ما بين موسوليني وأردوغان... التوظيف السياسي لمشهدية السيف

ما بين موسوليني وأردوغان... التوظيف السياسي لمشهدية السيف


09/08/2020

نُصرة الإسلام، من العبارات الشائعة التي تُعبّر عن وسيلة الحاكم في شرعنة حكمه في بلاد ذات أغلبيّة مسلمة، سواء أكان الحاكم محتلاً من خارجها أو من أهلها، لهذا تُعدّ هذه العبارة ذات أثر كبير في سيكولوجية بعض المسلمين المعاصرين الذين يسعون لاستحضار أمجاد الماضي، حسب تصوراتهم والمرويات التاريخية التي تسعى لتأصيل ذلك.

اقرأ أيضاً: سيرة مثيرة لصحفية إيطالية اعتبرت الإسلام السياسي فاشياً وعدوانياً

وفي هذا الصدد، تبارت فتاوى نصرة الإسلام لترجيح كفة سياسية ضدّ أخرى، ودخلت العبارة معترك الصراع على السلطة، وشرعنة الحكومات القائمة، أو شرعنة المعارضة التي قد تدّعي الرغبة في الوصول إلى سدّة الحكم، بهدف نصرة الدين.

وقد وصلت الأمور في الزمن الراهن إلى حدّ نشر استطلاعات رأي على شبكات التواصل الاجتماعي تسأل المواطنين عن هوية المُحتل المفضل لديهم، وقد وضع الاستطلاع إسرائيل وتركيا في الخانة ذاتها، ليختار المشاركون الاحتلال التركي، ممّا حاد بهم عن التساؤل المنطقي، ألا وهو: لماذا يرضخ أيّ شعب للاحتلال  من أساسه، أيّاً كانت عقيدته التي يدّعيها؟

 طُوِّعِت عبارة نصرة الإسلام لرفض حقوق النساء في التعليم والعمل لسنوات عديدة مطلع القرن العشرين

لهذا لم يكن الاستطلاع مجرّد سؤال سليم النية، وإنما كان يمرّر رسائل ضمنية عن قبول الاحتلال، طالما أنّ عقيدة المحتل لا تخالف عقيدة من يحتلّ أراضيهم. والأمر ليس بجديد، فلعل التاريخ يذكر (دون اجتزاء)   أنّ مؤسس الحزب الوطني المصري القديم وجريدة اللواء المصرية، مصطفى كامل (1874-1908) ، الذي ناضل ضدّ الاستعمار البريطاني لبلاده، لم يمانع من تبعية مصر للدولة العثمانية (كونها خلافة إسلامية) حسب تصوره.    

وتظلّ عبارة نصرة الإسلام فضفاضة في معناها، وقد تُستخدم في سياقات عديدة بخلاف المعارك السياسية والحربية والاستعمارية. حيث تمّ تطويع العبارة في رفض حقوق النساء في التعليم والعمل لسنوات عديدة في مطلع القرن العشرين، وتمّ تحميل النساء مسؤولية الدفاع عن أهداب الدين وقيم الأسرة والاستقرار الوطني ونصرة الإسلام، عن طريق حثها على رفض الانخراط في المجتمع والاكتفاء بدور الأمومة   وإنجاب المجاهدين.

نصرة الإسلام في تاريخ الاستعمار البريطاني

تفتق ذهن بريطانيا في مطلع القرن العشرين عن نظرية الحكم غير المباشرIndirect Rule ، أي حكم البلاد المستعمرة من خلال شعوبها، وذلك لتقليل حدّة المواجهات الأمنية والحفاظ على جنود الاستعمار.

الحكم غير المباشر، استراتيجية قام بصياغتها اللورد (فريدريك لوجارد) الذي كان مندوباً سامياً لشمال نيجيريا (1900-1906)، وتراءى له أنّها استراتيجية حكيمة للتعامل وبسط النفوذ على إمارة (سكوتو) والتي كانت تُحكم على مذهب الإمام مالك، وذلك عن طريق تمكين ودعم أمرائها الراغبين في تطبيق الشريعة الإسلامية حسب منظورهم، حتى وإن كان بحدّ السيف.

اقرأ أيضاً: الحكم في تركيا إذ يكشف أسوأ مظاهر الفاشيات وأشدها بطشاً

هكذا وجد اللورد (لوجارد) وسيلة لتأصيل وجود الاستعمار البريطاني بدون مواجهات، وعدّ ما حدث في إمارة (سكوتو) مثالاً حيّاً على الحكم غير المباشر، وسعى لكي تستنسخ بريطانيا هذه التجربة في البلاد الإسلامية، لبسط نفوذها بأقلّ الخسائر الممكنة.

موسوليني رافعاً سيف الإسلام  

ومن بعد نظرية الحكم غير المباشر، جاء الرئيس الإيطالي ومؤسس الحركة الفاشية (بينيتو موسوليني) في العام 1934 ليعزّز وجوده الاستعماري في ليبيا، فقام بتفعيل استراتيجية الحكم غير المباشر من خلال  نصرة الإسلام، فوصف القبائل الليبية بـ"المسلمين الإيطاليين على الشاطئ الإيطالي الرابع"، في إشارة إلى الساحل الأفريقي المطل على البحر المتوسط.

كما سعى لترميم المساجد والمدارس القرآنية وتسهيل وسائل سفر الحجيج  إلى مكة، ومن ثمّ تأسيس مدارس إسلامية في قلب طرابلس. وكان الغرض من هذه المساعي هو التأكيد أنّ العدو المشترك لإيطاليا والقبائل الليبية يتمثل في فرنسا وإنجلترا، قبيل الحرب العالمية الثانية.

  رمزية السيف وصلت لسيكولوجية المسلم المعاصر الذي يرى فيه انتصارات تعوّضه عن حاضره

 لكنّ موسوليني ذهب إلى ما هو أبعد من مداهنة المشاعر الدينية، لقد ذهب إلى استيعاب رمزية السيف ودوره التاريخي في ذهنية القبائل المسلمة التي كان يستقطبها لمعسكره الذي سمّاه (ليبيا الإيطالية)؛ فاستخدم السيف دلالة على سعيه لنصرة الإسلام والمسلمين.

 ولهذا نصّب نفسه حامي حمى الإسلام في العام 1937، بعدما أشهر سيف الإسلام الذي تلقاه من القبائل الداعمة له، وهو يعتلي حصاناً، ووعد عشائر القبائل بتطبيق شريعة الإسلام أثناء زيارته إلى ليبيا، فلم يكن أثر السيف ودوره ودلالته في التاريخ الإسلامي غائباً عن موسوليني حينها.

أثر السيف في سيكولوجية المسلم المعاصر

أثر السيوف في النفس الباحثة عن الانتصار الإلهي ليس حكراً على المسلمين وحدهم، فالسيوف لها دلالة  تاريخية ارتبطت بالأساطير في عمومها، ومن بينها أسطورة الملك (آرثر) الذي استطاع أن ينزع السيف من الحجر، وسُمّي سيفه بالـ Excaliburوهو سيف سحري، لا يُنزع من الحجر إلّا بيد من كان له الحق الإلهي في حكم بريطانيا العظمى، وقد اختلف الدارسون حول شخصية آرثر، ويرى بعض الباحثين أنّه كان إلهاً منسياً حوّلته الأساطير إلى ملك.

اقرأ أيضاً: أردوغان "فاشي العصر".. لماذا لقّبه الأكراد بذلك؟

والسيف له دلاله إلهية في الهندوسية كذلك، حيث يُستخدم رمزاً للإله (شيفا) أو الميمون، وهو الإله (المدمّر) الذي يخلق ويحمي ويعيد تشكيل الكون وفي جعبته السيف.

كما احتلّ السيف مكانة كبيرة لدى عرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام، فكان من أدوات الحرب ورمزاً لاستعراض القوة بين القبائل، وتتجلى هذه المكانة في الشعر الجاهلي، الذي تغنت قصائدة بالسيف وفاعليته وجاه من يحمله، مثل أشعار دريد بن الصمّة المعروف بمقاتل الشعراء، والذي قاتل المسلمين وقُتل في غزوة حنين.

 في الموروثات الإسلامية يُعدّ السيف في ذهنية الجماهير رمزاً لمعارك وانتصارات المسلمين الأوائل

في الموروثات الإسلامية، يُعدّ السيف، في ذهنية الجماهير، رمزاً للمعارك والانتصارات التي خاضها المسلمون الأوائل في زمن الرسالة من 2 إلى 9 هـ، وتستند هذه الرمزية إلى حديث: "إنَّ أبْوابَ الجَنَّةِ تَحْتَ ظِلالِ السُّيُوفِ".

لم ترد كلمة السيف في القرآن الكريم صراحة، لكنّ ذلك ليس دليلاً على غيابه في القتال، لأنّ السيف كان سلاح العرب الأوّل في صدر الإسلام، حتى وإن لم يُذكر لفظاً، وفي هذا السياق، انتشرت عبارة (آية السيف) بين جموع المسلمين على مدار قرون من الزمان، في إشارة إلى الآية رقم 5 من سورة التوبة: "إِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم".

وقد وردَ هذا الوصف في تفسير ابن كثير (المتوفى 774 هـ) قائلاً: وَهَذِهِ الْآيَة الْكَرِيمَة هِيَ آيَة السَّيْفِ   (ج 4/99). ونزلت -في قول الجمهور- ناسخة لجميع الآيات التي فيها الصفح والكفّ عن القتال، ومن هنا جاءت أزمة فقهية اختلف فيها الأئمة المعاصرون، وهي الناسح والمنسوخ. ولهذا فإنّ السيف، حتى وإن لم يرد لفظاً في القرآن الكريم، تظلّ قيمته ضمنية لدى جمهور الفقهاء الذين عدّوا آية السيف ناسخة لما جاء قبلها من آيات السلم.

اقرأ أيضاً: الشيوعية والفاشية والنازية: ماذا كانت تريد الشموليات من العالم؟

ومن هنا جاءت رمزية السيف عبر القرون، وصولاً لسيكولوجية المسلم المعاصر الذي يرى في السيف انتصارات تعوّضه عن حاضره، بل قد ترى بعض الجماهير أنّ الأسلحة النارية خالية من شجاعة المبارزة  في الأزمنة الأولى للإسلام.

 كما تجلت قيمة السيف لدى المسلم المعاصر في الاهتمام بتاريخ وأسماء سيوف النبي والصحابة في صدر الإسلام، من خلال كتب السير، ومنها ما جاء في كتاب زاد المعاد في هدي خير العباد، لابن قيم الجوزية  (المتوفى 751 هـ).

واحتلّ السيف رمزية أخرى في التاريخ الإسلامي، فكان يُستخدم في صيغة الثناء، حيث ورد في الحديث النبوي أنّ الرسول   قال: خالد بن الوليد سيف من سيوف الله سلّه الله على الكفار  (سنن  الترمذي)، ومن ثمّ لقبّه بسيف الإسلام المسلول. وقد توارث جمهور المسلمين عادة تسمية أبنائهم من الذكور بسيف الإسلام أو سيف الدين، حتى في الأزمنة المعاصرة.

السيف يعتلي منبر آيا صوفيا   

شُيّدت كنيسة آيا صوفيا (ومعناها الحكمة الإلهية باللغة اليونانية) في العام 532م، في عهد الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأول، أي إنّ تاريخ بنائها جاء قبل الإسلام ذاته، الذي توافق عامه الهجري الأول مع العام 622م. أضحت الكنيسة فيما بعد كاتدرائية للروم الكاثوليك بين عامي 1204م – 1261م، حين حوّلها الصليبيون مركزاً لهم أثناء الحملة الصليبية الرابعة، قبل أن تعود مجدّداً للإمبراطورية البيزنطية. ثم استولى عليها السلطان محمّد الفاتح بعد سقوط القسطنطينية في يده العام 1453م، وأقام الصلاة فيها، وغطّى على نقوشها المسيحية وحوّلها مسجداً.

ومع سقوط الخلافة العثمانية، لم يُعِد مصطفى كمال أتاتورك المسجدَ إلى كنيسة، وإنما تحوّلت البناية لمتحف منذ العام 1934؛ لذا فإنّ تصريح أردوغان بعودة المسجد إلى أصله فيه تضليل تاريخي، حيث محا الأصول التاريخية له.

اقرأ أيضاً: أولبرايت تحذر من انتعاش الفاشية في كتابها الجديد!

قبل اللجوء إلى التفسيرات التاريخية التي تحلل مشهد اعتلاء وزير الشؤون الدينية التركي علي أرباش   لمنبر آيا صوفيا حاملاً السيف في صلاة الجمعة، قد نقتبس نظرية (هيوجو مرسير)، الباحث الفرنسي المتخصص في علم النفس الإدراكي، من خلال كتابه الصادر في العام 2020 وعنوانه: لم نولد بالأمس: من نصدق وبماذا نؤمن من منظور العلم، وفيه يقول إنّ البروباغندا الإعلامية غير مؤثرة في تغيير آراء البشر بشكل قطعي، وإنما تسعى لتبرير ما يحملونه من أفكار راسخة بالفعل.  

مشهد حمل الوزير التركي للسيف بمنبر آيا صوفيا نموذج للتوظيف السياسي لإيحاءات رفع راية الإسلام

 لعل هذه هي الاستراتيجية النفسية التي تمّ تطويعها في مشهد اعتلاء علي أرباش المنبر متكئاً على السيف، فهو يثير حماسة جمهور المصلين المتوافدين، وهدفه من خلاله مداهنة المشاعر الدينية للمسلمين عامة، الذين يعدّون السيف رمزاً للغزوات منذ عهد النبوة، ومن ثمّ رمزاً لتوسع الدولة الإسلامية فيما عُرف تاريخياً بزمن الفتوحات. حتى وإن لم يرد تاريخياً ما يدلّ على حمل السيف في خطبة الجمعة في عهد النبوة، فما ورد عن ابن القيم الجوزية في زاد المعاد "ج 1 ص 117": أنّ النبي لم يكن يأخذ بيده سيفاً ولا غيره، وإنما كان يعتمد على قوس وعصا قبل أن يتخذ المنبر. هنا تُعدّ رمزية حمل السيف في الخطبة أبعد تاريخياً من مجرّد تقليد يتبعه سلاطين الدولة العثمانية.

مشهد حمل السيف على المنبر، ومشهد تلاوة أردوغان للقرآن، الذي تعلمه في مدرسة إمام الخطيب   (مدرسة الدعاة والأئمة) صغيراً، مقصود منه الإيحاء برفع راية الإسلام وسيفه معاً، كوسيلة لتبرير النوايا التوسعية للخلافة الحديثة التي يسعى الرئيس التركي لإحيائها.  

المشهد قد تكون دلالته أكثر بُعداً من إعادة أمجاد الخلافة العثمانية، فهو يهدف إلى استمالة سيكولوجية المسلم المعاصر وإعادة فتح الحديث حول الولاء للدين أوّلاً، أي تناول مفهوم أنّ الوطن هو دار الإسلام، وأنّ النصر يتمّ تحت راية العقيدة دون سائر الرايات، والجهاد هو جهاد لنصرة دين الله وشريعته. أي إنّ المشهد يسعى لاستقطاب المسلمين غير المتوافقين مع أردوغان تنظيمياً بالضرورة، عن طريق مداهنة مشاعر نصرة الله وسيف الإسلام، في دلالة رمزية قد تخدم مشاريع توسعية استعمارية مستقبلية. 


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية