الخوف المزمن من الغرب.. هكذا تصبح الحياة مكاناً لبيع العنف

الخوف المزمن من الغرب.. هكذا تصبح الحياة مكاناً لبيع العنف


20/10/2018

منذ متى لم يكن الغرب بريئاً؟ ومنذ متى لم نكن نحن، "الشرق" كلّه، متوجسين وخائفين من الحاضر والمستقبل، ليس ابتداءً من القرن العشرين، الذي بدأت أول صفحاته بثورة تشرين الأول (أكتوبر) عام 1917، بطابعها الاشتراكي، وإحساس بالظلم والتسلط والخوف، حتى بدت مقدماتها سهلة (أسهل من رفع ريشة طير، وتم النصر بالغياب) بحسب قول لينين، ثم أخذت كلّ مداها ونتائجها واستحقاقاتها.

اقرأ أيضاً: هل أضاء لنا الغرب النّفق المظلم الذي عبره؟

وليس انتهاءً بالقرن الحادي والعشرين؛ الذي نحن بصدده، أو أنه بصددنا، بدأ صفحاته الأولى أيضاً بأزمات عربية مكثت في العنق الرفيع للزجاجة، نتيجة الإحساس بالظلم والتسلط كقاسم مشترك بين تفاصيل الزمن العربي الذي ما كان يوماً إلا صعباً.

لدينا خوف مزمن من الغرب، خوف مستمر، حتى أنّ أزمنة كثيرة مضت علينا ونحن نلعنه ونشحن دواخلنا بكراهيته، والمدهش أنّنا ما نزال نعبث بهذه الكراهية حتى صادرت منا حاضرنا وحياتنا، وعبّأنا خواصرنا بخناجر مسمومة من العنف.

نحن نكره لأنّنا خائفون أولاً ولأننا لا نستطيع أن نقدم مساهمة عظيمة في سجل الإنجازات العظيمة على مستوى الكون والحياة والمستقبل

أليس الكُره خوفٌ بصورة ما؟ والخوف يستطيع أن ينتج مقداراً قاتلاً من العنف والإرهاب؛ لأنّ التعصب والخوف، كما يقول أمين الريحاني: "توأما الجهل والتقليد"، فأسوأ ما يمكن أن يحدث لنا جراء هذا النموذج من الحياة المشحونة بالكراهية، أننا لن نبدأ الحياة كما يجب، ستبقى أفعالنا الإنسانية موجهة كردّ فعل على الخوف والكره، دون أن نستطيع أن ننتج نموذجاً فذّاً من الحياة اللائقة، ولعلّ هذا ما تبدو عليه نصيحة الإيرلندي أوسكار وايلد، حين قال: "اغفر لأعدائك دائماً، فلا شيء يضايقهم أكثر من ذلك"، وكان يقصد حتماً أن لا تنشغل بكرهك لهم عن صنع حياتك.

اقرأ أيضاً: "طريق الحرير" والشرق الأوسط

دائماً، العادة أقوى من المنطق، ونحن حياتنا كلّها مكرسة للعادات والتقاليد والأعراف، بعيداً عن منطق الأشياء وحقائق الأمور والأفعال، لهذا اعتدنا كره الغرب، ولم يعد بوسعنا أن نعرف منطق الأمر جيداً؛ حيث الكراهية الانفعالية، كما يقول إريك هوفر، بإمكانها إعطاء معنى ومغزى لحياة فارغة فقط.

في كتابه "إغواء الغرب"؛ يبدأ أندريه مالرو أفكاره بمثل هندي من المالابار: "الذي يقتفي الآثار زمناً طويلاً يتشابه مع ظله"، فهل تشابهنا مع ظلنا الذي ظلّ قروناً طويلة مرتجفاً وخائفاً، بعد أن طوى العرب كتاب الحضارة، وأصبحت مساهماتنا الحضارية عبارة عن تراث وتاريخ وذكريات، تستخدم لغايات الشعور بالفخر من إسهامات أجدادنا، في علوم الفلك والكون والمراصد والهندسة والطبّ والأدب والكيمياء والفيزياء والميكانيكا والجغرافيا والبحار.

