ما الإسلام السياسي؟: صراع التأويلات وسياق النشأة (١-٢)

ما الإسلام السياسي؟: صراع التأويلات وسياق النشأة (١-٢)

ما الإسلام السياسي؟: صراع التأويلات وسياق النشأة (١-٢)


31/12/2023

كيف يمكن أن نكتب تاريخاً، وأن نرسم سياقاً اجتماعياً وتاريخياً لنشوء الإسلام السياسي في أوائل القرن العشرين؟ قد يبدو السؤال سهلاً، لكنّ الحال ليس كذلك؛ فالكتابات عن الإسلاموية وتاريخها وتحولاتها مترامية، وغالباً ما تنطلق من افتراضات ثابتة وجوهرية تفسر التاريخ الإسلاموي من خلالها، ككيان متجانس، له رؤية بنيوية واحدة، وله مسار تاريخي محدد، ويسعى إلى هدف أوحد ووحيد؛ فالحال "ليست هذه الحركات ظاهرة من خارج المجتمع، أو من خارج التاريخ، ومن الصعب فهم أيّة ظاهرة من خلال تنميطها تحت مسميات معينة، ذلك أنه لم يعد ممكناً، بفعل العديد من التطورات، فصل الموروث الثقافي عن البيئة الاجتماعية، وبات من الضروري منهجياً الاجتهاد في قراءة الظاهرة السياسية الإسلامية"1.

أنّ الإسلاموية كظاهرة ليست كياناً ثابتاً؛ بل هو حقل للدراسة، ولتنازع التأويلات التي يأتي بها الباحثون من شتى خلفياتهم الأيديولوجية والفكرية

نحاول في هذه المقالة تتبع الجدالات المرتبطة بالإسلاموية ومفعولها الديني والسياسي في الراهن الإسلامي؛ فالإسلاموية تمثل حركة واسعة النطاق، وتمضي في عدد من الدول، وتنشر رؤية سياسية ودينية وأخلاقية لمتبعيها، لدرجة أنها نزعة ذات جاذبية داخل سياقات متبانية، كما نسعى، في الجزء التالي منها، إلى تتبع تاريخي يحاول رسم ملامح السياق السابق على نشوء الإسلاموية المعاصرة، والذي من خلاله يمكن لنا موقعة التيار السياسي الإسلامي في سياقه الصحيح؛ فهو وليد تطور سياسي وثقافي بالأساس، بالإضافة إلى نشوء مجال سياسي واسع، متسم بالحزبية، إلى جانب قوة علمائية ممثلة في علماء الدين والأزهر، منذ انقسام السلطة في أواخر القرن الثامن عشر، كما يشير المؤرخ المصري، شريف يونس2، إلى سلطة فعلية في يد المماليك، وسلطة شرعية في يد السلطان.

كما أنّه لا يمكن التأريخ جيداً للإسلاموية الوليدة في سياق سياسي وثقافي واجتماعي مضطرب، دون المرور بما أحدثته الحداثة من صدمة، سواء أكانت الحداثة الوافدة آتية في شكل استعمار، أو في شكل محاكاة للغرب الذي نظر إليه باعتباره أكثر تقدماً، فراحت محاولات إصلاحية لإصلاحيين مسلمين، كمحمد عبده وجمال الديني الأفغاني، ترمي إلى إصلاح المجال الديني الإسلامي لاستيعاب الجديد الذي ظنّ أنّ بعض العلوم الموروثة تمثل عائقاً في استيعابه إسلامياً، وهذا الإصلاح الديني في أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين كان قائماً بالأساس على محاولة تجسير الهوة بين الهوية الممزقة والحداثة الجارفة؛ فكان ضرباً من ضروب المواءمة الهادئة.

الصراع على تفسير الإسلاموية

إننا نميل إلى التحليل الاجتماعي والسياسي المبتعد عن النزعات الجوهرانية والبنيوية التي تعمل على تأبيد النقاش؛ فبالنسبة إلى كثير من الباحثين، الإسلاموية كـ "حركة دينية" هي إحياء لشيء ما جوهري وقديم كامن في الإسلام نفسه؛ أي يتم التعامل مع الإسلاموية كتمثيل للإسلام في شكله السياسي، بالطبع؛ يلتقي في ذلك التوجه اليميني الذي يحاول أن ينمّط الإسلام باعتبار أنّ حركات الإسلام السياسي، التي غدت تسميات كثيرة تطلق عليها كـ "الأصولية الإسلامية" وغيرها، هي التمثيل الأنقى سياسياً عن الإسلام، أقول يلتقي مع تصورات الإسلامويين لأنفسهم باعتبارهم امتداداً لهذا السياسي "الجوهري" في الإسلام.

اقرأ أيضاً: لماذا تتعثر مواجهة أفكار الجماعات الإسلاموية؟

بالنسبة إلى المنظر الإيراني-الأمريكي آصف بيات3؛ إنّ هناك نزعتين حاولتا تفسير الإسلاموية كـ "نشاطية دينية"، كما يسميها بيات، في الأزمنة الحديثة:

أولاً: هناك النزعة الحداثية التي يمكن التمثيل لها بشقين: يميني ويساري؛ فيمين هذه النظرة يمثله المستشرق الراحل برنارد لويس؛ الذي صاغ فكرة "صدام الحضارات"، ومثلها أفضل تمثيل صمويل هنتجتون؛ حيث يرى هذا التيار اليميني الإسلاموية باعتبارها حركة رجعية قام بها المثقفون التقليديون وفقراء المدن ضد التحديث الغربي، رافعين شعار الإسلام كرمز لهم، أما يسار هذه النزعة؛ فيمثله آلان تورين وألبرت مليوتشي؛ فتورين في تحليله للحركات الاجتماعية، كمنظر اجتماعي، كان قد عيّن الحركات الدينية السياسية باعتبارها "ضدّ حركة"، وفق تقسيمه بين التقدمي والرجعي.

اقرأ أيضاً: العلمانية كحلّ؟.. الإسلاموية وعلاقة الدولة بالدين

ثانياً: هناك تلك النزعة التي تسعى إلى توصيف الحركات السياسية الإسلامية، كردّ فعل لما بعد الحداثة، باعتبارها تسعى إلى الاختلاف الثقافي والديني عن النموذج الغربي المهيمن، وإلى صناعة إيتيقا بديلة لتلك التي تنشرها العلمانية المعولمة غربياً على بلدان العالم الثالث، في هذا السياق؛ يمكن تذكر وصف فوكو للثورة الإيرانية (١٩٧٩) باعتبارها "أول ثورة ما بعد حداثية في عصرنا"4، ونجد أنّ فرانسوا بورغا قد ذهب حدّ اعتبار الحركات الإسلاموية في العالم الثالث كطور ثالث من مناهضة الاستعمار، أو بتعبيره "الإسلام السياسي كصوت الجنوب"5.

اقرأ أيضاً: الانفصال عن الإسلاموية باعتبارها إعادة اكتشاف للإسلام

تفيدنا تقسيمات بيات، الذي سنعود إليه لاحقاً في مقالة أخرى حول ما بعد الإسلاموية وإشكالاتها، في تفحص النزعات الغربية التي تعاطت حتى وقت قريب مع الإسلاموية، لكن ما يهمنا، إضافة إلى طرح بيات، هو التأكيد على أنّ تلك التفسيرات لا تخلو من أيديولوجيا معينة، ونظرة إبستمولوجية نحو تيارات الإسلام السياسي، والإحياءات الدينية في العالم؛ فتلك التأويلات المتنازعة، وهذا ما يفوت بيات تحليله، مرتبطة إلى حدّ كبير برؤية هؤلاء الباحثين للعالم، وللصراع فيه.

فعندما وصف التيار اليميني الإسلام السياسي كإحياء لجوهر كامن في الإسلام؛ فإنّ ذلك نابع من رؤيته إلى الإسلاموية كردة عن الحاضر، وارتماء في حضن الماضي، السحيق، الذي سببه جرح سقوط الخلافة، وبينما، على الطرف الآخر، حلل غير ما واحد الإسلاموية كتيار مناهض للاستعمار، فذلك نابع أيضاً من رؤية يحدها الصراع في العالم العربي بين شعوب أهلانية وحداثة كولونيالية تريد تنميط العالم عبر ثقافة واحدة، وهي ثقافة أورومركزية.

ما قصدته؛ أنّ الإسلاموية كظاهرة ليست كياناً ثابتاً؛ بل هو حقل للدراسة، ولتنازع التأويلات التي يأتي بها الباحثون من شتى خلفياتهم الأيديولوجية والفكرية؛ فعلى مدار القرون الماضية، منذ نشوء الإسلاموية، تباينت الجدالات المصاحبة لتلك النشأة على المستوى الإسلامي والمستوى الأوروبي، وتكتسب هذه الجدالات حدة بشكل غير مسبوق الآن، سيما في "عصر التطرفات"؛ الذي نحياه، بتعبير المؤرخ الراحل إيرك هوبزباوم6.

الإسلاموية: استمرار للخلافة الكلاسيكية؟

مثلت سردية سقوط الخلافة العثمانية في بداية القرن العشرين ثابتاً مركزياً بالنسبة إلى الباحثين الذين يدرسون سياق نشأة الإسلاموية، سيما حركة الإخوان المسلمين في مصر عام ١٩٢٨، هذه السردية تقول، ببساطة: إنّ سقوط الخلافة سبب جرحاً نرجسياً عند المسلمين، ما أدى إلى بزوغ تيار، سيتزعمه الشاب الناشئ وذو القبول الاجتماعي، حسن البنا، لما له من ميكانزمات خطابية ووعظية.

في طبيعة الحال؛ إنّ الإسلام السياسي، بطروحاته الأخلاقية والسياسية، ورؤيته للدين باعتباره منطوياً على الشكل والمضمون السياسي الذي يجب على المسلمين الالتزام به، تغيّر على مدار التاريخ، واتخذ أشكالا براغماتية متعددة، إلا أنّ الحركة التي أسسها حسن البنا، في نهاية عشرينيات القرن العشرين، كانت في بدايتها تقدم أطروحة بسيطة، يمكن اختصارها بالآتي: عاش المسلمون لقرون طويلة في كنف الخلافة الإسلامية، وسقوط هذه الخلافة سيفسد الرابطة السياسية للمسلمين (وهنا تسييس فكرة الخلافة بالتحديد)، ومن ثم فهذا الفساد المستشري في عالم الإسلام لن يحله إلا استعادة فكرة الخلافة بالأساس.

من هذا المنطلق؛ سنطلق على الحركة الإسلاموية الوليدة وصف أنها كانت "حركة خلافوية"؛ أي حركة مرتكزة إلى فكرة الخلافة باعتبارها جامعاً للمسلمين، ولا يمكن صلاح ذات بينهم الاجتماعي والديني والسياسي إلا بهذا الكيان الخلافوي الجامع.


كانت فكرة حسن البنا في البداية هي الدعوة لاستعادة الخلافة، أو لما سمّاها الدولة الإسلامية، وهو مصطلح غامض دخل إلى الفضاء التداولي الإسلامي حديثاً، ولا يمكن بحال الحديث عن دولة إسلامية ما قبل حديثة، حتى الخلافة الإسلامية التي أسقطت لم تكن بحال دولة إسلامية، وهذا لا بدّ من التشديد عليه، وأود التفصيل فيها الآن؛ لأنّ الفكر الإسلاموي المكتوب والمرئي والمذاع بين الناس يؤكد هذه الفرضية الأيديولوجية الخاطئة، والتي يستعان لإثباتها بفرضيات تاريخية تدل على الوعي اللاتاريخي لدى تيارات الإسلام السياسي الساعية إلى إنشاء دولة إسلامية (متخيلة؟).

رأى حسن البنا أنّ الوضع الإسلامي بعد سقوط الخلافة قد آل إلى ترد مخز، الأمر الذي دفع البنا إلى التفكير في حلّ للمعضلة الإسلامية التي كانت قد مرت بعد مسارات (إصلاحية) وفشلت، وجد البنا، ببساطة، أنّ الحلّ يكمن في عودة نظام الخلافة الذي جمع المسلمين على مدار قرون طويلة، لكنّ هذه "الاستعادة" للخلافة لن تكون امتداداً للتقليد الخلافي الذي عاش في ظله المسلمون؛ بل سيتم تسييقه وفق شرط جديد للعصر الذي تغير تماماً واختلف، من ناحية بنيوية، مع سابقه معرفياً وسياسياً واجتماعياً.

لقد أدى ما أطلق عليه محمد نبيل ملين "السراب العثماني"7؛ الذي حلّ في نهاية القرن الثامن عشر وبدايات العشرين إلى "الوهم الإسلاموي"؛ الذي سيزرع خيمة مفاهيمه وفكرته عن الإسلام والمسلمين ونظام الحكم في متاهة هذا السراب.

في كتابه "الإخوان المسلمون من الداخل"؛ يشير السوسيولوجي المصري بجامعة أكسفورد، حازم قنديل، إلى أنّ حسن البنا "عاش في مجتمع أصبحت كثير من الشرائح فيه أكثر "تأوروباً" (Europeanised) "، ويحيل قنديل هذا "التأوروب" إلى حركات الابتعاث الأوروبي ودخول أنماط الحياة الحداثية التي، من منظور قنديل، وافق المسلمون بينها وبين تقليدهم الديني، من هذا الشرط الحرج، نشأ البنا، ونشأت تصوراته لمجتمع أكثر إسلامية، لكن؛ ما هو الإسلامي؟ وماذا يعني بالتحديد؟ فعندما نقول مصطلح أو كلمة "إسلامي"؛ فإنّ الحسّ الأول يحيلنا إلى شعور بالتقليد الديني للمسلمين، بيد أنّ هذا الشعور، لوهلة، غير صحيح، لقد تبدلت الأنظمة المعرفية الإسلامية مع دخول القرن التاسع عشرن والقرن العشرين، مما بدل معه مصطلحات مثل "إسلامي"؛ ذلك المصطلح الذي بدأ ينتشر، على مستويات عدة، بمعان مختلفة، وبدأت المعرفة تمتلئ بـ "فنّ إسلامي"، و"أدب إسلامي"، و"لباس إسلامي"، وغيرها، لكن هذا الوصف "إسلامي"؛ هو حديث جداً، وله جينالوجيا محددة تمكن إحالته إليها.

ما "الإسلامي"؟ وما الإسلام السياسي بالنسبة إلى واقعه؟ وما هو بالنسبة إلى الشعوب التي نشأ في وسطها، وإذا حدّدنا في مصر أوائل القرن العشرين؟ ما الإحداثيات القبلية التي هيأت المجال لنشوء ما يسمى بإسلام سياسي؟ وماذا يعني تسييس الإسلام؟ وهل لذلك علاقة بالتقليد؟ تلك بعض الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها في المقالة القادمة.


هوامش:

1- انظر: “الحركة الإسلاميّة: الإرهاصات والأزمنة التأسيسيّة، المرجعيات والمسارات الصعبة"، لعبد الغني عماد، في الحركات الإسلاميّة في الوطن العربيّ، المجلد الأول، مركز دراسات الوحدة العربيّة، ص ٢٦.
 2 - انظر: البحث عن خلاص: أزمة الدولة والإسلام والحداثة في مصر، شريف يونس، ص ١٣٩، الهيئة العامة المصريّة للكتاب.
 3 - انظر: “النزعة الإسلاميّة ونظريّة الحركة الاجتماعيّة"، لآصف بيات، في كيف نقرأ العالم العربيّ اليوم: رؤى بديلة في العلوم الاجتماعيّة، صص ٢٣٧-٢٣٨، دار عين للنشر.
 4 - M. Foucault, “an interview with Michel Foucault,” Akhtar, 4, 1987, p 43.
 5- انظر: الإسلام السياسيّ: صوت الجنوب، فرانسوا بورغا، دار العالم الثالث.
 6- انظر: عصر التطرفات: القرن العشرون الوجيز، إيريك هوبزباوم، ت. فايز الصياغ، المنظمة العربيّة للترجمة.
  7-انظر: الخلافة: التاريخ السياسيّ للإسلام، محمد نبيل ملين، ت. عبد الحق الزموري، جسور للنشر، ص ١٦٧ وما بعدها.
 8- - See: Hazem Kandi, Inside the Brotherhood, Polity, 2018.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية