عن مقاصدها، ولم تمتثل لإراة التأويل التي تقول إنما الأعمال بالنيات. ثم ألم يصافح الخليفة عمر بن الخطاب النساء في حضرة النبي؟!
فما هي نية الملك أو الرئيس أو المسؤول إن هو صافح، في حفل عام مسجل وموثق، امرأة سواء كانت نائبة أو وزيرة أو مسؤولة. وما نية رئيس الجامعة أو راعي احتفال تخرج، أو مسلّم جائزة، إذا أراد الاحتفاء بالفتاة التي هي في منزلة ابنته أو اخته، فيصافحها تعبيراً منه عن شكرها لريادتها وتفوقها. هل هناك مطرح للشهوة وإثارة الفتنة، في هذه المواقف، يا فقهاء الظلام؟!