دائماً العادة أقوى من المنطق ونحن حياتنا كلّها مكرسة للعادات والتقاليد والأعراف بعيداً عن منطق الأشياء وحقائق الأمور والأفعال

بحر من الذكريات الموقوفة على فكرة مجد سالف، والشعور بالامتلاء من هواء قديم يعبّئ رئتينا بالنشوة والحلم، الحلم الذي يمكنه أن يعطينا ما لا نستطيعه، وما لا ندركه، وما لا تمنحنا إياه الحياة الفارغة.

نحن نكره لأنّنا خائفون أولاً، ولأننا لا نستطيع أن نقدم مساهمة عظيمة في سجل الإنجازات العظيمة على مستوى الكون والحياة والمستقبل، وعلى مستوى ذواتنا، على أقل تقدير، فنحن نعيش ذاتاً، إما مهزومة أو مهزوزة، وحياة شديدة البساطة والسطحية لدرجة الحماقة، فإذا كانت "الحانة مكاناً لبيع الجنون في زجاجات"، فإنّ حياة مثل هذه، تكره بحماقة وتغضب بحماقة وتفكر بحماقة، ربما تصلح أكثر كمكان لبيع العنف ملفوفاً بورق الكتب.

اقرأ أيضاً: كيف وظّف الخطاب السياسي العربي الدين والبلاغة؟

وهنا، في فرصة الحديث عن الكتب، ليس مطلوباً أن نتفاجأ بأنّه ثمة كتب عابرة، لا تدهشنا بشيء، ولا تستفز وعينا، ولا تجبرنا على تقديم إشارة واحدة على أننا وعينا أو فكّرنا، أو حتى أننا قرأنا أصلاً، وتلك كتب يبدأ موتها بعيد خروجها من المطبعة بقليل، إلا أنه ثمة كتب غلفت وعي قارئيها بأغلفة صلبة وقاسية، وأبقتهم داخل متاريس مغلقة على أفهام قديمة لا تستوعب الحياة وتفاصيلها وعلاقاتها وصيروراتها.

إنّها كتب كرّست فينا وعياً غير محايد، بل هو وعي منحاز لظروف تشبه ظروف عصور قديمة، كانت فيها علاقات العالم والناس والمجتمعات والثقافات شرسة بمستويات كراهية مرتفعة، وعنف يتوالد بعضه من رحم بعضه الآخر.

اقرأ أيضاً: المثقف والمأزق العربي الراهن

اليوم، رغم حجم الحروب الجامحة، إلا أنّ الشعوب والمجتمعات قادرين على أن يقدموا مساهمة فذة في السلام الثقافي والسلام الشعوبي، إن جاز لنا أن نطرح هذا المفهوم، بعيداً عن شراسة المصالح التي تنتج الحروب والأزمات والدمار.

بحر من الذكريات الموقوفة على فكرة مجد سالف والشعور بالامتلاء من هواء قديم يعبّئ رئتينا بالنشوة والحلم

حين نكفّ عن فكر الكراهية، وثقافتها المستوردة من وحل السياسة، بخيباتها وصراعاتها، نستطيع -كشعوب ومجتمعات- أن نخلق الفرق بين الوعي واللاوعي، وأن نمايز الحدّ الفاصل بين الثقافة الجامدة المأزومة والثقافة المرنة، القادرة على تشكيل نسق علاقاتي شعوبي مرن، يمكنه استيعاب الحالة المعاصرة، ومحاصرة الأوهام في زمن العلم والخرافات في زمن المعرفة، وفي زمن العلوم والمعارف والأفكار المحلقة، نريد كتبا تطلق أفكارنا لا تقيدها، وتجعلنا أكثر مواءمة للعيش في القرن الحادي والعشرين، دون أحكام مسبقة بالكراهية، ودون استعداد مسبق للعنف والتطرف.

اقرأ أيضاً: التنوير- مفاهيم إشكالية في الوعي الإسلامي المعاصر

صحيح أنّ التسامح الكامل، بحسب نيلسون مانديلا، لا يستلزم نسيان الماضي تماماً، إلا أنّ انشغالنا بالكراهية خسارة كبيرة ليست للعدو حتماً؛ بل لنا نحن؛ لأنّ ممارسة كراهيتنا تجعلنا على الأغلب، نخفق في صناعة حياتنا كما ينبغي، ودائماً "مسؤولية التسامح تقع على عاتق من لديهم أفق أوسع".

 

الصفحة الرئيسية