
من الأمور اللافتة للانتباه في المجتمع المصري ذلك التناقض الحاصل بين انتشار العديد من مظاهر التدين من جانب، ومن جانب آخر انتشار العديد من الظواهر والسلوكيات السلبية والمشكلات الأخلاقية لأفراد يعتبرون أنفسهم متدينين. والسؤال هنا كيف أسهم خطاب الحركة الإسلامية وممارساتها في انتشار ظاهرة التدين الشكلي والاهتمام بالجوانب الظاهرية على حساب قيم الدين وأخلاقه؟ وما آثار ذلك النمط من التدين على المجتمع؟
ما هو التدين الشكلي؟
يُعرّف الدكتور عبد الجبار الرفاعي التدين الشكلي بأنّه الاهتمام بالمظهر على حساب الجوهر والمضمون، الاهتمام بالطقوس والشعائر وظاهر العبادات أكثر من الجانب الروحي والأخلاقي ومن آثار تلك العبادات في الواقع، فهو "ذلك النمط السطحي المجوّف من التدين، المفرّغ من نبض الحياة الروحية، ووهج الضمير الأخلاقي، الذي يضع معايير ظاهرية شكلية تُقاس درجة التدين بمدى الالتزام بها، بغضّ النظر عن بناء الكيان الداخلي للمتدين.
مع بداية ظاهرة الصحوة الإسلامية في سبعينيات القرن الماضي كان لدى الحركة الإسلامية بمكوناتها المختلفة رغبة قوية في التعبير عن نفسها وإثبات حضورها في المجتمع في فترة شهدت تحولات اجتماعية وسياسية واقتصادية كبيرة، فكان تركيز الحركة الإسلامية على الشكل كبيرًا، فقد كانت مظاهر التدين، خاصة ما يتعلق بشكل اللباس للمرأة من حجاب ونقاب أو للرجل في شكل اللحية والجلباب الأبيض لبعض التيارات، وإقامة العديد من الأنشطة الدينية ذات الطابع الجماهيري، وممارسة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بشكل يمثل تدخلًا في شؤون الآخرين ومصادرة حرياتهم كمنع أنشطة معينة في الجامعات أو التعدي على من يمارس فعلًا يراه أفراد التيار الإسلامي مخلًا أو مخالفًا للشريعة؛ كان ذلك دليلًا من وجهة نظرهم على انتشارهم في المجتمع وقدرتهم على التأثير مقارنة بالتيارات السياسية الأخرى، وقد انتشر نمط التدين الشكلي في المجتمع نظرًا لسهولته لمن يرغب في الالتزام الديني وكسب القبول الاجتماعي مقارنة بنمط التدين الذي يركز على الجانب الأخلاقي والقيمي والروحاني.
وهناك عدة مظاهر للتدين الشكلي عند الحركة الإسلامية، فالتيار السلفي يركز مثلًا على الأمور الخاصة بالحجاب والنقاب واللحية وطريقة الكلام وممارسة الطقوس والعبادات بشكل جماهيري دعائي، والتنظيمات الإسلامية التي تسعى إلى تغيير الأنظمة الحاكمة وإقامة دولة إسلامية نجدها تهتم بشكل هذه الدولة وفق نموذج متخيل لديها يبدو من كتابات العديد من مفكريها أنّها تركز على الشكل أكثر من الجوهر، ومثال ذلك ما كتبه الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه "الحل الإسلامي فريضة وضرورة" حول شكل الدولة المنشودة ووظيفتها، حيث يرى أنّ وظيفتها هي حماية العقيدة وصبغ المجتمع بصبغة إسلامية، وإقامة الشعائر الدينية مثل الصلاة والزكاة والصيام وتعقب ومعاقبة من يمتنع عن أدائها، وتحريم الربا والخمر، وتطبيق الحدود، دون أن يتحدث عن دور الدولة في التنمية وبناء الإنسان وتلبية احتياجاته وتوفير مجتمع قائم على العدل والحرية والتعايش الإنساني، لكنّها تهتم أكثر بتطبيق نموذج معيّن لدولة الإسلام الأولى، وبفرض قيود على سلوك الأفراد ومراقبتهم ومعاقبتهم على كل سلوك غير أخلاقي. ومن مظاهر ذلك التدين كذلك التعامل مع العبادة بمنطق المنفعة، حيث يركز الخطاب السلفي على فكرة المقابل من وراء أداء العبادة أو عمل الخير والمعروف، وهو التعويض الدنيوي الذي لا بدّ أن يأتي بعدها، مثل أنّ الصدقة ومساعدة الآخرين تُردّ إلى الفرد في صورة مكسب دنيوي، والصوم أو الصلاة بنية النجاح أو العمل، إلى غير ذلك من أساليب يقوم بها الخطاب السلفي لترغيب أو ترهيب الأفراد لعمل الطاعات وتجنب المعاصي.
آثار التدين الشكلي على المجتمع
ترك هذا النمط من التدين آثاره على المجتمع وعلى شخصية الأفراد بدرجة كبيرة، وتحول الاهتمام بالشكل والمظهر إلى ثقافة عامة تحكم السلوك الفردي بشكل عام، فرغم كثرة مظاهر التدين في المجتمع؛ إلا أنّ ذلك لم ينعكس على السلوك، ولم يتحول إلى قيم تحكم الإنسان في ممارساته مع الآخرين، ولم يتم ترجمة التدين إلى ظواهر إيجابية كالإتقان في العمل وأداء الحقوق لأصحابها، وتراجع معدلات الفساد والتقليل من حجم العنف وحدته، ولم ينعكس على حالة التعايش والسلم في المجتمع، ولكنّه زاد من التعصب والتطرف والاستقطاب، فالدين رغم حضوره إلا أنّه لم يؤثر بشكل إيجابي بسبب نمط التدين الذي ركز على المظهر دون الجوهر، ومن الآثار التي تركها كذلك ترسيخ ثقافة النفاق والزيف في المجتمع بسبب تركيز الأشخاص على إظهار الجوانب التي تكسبهم الرضا الاجتماعي دون الاهتمام بالجوهر الأخلاقي.
ومن الآثار استخدام الكثيرين لمظاهر التدين كأداة للتحايل والخداع من أجل تحقيق مصالح شخصية، وذلك لقناعتهم بأنّ الناس يثقون في تلك المظاهر، ويسبب ذلك في بعض الأحيان صدمة للفرد عند التعامل مع تلك النماذج، ممّا يؤدي مع الوقت إلى رسوخ صورة سلبية عن الدين ذاته، ومن الآثار أيضًا تحول الاهتمام بالشكل إلى نمط سطحي من التفكير في كل شيء، والتركيز على توافه الأمور وقشورها، كما ينتج هذا التدين نوعًا من الاتكالية واللّامبالاة، حيث يترسخ لدى الفرد أنّ مجرد القيام بالشيء دون الاهتمام بجوهره أو جودته كفيل بتحقيق النتيجة المرجوة، كما نجد أثر ذلك في ظاهرة تتمثل في أنّ كثيرًا من المتدينين، خاصة الشباب، يمارسون الدعوة إلى الدين بأساليب متدنية أخلاقيًا وبطرق منفرة؛ ممّا أثر سلبًا على العديد من الأفراد الذين عبّروا عن ذلك بالخروج من دائرة التدين حينًا ومن دائرة الدين ذاته حينًا آخر.