
مهنة التعليم واحدة من أصعب المهن في العالم، فهي الأكثر إرهاقًا والأكثر خطورة، ويواجه العاملون في هذا الحقل عبء بناء وتغيير الروح والعقل والنفس الإنسانية، وهي مهنة تستقي نورها من نبع النبوة نفسه، ومن نبع الحكمة نفسه، إذ يقع على النبي والمعلم والفيلسوف خلاص الروح الإنسانية، خلاصها من الجهل والغضب والأنا، والقسوة وسوء الخُلق، والوصول بها إلى الناحية الأخرى من الأرض الخيّرة، هذا ما يفعله النبي والمعلم والفيلسوف، يدفعون مركباً بساعدين قويين وروح مثابرة وسط تلاطم الأمواج، لخلاص الأرواح المحمولة، وعلى هذا ففي الأدبيات التربوية لا نستخدم اصطلاح مُعلم لأنّه لا يفي بالجوانب الكليّة للدور المنوط به، فنقول إنّه مُرشد ومُوجّه لمصادر البناء العقلي والأخلاقي والروحي والبدني والنفسي لطلابه.
ولأنّ البشرية تتقدم، والمعارف الإنسانية تتراكم بشكل متسارع، والمستجدات على الروح الإنسانية أكثر خطرًا وأبعد أثرًا، وتبعًا لكل هذا ازدادت أدوار المعلمين، فلم يعد ذلك المؤدب الذي يُحفظ الأطفال في الحضارة اليونانية الشعر، ويلقنهم مبادئ الرياضيات، ويعلمهم البلاغة، ولم يعد ذلك الذي يُحفّظ القرآن والأحاديث للصغار في العصور الإسلامية الأولى، وإنّما تعقدت المهنة وتشعبت، وخاصة أنّها لم تعد قاصرة على أبناء الأثرياء والأسر المتوسطة، بل امتدت لتشمل كل زاوية مهملة في كل قرية وزقاق.
مهام ثقال في قضية مصيرية
يقع على المعلم في عصرنا الحالي مهام ثِقال، وفي بلدنا مصر تُعدّ قضية التعليم قضية مصيرية وشائكة، وكرسي وزارة التعليم هو الكرسي الذي يقضي على صاحبه مهما كانت نواياه، ليس لعِظم المهمّة فقط، وإنّما لإرث هائل من الخطايا، وليست مجرد أخطاء في هذا القطاع الحيوي.
منذ تولي الوزير الجديد حقيبة وزارة التربية والتعليم، وكل المتصلين بالعملية التعليمية يشكون من التعب والإرهاق، سواء أكانوا طلابًا أم معلمين أم أولياء أمور أم التوجيه التربوي بكافة تخصصاته، ورغم تصاعد هذا الإحساس بالإرهاق وعمومه في كل نواحي مصر، لم نجد أذنًا تسمع أو تعي أنّ هناك بعض السياسيات قد تؤدي إلى أزمة حقيقية داخل المدارس.
ففي البداية عمّمت الوزارة على كل المراحل التعليمية تقسيم (الكشاكيل) إلى أجزاء خاصة بالأنشطة الصفية والمنزلية، وتقييم أسبوعي لكل مادة، وكل هذه الكراسات يجب أن تُصحح يوميًا وترصد درجاتها يوميًا، بمعنى آخر لو أنّ معلمًا شرح في فصلين أو (3) فصول كل فصل فيه (40) طالبًا فقط، فسيكون مُلزماً بتصحيح (120) أداء صفي، و(120) أداء منزلي، ومثلهم التقييم، ورصد النتائج في كشوف الدرجات هذا بالإضافة إلى المهام الإضافية الموكلة للمعلم من ريادة وإشراف وغيره.
فضلًا عن إلزام الوزارة المدارس بتوزيع امتحانات التقييمات الأسبوعية على كافة أيام الأسبوع، بحيث تجعل طالب الصف الأول الابتدائي حتى الثانوي يُختبر يوميًا، وفضلًا عن الضغط الذي يوضع على الطالب المُمتحن يوميًا، فأين هو هذا الطالب الذي ليس من حقه أن يمرض أو يسافر أو يسأم من الدراسة ويريد أن يغيب دون أن يتعرض للنقص في درجاته؟ فالمبرر الوحيد لقبول غياب الطالب هو عذر من التأمين الصحي، وهذا ليس سهلًا الحصول عليه دائمًا، فضلًا عن أنّ هناك موجبات للغياب غير المرض، كالطالب المسافر مع والديه، والطالب الذي توفي لأهله عزيز، وغيرها من الأمور التي لا يتوفر إثبات مادي عند استحقاقها.
يُلزم المعلم إضافة إلى تلال الكشاكيل التي يُصححها أن يكون معه كشف في كل حصة يُسجل فيه غياب الطلبة، مع أنّ هذه مهمة الإداري والكشوف نفسها موجودة لدى الإداري، وقبل التحديث الأخير للوزارة كنّا نستعين بكشوف الغياب لوضع درجة السلوك والمواظبة، فما الداعي لإثقال المعلم بمهام إدارية لا فائدة منها؟.
ولماذا يُختبر الطالب أسبوعيًا في المادة الواحدة، مع العلم أنّ هذا الاختبار يكون تحريريًا ويكتبه بنفسه، مع أنّه في البلاد المتقدمة لا يعتمدون الاختبارات التحريرية الأسبوعية كنظام للتقييم، وإنّما التقييم ينقسم إلى شفوي ومهاري وتحريري ومشروعات وملفات إنجاز، ولا يُفهم من هذا الالتفات نحو الأعمال التحريرية التقييمية التي تفرضها الوزارة أننا ضدها، بالعكس التقييم هو جزء من بناء المعلومة وترسيخها، والامتحان الدوري يخفف من ضغط امتحان نهاية العام، لكن أن يكون أسبوعيًا فهذا ثقيل، ويُعمد توزيعه على كل أيام الأسبوع بحيث يُصعب على الطالب الغياب مع استحقاقه أو يتهدد بالنقص في الدرجات!
كمٌّ يفتقد الكيف والجودة
نجحت الوزارة في رفع نسبة الحضور، ولا يمكن إنكار ذلك، وهذه كانت واحدة من تحديات الوزارة، لكن هل وصل إلى الوزارة أنّ هذا الحضور كان على حساب الجوانب الإنسانية؟ ما يتردد في مدارس الجمهورية واحد؛ فكثير من المعلمين يشتكون من أنّ الطلبة يكونون مرضى ومرهقين، ويأتون من أجل التقييم، ولنؤكد ثانية أنّ الحصول على إجازة مرضية صعب، فهل بهذه الطريقة تكون الوزارة قد نجحت بالفعل في إحضار الطلاب، ألا توجد وسيلة أكثر إنسانية وأكثر محبة يمكن أن تربط الطالب بمدرسته، فيكون حضوره قائمًا على أنّ مدرسته هي المكان الذي يُحبه، وليس المكان المُجبر على الذهاب إليه لأنّه يقيده بالدرجات؟
الشاهد أيضًا أنّ المتابعات الدورية من قبل اللجان المختلفة على مستوى الجمهورية حين تزور المدارس تأتي بنية البحث عن الأخطاء، لإثبات أننا في مرحلة جديدة أكثر انضباطًا لا نحتمل فيها الخطأ، حتى لو كان هذا الخطأ تعاطفًا من معلم مع طالب، فالإشراف التربوي يأتي إلى المدارس يبحث في أوراق المعلم والطالب، ويُحصي عدد التقييمات والأداءات، ويقارن درجات الطالب في الكشكول بالدفتر وأيام الغياب بأيام الرصد، التي يكون غالبًا قد أعيد فيها امتحان أو أكثر تعاطفًا مع طالب أقعده المرض أو الضغط أو السأم من الحضور اليومي.
ونادرًا ما يسأل الإشراف الزائر الطلاب عن مناهجهم، حتى الوزير في المرات التي ظهر فيها داخل المدارس، لم نره يسأل الطالب ليرى مستويات الطلاب لأنّها المُنتج التعليمي الحقيقي، إنّما الغريب كان ظهور الوزير وهو يبحث عن الأداءات، ويطلب كشكول مادة كذا وكذا، وكأنّ الأمر كله في الأوراق التي يجب أن تكتب، والحضور الذي يجب أن تعلو نسبته تحت أيّ ظرف.
ضغوط هائلة
إنّ هذا الضغط الذي يتسم به هذا العام الدراسي يكفي لأن يوقع أكثر من معلم أو مشرف شهيدًا أو مريضًا أو فاقدًا لوعيه وأعصابه، حتى أنّ زيارة الوزير الأخيرة لإحدى إدارات محافظة الدقهلية كانت كفيلة بأن يسقط على إثرها مدير عام إدارة الباجور شهيداً بعدها بدقائق فقط، ودون أن يكون للرجل تاريخ صحي مُقلق، ودون التعليق على أيّ أحداث أثيرت حول ما جرى من حوار ما بين الوزير ونائبه من جهة، ومدير الإدارة من جهة أخرى، فإنّ سياسة الوزارة وحدها تفتقد لأيّ مرونة وإنسانية مع الطلاب والمعلمين والموجهين والمشرفين، ويبدو أننا نحتاج أن نُعرف بديهيات التربية في هذه المرحلة التي تتسم بخلو النَفَس التربوي منها، المُدير قائد وداعم ومحفز وموجّه ومصحح، المُدير الجيد هو الذي يوظف كل شخص في مكانه الصحيح، المُدير الجيد يُشيد بالإيجابيات، وهذا كفيل بأن يقضي على السلبيات، يُقّدم المدير الذكي التقصير بطريقة لبقة، إنّ العين وحدها كفيلة بالتوجيه، فالتربوي الحقيقي يعرف أنّ استراتيجية صمته تجعل فصله يعود إلى الهدوء، والمدير التربوي يعرف أنّ عينه ولفتته وتعليقه المُهذب يكفي لأن يعيد الأمور إلى نصابها، ويحفظ للشخص الذي أمامه وقار منصبه وعمره، ويقيده بالمسؤولية بطريقة محترمة، أمّا إذا كان التقصير كبيرًا، ويتعدى لفت النظر، فإنّ ما بين الرئيس ومرؤوسيه هو التقرير. الكلمة غير اللائقة توجع أيّ رجل، خاصة ذلك الذي اتخذ من الكلمة مهنة، والتوجيه غير اللائق يذبح الشخص الذي اتخذ من توجيه أجيال وأجيال منهاجًا وطريقًا.