ما الوجه الآخر لتجديد الثقة بالغنوشي؟

ما الوجه الآخر لتجديد الثقة بالغنوشي؟


04/08/2020

تُجيد جماعة الإخوان المسلمين تشكيل الفراغ، تعلم جيداً كيف تُبروز نصف الصورة لتصنع مظلومية كبيرة تستهلكها لسنوات، وكيف تحوّل الهزيمة الفعلية إلى نصر متخيل، تماماً كما يحدث في تونس. 

فجأة، انسلخت حركة النهضة الإخوانية عن شهور من الانكسارات، لتبدو كما لو كانت أخرى تحكم تونس وحدها، وتصيغ الديمقراطية في أحاديث رئيسها راشد الغنوشي، حتى إذا ناقضت نفسها بأحاديث سابقة وتالية، تصف من صوّت لصالح سحب الثقة بـ"المموّلين". 

تجديد الثقة براشد الغنوشي هو أفضل ما كان يمكن أن يحدث، إلا أنه يظل دون النصر بخطوات كثيرة

ورغم أنّ تجديد الثقة بالغنوشي، هو أفضل ما كان يمكن أن يحدث في الجلسة البرلمانية، إلا أنه يظلّ دون النصر بخطوات كثيرة، فأين النصر ورئيس البرلمان التونسي يتعرّض للمرّة الأولى للمساءلة؟ وينجو من سحب الثقة بفارق أصوات قليلة! والأهمّ ما ينتجه ذلك الانتصار المقنع من صلة وتشبث أكبر للحركة بالبرلمان، أو الإقبال على "مقامرة" غير مقبولة العواقب حال رفضه، تجعلها متوجسة ومترقبة، هل سيتمّ تمثيلها في الحكومة، وبمَ؟ وكيف تتصرّف وقتها؟ 

أي إنّه، بعيداً عن الخطب الرنانة والاستثمار الضخم في نصر متخيل، الحركة مازالت أمام كثير من العقبات والأزمات؛ الأولى شبح عدم تمثيلها في الحكومة القادمة، والثانية تحسّس الغنوشي خطواته وكلماته حيال القضايا الخلافية، والثالثة سعي الحركة لإيجاد صيغة أو مشروع تبدو من خلاله أكثر انفتاحاً ووطنية، لترميم آثار المرحلة السابقة، وأخيراً، فهي ما زالت أمام عبء المؤتمر العام للحركة، والذي يُفترض أن يُنتج "نهضة دون الغنوشي". 

الباحث أبو الفضل الإسناوي: إنّ حركة النهضة لم تنتصر، بل تعرّضت لزلزال عظيم  منذ نشأتها بعد ثورات الربيع العربي

يرفض الباحث في مركز الأهرام للدراسات الاستراتيجية، أبو الفضل الإسناوي، اعتبار ما مرّت به الحركة انتصاراً، قائلاً لـ"حفريات": الحركة لم تنتصر، بل تعرّضت لزلزال عظيم منذ نشأتها بعد ثورات "الربيع العربي"، وما أنقذها هو حزب قلب تونس، فلولا تنسيقها المسبق مع قلب تونس، ومحاولة إشراكه في حكومة إلياس الفخفاخ السابقة، لما خرجت سالمة من جلسة سحب الثقة.

اقرأ أيضاً: هل يؤم الغنوشي صلاة الجمعة في آيا صوفيا؟

وقد حاولت حركة النهضة الضغط على رئيس الحكومة السابق إلياس الفخفاخ لتمثيل حزب "قلب تونس" في الحكومة، وحين رفض راوغت الحركة بسحب الثقة من الحكومة بدعاوى شبهة الفساد، ما دفع الرئيس التونسي قيس سعيد إلى مطالبة الفخفاخ بالاستقالة، واختيار وزير الداخلية هشام المشيشي لتشكيل الحكومة. 

ويضيف الإسناوي: إنّ ما تفعله النهضة عقب جلسة سحب الثقة هو إعادة ترويج لنفسها، تحسباً للجوئها إلى سيناريو الانتخابات البرلمانية المبكرة.

وينتظر البرلمان التونسي تشكيل الحكومة الجديدة لعرضها عليه، وحال رفض البرلمان منح الثقة للحكومة، يُعلن الرئيس التونسي حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات برلمانية مبكرة، بحسب ما ينصّ عليه الدستور. 

اقرأ أيضاً: تونس.. الخلافات بين الغنوشي وسعيد بدأت تأخذ مساراً تصاعدياً

وسبق أن أكدت حركة النهضة دعمها لحكومة المشيشي، ودعت إلى توسيع دائرة الحوار في تشكيل الحكومة، كما جدّد الغنوشي بعد تجديد الثقة به دعمه للحكومة، غير أنّ موقف النهضة يظلّ غير مضمون لحين تشكيل الحكومة ومنح الثقة، كما أنها يمكن أن تنقلب على الحكومة بعد منحها الثقة، كما حدث مع حكومة الفخفاخ سابقاً.

"قلب تونس" لن يبقى في تحالف دائم مع النهضة، لأنّ تحالفهما المريب ارتبط بالأساس بالعداء للرئيس التونسي

تقف حركة النهضة أمام مرحلة من "الحسابات الدقيقة" لتحديد موقفها غير المحسوم حتى الآن، بحسب الإسناوي، الذي وضح قائلاً: الأولوية لدى النهضة هي الحفاظ على البرلمان الحالي، خصوصاً أنّ خوضها انتخابات جديدة في المرحلة الحالية سيصبح أقرب إلى المقامرة، لكنها في الوقت ذاته قد تضطر إلى خوضها في حال لم تمثل في الحكومة الجديدة، أو لم يرضِ التمثيل طموحها. 

ويتابع: الحركة ستجلس لتحسب مكاسبها بالورقة والقلم بعد إعلان تشكيل الحكومة، متضمناً كتلتها الحالية وتمثيلها في الحكومة، والتفكير في الخيار الآخر، ومكاسبه وخسائره، وستتبع السيناريو الذي يحقق أكبر مكاسب ممكنة، من وجهة نظرها.

اقرأ أيضاً: كتل نيابية تبحث سحب الثقة من الغنوشي... هل تنجح هذه المرة؟

وقد دعت كتل برلمانية معارضة رئيس الحكومة إلى تنحية النهضة عن التشكيل الجديد، غير أنّ ذلك السيناريو يراه الباحث في مركز الأهرام بعيداً عن الواقع، حيث لا يسعى الرئيس التونسي هو الآخر إلى حلّ البرلمان؛ إذ إنّ تونس لن تحتمل حالة الفراغ السياسي من جهة، كما أنّ إقامة انتخابات جديدة بقانون الانتخاب الحالي "القوائم بتمثيل البواقي" قد ينتج ذات الكتل البرلمانية الحالية. 

ويتابع الإسناوي: يسعى رئيس الحكومة في المرحلة المقبلة، بعد تمرير حكومته، إلى هدفين: الأوّل إصدار قانون جديد يحدد شكل الانتخابات في تونس على نحو مغاير لما هو موجود حالياً ويخدم حركة النهضة، والثاني هو إصدار قانون "الفساد السياسي"، الذي بموجبه قد توجه الاتهامات إلى قيادات في النهضة وحليفها قلب تونس.

المواجهة المقبلة

ووفق المعطيات الحالية، فإنّ هدف الرئيس هو الحفاظ على البرلمان التونسي وتشكيل الحكومة الجديدة، والمضي بالصراع إلى وتيرة أهدى، لحين تحقيق كلّ طرف أهدافه على المستوى البعيد؛ وتهذيب الحركة وإيقافها عند حدودها، مع توضيب الساحة السياسية، أمّا الحركة فهدفها هو استعادة ما فقدته من صورتها الذهنية، سواء لدى التونسيين أو في الخارج، حيث تأثر مشروع الغنوشي الكبير الذي كان يشمل الجزائر والمغرب وموريتانيا، فضلاً عن مشروعه في ليبيا، بحسب الإسناوي.

تشير الاستقالات المتتالية في حركة النهضة إلى استبداد الصقور، وهم المجموعة الملتفة حول الغنوشي

غير أنّ الرياح ربما لا تواتي الرغبات في ظلّ مياه متحركة، ترتبط بتغيرات إقليمية، وصدام لا يمكن أن نتوقع مداه، خصوصاً مع إصرار النهضة على استفزاز الداخل التونسي، حين أعرب الغنوشي عقب يومين من تجديد الثقة به عن "رغبته وبشدّة في زيارة تركيا"، ما عُدّ تصعيداً غير مباشر من الحركة، أو أنّه تأكيد على عدم نيتها إجراء أيّ تعديل في خطها المثير للجدل.

وقد تفجّرت الخلافات بين الرئيس التونسي وحركة النهضة بعد تعدّي الغنوشي صلاحياته، وتخطيه مسؤوليات الرئيس في رسم السياسة الخارجية لتونس، لصالح الاصطفاف خلف الموقف التركي في ليبيا الداعم لحكومة الوفاق، كما أثارت زيارة سابقة للغنوشي إلى تركيا في كانون الأول (يناير) الماضي، الجدل، إذ جاءت بعد ساعات من سقوط حكومة الحبيب الجملي التي شكلتها النهضة.

لذا، في حال قبلت النهضة بتشكيل حكومة المشيشي للحفاظ على البرلمان، فإنها ستصبح في مواجهة المشروعين، ولكن هل يستطيع الرئيس تمريرهما؟

يقول الإسناوي: إنّ قلب تونس لن يبقى في تحالف دائم مع النهضة، لأنّ تحالفهما المريب ارتبط بالأساس بالعداء للرئيس التونسي، والذي هو ذو أبعاد انتخابية بالنسبة إلى الثانية التي خسر رئيسها أمام سعيد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة. 

اقرأ أيضاً: لهذه الأسباب لن تتراجع عبير موسي عن معركتها ضد الغنوشي

ويتابع: مثل تلك التحالفات مرتبطة بالمصالح، و"قلب تونس" سبق أن صرّح برغبته في تغيير نظام الانتخابات، لذا فحال قُدّم مشروع قانون بتلك الصيغة قد يتوجه قلب تونس لقبوله، ومن ثمّ تفقد النهضة الكتلة التصويتية الكافية لإسقاطه.

أمّا أن تتجه النهضة إلى السيناريو الآخر الخاص بحلّ البرلمان، فإنها ستحرص على تعميق تحالفها مع "قلب تونس"، وقد ينتج عنه تحالف انتخابي، علماً أنّ قواعد الكتلتين قبلت التحالف مع الأخرى على مضض، وسبق أن هاجمت النهضة "قلب تونس" وألمحت إلى تورطها بشبهة فساد. 

الصراعات الداخلية

وفيما تواجه حركة النهضة الأزمات السياسية، يتصدّع بيتها الداخلي بقضية التزام الغنوشي بترك منصبه كرئيس للحركة بعد انتهاء مدته، أو تمسّكه به، بعد التحايل وتعديل اللائحة الداخلية للحركة، وسط فريقين: الأول "الصقور"، وهم رجال الغنوشي، وفريق آخر يرمز له بـ"الحمائم"، وهم المعارضون لتمديد حكمه، ومن المفترض أن يُعقد المؤتمر العام للحركة قبل نهاية العام الجاري، والذي ستحدّد النهضة بموجبه مستقبلها. 

اقرأ أيضاً: كيف رد الرئيس التونسي على تسريب الغنوشي؟

وفيما يرى مراقبون أنّ الأزمات الخارجية التي أقحم فيها الغنوشي الحركة، وإدخالها في عداء مع سعيد أضرّ بها، ستعجل بنهايته داخل الحركة، يرى الخبير في مركز الأهرام عكس ذلك، قائلاً: الحركة تعتبر أيّ انتصار للمعسكر المعارض داخلها هو انتصار للمعسكر المعارض لها خارج الحركة، لذا سيتمّ إرجاء أي خلافات داخلية، لحين تهيئة أوضاع الحركة ومرور تلك المرحلة الصعبة عليها. 

وتضرب الاهتزازات الحركة، منذ شهور، باستقالات متتالية تشير كلها إلى استبداد الصقور، وهم المجموعة الملتفة حول الغنوشي، وإقصاء القيادات الأكثر انفتاحاً، وهم "الحمائم"، ما  دفعهم نحو الاستقالة، ومنهم النائب الأول للغنوشي عبد الفتاح مورو، وهو المرشح الرئاسي السابق، الذي استقال في أيار (مايو) الماضي، وقبله بشهرين القائد التاريخي في الجماعة بتونس، عبد الحميد الجلاصي، الذي استقال في آذار (مارس) الماضي، مصرّحاً بـ"استبداد القرار داخل نهضة الغنوشي". 

وربما اعتبرت نهضة الغنوشي أنها بتلك الاستقالات قد استتبت لها الأوضاع، ولن تواجه مضايقات ومعارضات، وأنّ طريقها إلى تعديل اللائحة الداخلية للحركة لتمديد رئاسة الغنوشي، على خلاف ما تنصّ عليه اللائحة الحالية، قد مُهّد، غير أنّ ذلك لم يحدث، فخلف القيادات كان ثمّة طوابير أخرى ممتعضة ورافضة لسطوة الغنوشي.

اقرأ أيضاً: هل ينجح الغنوشي في البقاء على رأس "النهضة" المتمزقة؟

غير أنّ الشهر ذاته الذي استقال فيه مورو، شهد  قراراً من الغنوشي بحلّ المكتب التنفيذي لحركة النهضة، لافتاً إلى اعتزامه إدخال تعديلات، استجابة لما سمّاه استحقاقات المرحلة، في الوقت الذي ألمح فيه رئيس شورى النهضة، نور الدين البحيري، وهو من مجموعة الغنوشي، إلى إمكانية تغيير النظام الداخلي، ليتمكّن الغنوشي من الترشح لولاية ثالثة، مؤكداً أنّ القوانين الداخلية "ليست أحكاماً قرآنية".

وقطع ظهور فريق أطلق على نفسه اسم "مجموعة الوحدة والتجديد"، على صقور النهضة، وفي مقدمتهم الغنوشي، نشوة السيطرة، حيث شدّدت تلك المجموعة على رفض التجديد للغنوشي، أو أيّ فعل يمهّد لذلك، وطالبوا بما تستوجبه الديمقراطية من الالتزام باللوائح، وتداول السلطة.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية