يسمى القرن العشرون بالقرن الطويل؛ إذ فيه تشكلت معالم حياة البشرية الجديدة القائمة اليوم، كما شهدت بدايته حربين عالميتين طاحنتين، قسمتا خريطة العالم بوضوح؛ جغرافياً وسياسياً، بينما بدأت علاقات الإنتاج والصناعة والتكنولوجيا تتطور خلاله بشكلٍ متسارع، وتتغير كل عقدٍ من الزمان تقريباً، أما الإنسان، فأخذ يتحول، خصوصاً في نظر الأفكار الشمولية من ذاتٍ فاعلةٍ وراغبةٍ في هذا العالم، إلى مجرد موضوع، يُقاد غالباً كأنه آلة.
تميز هذا القرن في بدايته بولادة الشيوعية والفاشية والنازية، وهي منظومات أفكارٍ ثلاث، أرادت أن تنتج "الإنسان الجديد" على أنقاض إنسانٍ قديمٍ افترضت أنه غير صالحٍ للتطور وتقدم الأمم، غير أنّ نظرتها وسياساتها كانت في الغالب مدمرة، فكيف تجلّى هذا الدمار في كلٍّ منها؟
الموت حل أولي!
يقول المفكر والكاتب الإسباني، خوسيه جاسيت، في مقالٍ له العام 1927، إنّ الفاشية "تمثل الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، فهي تقدم صورةً للدولة القوية، لكنها تستخدم أقوى الوسائل من أجل تفكيكها، وهي تحارب الديمقراطية المعاصرة، لكنها في الوقت ذاته تدعو دائماً إلى الثورة في جميع المجالات!".
الفاشية والنازية لم تكونا راضيتين عن الطبيعة البشرية كما هي بل إن قتالهما كان ضد هذه الطبيعة نفسها
لعل ارتباط الفاشية باسم موسوليني، يسهل فهمها؛ إذ استخدم الزعيم الإيطالي مصطلح "الفاشية" لأول مرة لوصف "حركة سياسية جمعت بين التعصب القومي والعداء لكل من اليسارية والسياسة المحافظة العام ١٩١٩. وبعد ثلاثة أعوام، تولى موسوليني مقاليد السلطة على رأس ائتلاف مدعوم من المحافظين، وفي العام ١٩٢٦بدأ يؤسس ديكتاتورية واسعة النطاق. وبحلول هذا الوقت، باتت الفاشية محط إعجاب عدد كبير من الشخصيات السياسية والأدبية البارزة في بقاع كثيرةٍ خارج إيطاليا". وذلك وفقاً لكتاب "الفاشية" لمؤلفه كيفن باسمور.
وتوضحت الفاشية كسياسةٍ شموليةٍ في إيطاليا؛ إذ تميزت، كما يقول باسمور، بأنّها "تتجلى من خلال حكم حزبٍ وحيد، ورجل واحد، وهو أعلى من أي نظامٍ بيروقراطي أو مؤسساتي في الدولة، وهذا الحزب، يمكن له ممارسة الإرهاب المنظم من خلال أجهزته الأمنية ضد كل من يعده عدواً له، وهو يحتكر وسائل الإعلام، ويسيطر على الاقتصاد، كما يطرح أيديولوجيا معقدة وفاشية؛ لأنها تتدخل في معظم مناحي حياة البشر".
من جهتها، صعدت النازية في ألمانيا بوضوحٍ العام 1933، بعد أن أصبح صراخ هتلر على المنابر مولداً لنوعٍ من "اليوتوبيا العنصرية" مثلما تصفها أستاذة التاريخ في جامعة السوربون ثوم فرانسواز، التي تضيف كذلك في دراسة حول الإنسان الجديد، موثقةٍ بعنوان "قصة السوفييت" في 2017، أنّ "الفاشية والنازية بالذات، لم تكونا راضيتين عن الطبيعة البشرية للإنسان كما هي، بل إنّ قتالهما كان ضد الطبيعة البشرية نفسها (الحرب العالمية الثانية)، وهذا جوهر الاستبداد في كل المذاهب الفكرية الشمولية، وهكذا فإنّ الفاشية والنازية استندتا على طبيعةٍ خاطئة، بينما استندت الشيوعية على علم اجتماعٍ خاطئ".
اقرأ أيضاً: راسبوتين.. الراهب الغامض الذي سرّع بنجاح الثورة الشيوعية
من الطبيعي أن يعترض أنصار الماركسية الشيوعية على هذا التوصيف، لكن هذا ما سوف يثبته العلم بطريقةٍ أو بأخرى. وليس التاريخ وحده؛ إذ توجد في روسيا نفسها اليوم، وفي سجلاتٍ تاريخيةٍ متنوعةٍ حول العالم، توثيقات المزارعين والمواطنين الروس، الذين ماتوا بالملايين لأجل أن تقوم الشيوعية. فقد تسببت عملية تحويل المجتمع الروسي من زراعيٍ بالأساس، إلى مجتمع عمالٍ صناعي، وسلب ثرواته الحيوانية والنباتية، بمجاعاتٍ أدت إلى موت الملايين من المواطنين الروس، الذين عانوا الفقر عموماً في عهد القيصر الأخير. إنها ما يمكن وصفه بالإبادة الانتقائية، مما جعل الموت حلاً أولياً! من أجل بناء مجتمعٍ جديدٍ أفضل! وهذا بالأساس جوهر النازية والفاشية التي كانت الماركسية تعترض عليهما، بوصفها أتت بالعدل والمساواة والسلام.
الشيوعيون الواثقون
يتحدث المؤرخون بسخرية عن أنّ لينين لم يتسبب بموت الكثيرين، قياساً إلى خلفه ستالين الذي قُتل في عهده أكثر من عشرين مليوناً من شعبه.
استندت الشيوعية إلى علم اجتماعٍ خاطئ يتعلق بالمساواة بين البشر وإبادة الطبقات الاجتماعية بمحرقة ثورية ضد الرافضين
وهو ما يؤكده المؤرخ نورمان نايمارك، في كتابه "ستالين، والإبادة الجماعية"، الذي درس فيه كل الوثائق التاريخية والعلمية الممكنة من عدة دولٍ وأطراف، ليرى إن كانت الشيوعية قدمت فعلياً، أي شيءٍ عمليٍ أسهم في تقدم البشرية، وخصوصاً لمواجهة أولئك الذين رأوا في تجربة ستالين، انحرافاً عن النظرية الماركسية العظيمة برأيهم. إذ يقول نورمان في خلاصات أبحاثه، أن "هتلر وستالين يكادان يتساويان، فكلاهما قاما بتمزيق حياة البشر من أجل اليوتوبيا الوهمية التي حلما بها من أجل قيام مجتمعٍ لا يضم إلا البشر العباقرة والخارقين".
لكن الأمر لا يتوقف عند نورمان، الذي يؤكد أن "الماركسية بحد ذاتها حملت كالنازية بذور دمار الطبيعة البشرية "، إذ ومن قلب روسيا نفسها، يشير العالم والباحث المختص في دراسات دماغ الإنسان البروفيسور سافيلييف أنّ "البحوث العلمية الخاطئة في هذا المجال، أنتجت نظريات اجتماعية كالنازية والشيوعية، كانت خطأً بدورها لأنها بحثت عن إنسان خارق، دون فهم آليات التطور لديه"، وربما هذا ما جعل من الأسهل أن يتم قمع الناس بحجة المساواة ومن ثم إبادة المعترضين.
اقرأ أيضاً: آلاف النازيين الجدد في شوارع ألمانيا... هذه مطالبهم
كان كارل ماركس يقول إنّه "يمكن إنشاء إنسانٍ جديد على أساس المساواة" وهي مقولة اقتبسها من عالم فسيولوجيا فرنسي (ماري جان فلورانس)، وذلك لأن ماركس ظن أن العقول نفسها والأدمغة يمكن لها أن تتطور متساويةً، ويعتقد فاسيلييف ضمن الوثائقي الذي عرضته قناة "روسيا اليوم" بتاريخ 2 آب (أغسطس) 2017، أن خطأً جسيماً ارتكبه ماركس، لأن الأدمغة البشرية "لا تتساوى حتى لو تساوت الظروف والبيئات المحيطة بها، ما يعني أن اليوتوبيا الأيديولوجية التي كان يحلم بها ماركس أن تترسخ في العقل البشري من خلال مساواة العقول والأدمغة والعبقريات بين البشر"، كانت محض خطأ قاتلٍ علمياً، وبالتالي لا يمكن حصوله اجتماعياً، على حد تعبيره.
البروفيسور فاسيلييف متحدثاً:
وبحسب فاسيلييف، فإنّ فكرة "التضحية بجيلين أو ثلاثةٍ في المجتمع، من أجل إنشاءٍ جيلٍ تالٍ مميز وخارق" نشأت غالباً على أساس هذه الفكرة الخاطئة لماركس. والتي تتجلى بصورٍ مختلفةٍ قليلاً، وأكثر راديكالية أحياناً، في النازية والفاشية".
إذن، هل كان كل القتل الذي مارسته النازية والشيوعية تحديداً، أمراً ضرورياً، أم مجرد مصادفة يتم من خلالها تبرئة النظرية بالذات؟
آمنت هذه الأنظمة بالتضحية بجيلين أو ثلاثة في المجتمع من أجل إنشاء جيل تال مميز وخارق
لعل الإجابة تكمن في مقالةٍ نشرها شريك ماركس في "البيان الشيوعي" فريدريك أنجلز العام 1849 في مجلة "نويه راين تسايتونغ"، فسّر فيها الصراع الطبقي حسب رأيه، بوجود "مجتمعاتٍ بدائية في أجزاء من أوروبا، سوف تتأخر عن التطور لعدة أجيال، بسبب عدم وصول الرأسمالية إليها، وحدد في مقالته صربيا وإقليم الباسك واسكتلندا وغيرها كذلك، واصفاً شعوب هذه البلاد بأنها "شعوبٌ محطمة، وأن دولاً كبولندا مثلاً، لا داعي لوجودها أصلاً".
بينما أتى كارل ماركس بعده ببضعة أعوامٍ ليقول في ورقة بحثية بعنوان "ورقة العامة"، إنّ "الأجناس والطبقات الاجتماعية أضعف من أن تقود حياةً جديدة، لذلك يجب أن يفسح المجال أن يقضى عليهم في المحرقة الثورية".
وهكذا يبدو أن ماركس، هو من ابتكر فكرة الإبادة السياسية الجماعية الحديثة بمبرراتها، بعد تعليقه أو تطويره لفكرة إنجلز؛ فهو يتحدث بصورةٍ غير مباشرة عن إبادة أجناس بشرية، أو باللغة الماركسية إبادة طبقاتٍ اجتماعية بطريقةٍ أو بأخرى.
اقرأ أيضاً: كيف تعرف أنك فاشي؟
ولعل أفكار ماركس وإنجلز، تمت دراستها بعنايةٍ من قبل لينين في روسيا؛ فهو صاحب أول دولة ماركسيةٍ في التاريخ، بينما وبعد العام 1924، نشأ حزب العمال الاشتراكي الوطني كمقدمةٍ لصعود هتلر، الذي كان وزيره ومساعده الإعلامي غوبلز يؤكد أن الفرق بين الشيوعية ونازية هتلر بسيط جداً، إلى أن غيرت النازية بعض سياساتها لاحقاً. وقد خاض عديدون التجربة الشيوعية كما لدى ماو في الصين، الذي كرر ما فعلته الشيوعية في روسيا من تدميرٍ وتخريب للقطاع الزراعي وقتلٍ للمعارضين تحت اسم "الثورة الثقافية" التي لما تتعافَ الصين منها اقتصادياً إلا بعد أن انقضت هذه الثورة.
وشجع عديدون النازية، كالكاتب البريطاني الشهير برنارد شو، الذي فهم منها أنّ "نصف البشرية بلا فائدة، وأنّ المفيد هو من ينتج كثيراً ويستهلك أقل، وإلا فلا فائدة لوجوده". وهذا جوهر المحاولة الفاشلة للشموليات، لإيجاد الإنسان الخارق، الذي هو آلةٌ بطريقة ما، يتم تطويعها أيديولوجياً، والتحكم بها شكلاً وموضوعاً، مع إلغاء ذاتها قدر الممكن، أو توظيف هذه الذات خارج رغباتها. وخلق عقولٍ متساوية أو متشابهة. وأدمغةٍ معالجةٍ بيولوجياً حتى! كان هدفها التقدم عند هتلر ولينين وماركس وستالين وموسوليني وغيرهم، لكنهم هنا أصبحوا هم المتشابهين، بل ويكادون يتساوون جميعاً هم وشمولياتهم، بما خلقوا من حربٍ عالمية، وإبادةٍ للجنس البشري.