مشاهد من مقديشو: ارتياب وحنين غريب

مشاهد من مقديشو: ارتياب وحنين غريب


30/01/2019

لطالما شكلت لدي استعصاءً حقيقياً الإجابة عن سؤال: من أين أنت؟ من أي بلد جئت؟ خصوصاً عندما يعرف السائل عن صوماليتي، ويبدأ بالاستفسار عن أحوال الصومال ومقديشو التي تلقّب في الإعلام بأنّها "أخطر مكان في العالم". أجدني في كل مرة أشرح أنني من موطن آخر، مجاورٍ لمقديشو، وأن مقديشو ليست "عاصمتي"، وعن فروقات صومالي لاند والصومال.

اقرأ أيضاً: هل ستكون بريطانيا أول دولة تعترف بصومالي لاند؟
يأتي ذلك الانتساب من نشأتي في مكان يعتبره العالم أنه من الصومال، لكن هو لا يعتبر نفسه أنه جزء من الصومال، ويطالب بالانفصال منذ ثلاثة عقود. بنظر الجميع كنت صومالياً من الصومال، وكنت أنافح لإثبات كوني صومالياً من مكان آخر، رغم أني أحمل وثيقة سفر صومالية.
لهذا السبب ظلت مقديشو، مكاناً أرتاب منه. وبنفس الوقت، ظلت مكاناً أفضّل زيارته لأعوام.

معظم المباني الحكومية محمية بخرسانات مسلحة مرتفعة، تعلوها أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة فتبدو كأنها سجون صغيرة أو ثكنات عسكرية

قبل فترة قليلة، شاركتُ مع مجموعة من الأصدقاء في تأسيس منتدى ثقافي، لتنشيط الثقافة في الصومال، فكانت فكرة الذهاب إلى مقديشو للمشاركة في معرض كتاب يعقده المنتدى في العاصمة، الفرصة التي طالما انتظرتها.
في مطار هرجيسا، سألتني إحدى الموظفات عن وجهتي، أجبتها "إلى عاصتمنا"، تحول الأمر الى حرج طريف، وقالت علك أن تقول إنها "عاصمتي" وليست "عاصمتنا". وذلك أن الآرء والهوية الوطنية مقسّمة في الصومال تقسيماً منطاقياً، لكل منطقة روايتها الخاصة عن الهوية الوطنية، وللمصادفة البيولوجية السعيدة ولدتُ في قسم المنطقة التي تدعي أنها دولة قائمة، فسردية الناس هنا تقول إنهم كانوا كياناً استعمارياً مستقلاً اتحد مع الجنوب، في فترة الاستقلال، ومن ثم استعاد استقلاله بعد انهيار الدولة في التسعينيات. وتمارس الجمهورية المعلنة من طرف واحد كافة مهام الدولة منذ ذلك الحين، لكن ينقصها الاعتراف الدولي.

اقرأ أيضاً: الصوفية في الصومال: قيم روحية وأفكار ثورية مناوئة للاستعمار
هبطت بنا الطائرة في الصباح الباكر في مطار آدم عبدالله الدولي؛ الذي يحمل اسم أول رئيس للصومال ما بعد الاستقلال. أُثناء التحليق، ترى فداحة التصحّر الذي اجتاح الأرض، فضاءات شاسعة قاحلة بفعل التبدل المناخي، الذي يدفع ضريبته سكان جنوب العالم.
خلال أيام الزيارة، فعلت الأشياء الواجب فعلها، شاهدتُ شاطئ "ليدو"، وتجولت شوارع "حمر".

اقرأ أيضاً: هل يتحول الصومالي مختار روبو من إرهابي إلى لاعب سياسي؟
تصدم صورة مقديشو الحالية كلّ من أحب صورتها القديمة، لكنّ جيلي المولود بعد سقوط الدولة، لم يعرف إلا مشاهد وأخبار الحرب ومتعلقاتها من كوارث شتّى، فتحنا أعيننا على الخراب. مع ذلك تكونت لدي صورة عن ماضي المدينة عبر قراءاتي  للروايات التي تناولتها، أو مقاطع الفيديوهات أو ألبومات الصور، أو مما اشتقتها من الأدب والفن. لكنها الآن مدينة مخرّبة، متوترة، شاحبة، كثير من بيوتها مهجور، معظم طرقاتها ضيقة، مثقوبة، غير مطلية، متراصة، مرْتمية بعضها على بعض.
الشوارع والمباني والأرصفة بحاجة إلى إعادة تأهيل، ينسحب ذلك على مجمل المدن الصومالية، بما فيها هرجيسا، عاصمة الجمهورية المطالبة للانفصال، بل المفاجئ أن تخطيط مقديشو وشوارعها أكثر تنظيماً واتساعاً من شوارع هرجيسا، يقول البعض إنّ ذلك يعود إلى التخطيط الاستعماري الإيطالي الأكثر تطوراً من تخطيط الاستعمار البريطاني.

اقرأ أيضاً: الأغنية الصومالية تقاوم الحرب والتحريم وتلاحقها الرداءة
تركت أعوام الحرب نُدبها على الناس والحجر على حد سواء، فعلى مستوى المباني تظهر سمات احترازية كثيرة في العمارة والبنيان بسبب الأزمات الأمنية، سواء على مستوى المنازل أو الدوائر التابعة للدولة، التي تعد مؤمَّنة نسبيّاً بفعل وجود الحرس في غالبية الأحيان.
تشاهد أكياس رملية منتصبة أمام معظم المباني، صار الناس يستخدمونها للحماية من رصاص الخلافات العشائرية ونيران الميليشيات المختلفة، ولاحقاً من نيران الحركات الجهادية.

على مستوى المباني تظهر سمات احترازية كثيرة في العمارة والبنيان بسبب الأزمات الأمنية، سواء على مستوى المنازل أو الدوائر التابعة للدولة

في الحرب، تختلّ يوميات الناس، ينعزلون عن بعضهم البعض، يلازم كل شخص في بيته وعائلته الصغيرة؛ سنده الأخير. لا مجال للاجتماعات العمومية، الارتياب والشك والخوف سيد الموقف، لا تستطيع أن تجلس في مكان عام، إن كنت صحفياً أو سياسياً أو شخصية عامة، مثلما لا يمكنك ركن سيارتك في مكان عام، خشية أن يلصق لك متفجر يدوي بسيارتك. معظم الاغتيالات تتم بهذه الطريقة.
شهدت المدينة فظائع مروعة في طوال عقدين من الزمن، تدمر بفعله كل شيء. وتدخلت قوات أجنبية في احتلال صارخ تارة، وباسم حفظ السلام تارة أخرى، واستخدمت كافة أنواع السلاح على رؤوس السكان، بما فيها الفوسفور الأبيض المحرم دولياً. تهجر المقديشيون مرات لا تُحصى. الجهاديون أيضاً فعلوا الأفاعيل، بدءاً من بتر الأيادي إلى القتل رمياً بالحجارة.

اقرأ أيضاً: الاستبداد يحول الإقليم الصومالي الإثيوبي إلى سجن
صحيح أنه في الأعوام الأخيرة انحسرت القوة السافرة، المباشرة، "على الأرض"، وهدأت نيران المليشيات المختلفة، واستبدلت القوات الإثيوبية بأخرى تمثل سبع دول إفريقية (بعثة أميصوم)، تمّ طرد الجهاديين من سيطرة المدينة، لكن المليشيات لبست رداء الحكومة، وباتت حاكمة.
ما تزال ظروف الحرب معيشة في المدينة، عقليتها ما تزال موجودة. في السلم الذي باتَ في الصومال يرى النور، أشياء قليلة تغيرت، بقي سكان المدينة معزولين عن بعضهم البعض. التجوال في غاية الصعوبة، كما في الحرب، عفاريت الإسفلت، وفوضاهم الجهنمية تعرقل حركة الناس.
تكثر الاحترازات الأمنية بشكل مريع، خاصة في المناطق الحكومية، ثمة نقط تفتيش تسألك عن هويتك، وهنا ليست الهوية الوطنية، بل بطاقة تثبت أنك موظف حكومي، إن كنت لا تحمل هذه البطاقة، قد ترجع من حيث أتيت.
معظم المباني الحكومية محمية بخرسانات مسلحة مرتفعة، تعلوها أسلاك شائكة وكاميرات مراقبة، تجعلها تبدو كأنها سجون صغيرة أو ثكنات عسكرية. الحواجز الأمنية، ونقاط التفتيش في كلّ مكان. لا تبالي تلك الحواجز بالناس، صنوف من العساكر والشرطة بأزياء مختلفة تنتشر في كل الطرقات.

في الحرب، تختلّ يوميات الناس، ينعزلون عن بعضهم البعض، يلازم كل شخص في بيته وعائلته الصغيرة؛ سنده الأخير

مقديشو مدينة خصبة للاستثمار الأمني. يحدثني صديقي محمد الفاتح عن الشركات الأمنية التي يصل استئجار سيارة منها الى أربعة آلاف دولار بشكل شهري.
في اليوم الأول لي في وسط البلد، بعد الغذاء في معطم يمني، صادفنا أمامنا سيارة انفجرت لتوها، لكن ذهلت أن السيارة كانت تبدو بحالة جيدة. يذكرني صديقي أنها سيارة مضادة للمفتجرات، bulletproof car  على غرار الجاكيت المضاد للرصاص، تصل كلفة الواحدة منها إلى ثمانين ألف دولار، ومعظم الشخصيات السياسية والبارزة يقتنون مثل تلك السيارات.

اقرأ أيضاً: لماذا تخرق إيران حظر السلاح وتدعم الإرهابيين في الصومال؟
يضيف صديقي أن بعض هذه الشركات تعود إلى برلمانيين، وأعضاء في الحكومة. ويستنتج أنّ كثيراً من التفجيرات تكون لبرهنة حاجة الناس إلى تلك السيارات.
في سيرة الأمننة، يقع في المدينة "مجمع حلني"، ويتردد أنه مدينة داخل المدينة، أثناء دخولك يصادفك أشخاص من شتى الجنسيات؛ أفارقة، أوروبيون، أمريكيون، نساء بتنورات صغيرات يمارسن الجري، قد لا تصدق انك في مقديشو، التي توصف بأنها محافظة ومتشددة.
في هذا المجمع تقع فيه أغلب السفارات الأجنبية، الأوروبية خصوصاً، والعديد من الشركات والهيئات التي يصعب معرفة ما الذي تفعله هنا على وجه التحديد. وقد كتب الصحفي الأمريكي، جيريمي سكاهيل، في وقت سابق أنها تقع فيه سجون أمريكية سرية.

اقرأ أيضاً: صومالي لاند تستثمر في الكتاب والثقافة بحثاً عن الاعتراف الدولي

عندما يغادر الرئيس أو المسؤولون الكبار في الحكومة، أو يأتي وفد أجبني يتم قطع كامل الطرق الرئيسية، جرى ذلك عندما أتى رئيس إريتريا، الى الصومال في الشهر الماضي، تشاهد الناس وهم يقطعون أميالاً للذهاب إلى أشغالهم مشياً على الأقدام لأن هناك وفداً رسمياً يزور البلد!
يتحدث كل الصوماليين بحنين عجيب عن كيف كانت مقديشو في السبعينيات والثمانينيات، وعن التنوع الثقافي والعمارة الفريدة التي كانت تمتاز بها المدينة؛ الكنائس بجانب المساجد بطراز معماري فريد، هذا حنين في محله، وجزء كبير منه يمثل نقداً لحبقة ما بعد سقوط الدولة، التي ما يزال الصوماليون يعانون من دوخة دويّ سقوطها.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية