لم تتوقف وسائل التواصل الاجتماعي، التي غالباً ما يساء استعمالها في بلادنا، عن خلق حاجات زائفة للإنسان فحسب؛ إنّما تحول تأثيرها المخدِّر إلى إدمان الشباب والشابات على التعامل معها كمطلب أساسيّ في الحياة اليومية، وبات هذا الإدمان يندرج تحت مسمى "الحريات الشخصية"، علماً بأنّه يستبيح حرية الآخرين بما فيه الكفاية؛ كالقرصنة، والتجسس على خصوصية الآخر، والابتزاز المعنوي والمادي.
الثورة العلمية التكنولوجية، حفّزت الشباب المكبوت للقيام بثورة مضادة، ثورة الذكاء المستخدم في غير مكانه وزمانه؛ زمنٌ خلقته السلطة الاجتماعية والسياسية والدينية، واحتكرته لتحقيق أهدافها في تعميق التخلف والهمجية، مستبدلة العقل المكوِّن؛ الذي هو عقل الشباب وطاقاته المبدعة، بالعقل المكوَّن المستند على التفكير الجمعي، وتثبيط الفكر المتجدّد المنتج للإبداع، وتجميد الطاقات الحيوية، وكبت الحريات الشخصية والعامة، وتعقّب سلوك كل فرد من أفراد المجتمع من حيث لا يدري.
الثورة العلمية التكنولوجية حفّزت الشباب المكبوت للقيام بثورة ذكاء مضادة في غير مكانها
فهل هذه الثورة المضادة، ستؤدي إلى الانحراف الاجتماعي، ومن ثم إلى الجنوح، أو ارتكاب جرائم يعاقب عليها القانون، أم ستكون شخصية افتراضية تكمل نقصاً في الشخصية لدى الشباب والشابات في الحياة الواقعية؟ وثمة سؤال أهم: ما العوامل التي تدفع الشباب إلى مثل هذا الإدمان أو الانحراف عن خط سيرهم/ن الذي يجب أن يكون؟
يعرّف أنتوني غدنز، عالِم الاجتماع الشهير، الانحراف بأنّه: "عدم الامتثال، أو عدم الانصياع، لمجموعة من المعايير المقبولة لدى قطاع مهم من الناس في الجماعة أو المجتمع". ويقصد غدنز بــ "الامتثال": الالتزام الأخلاقي، بما لا يتنافى مع القانون الاجتماعي، لا الخضوع. لكن هل كلّ قانون يعمل به المجتمع أو الجماعة هو قانون مقبول كما يقول غدنز؟
ينصرف علم النفس إلى البحث عن أسباب الانحراف داخل النفس الإنسانية، مع عدم التركيز على العوامل الاجتماعية الدافعة للانحراف، من ثم يهتم بمرحلة الطفولة والمراهقة دون مرحلة الشباب؛ التي لو بحثنا في أعماقها المعرفية، سنجدها غنية بالمعارف و"المعلومات"، ومنفتحة على الفكر الحديث، انفتاحها على الحياة، والأحلام الكبيرة في بناء مستقبلٍ واعدٍ، والاندفاع نحو المغامرات العقلية. لكنّ تركيبة المجتمعات في البلدان النامية، مبنية على ثقافة الطاعة والخضوع أولاً، وعلى الموروث الاجتماعي والديني المُستلب وغير الخلّاق، إضافة إلى أنّ هذه المجتمعات هي نتاج الأنظمة الديكتاتورية والاستبدادية، التي حوّلت الشعوب إلى "جماهير"، حسب تعبير حنة أرندت، وعَمِلت على تشكيل وعيها السلطوي، وهي لا تكشف إلّا عن الجانب المظلم من الحداثة، وإلّا: لماذا تنتشر مشاهد العنف والتعصب والتطرف على جسد العالم ككلّ، وعلى جسد العالم العربي والدول النامية بوجه خاص، وتوجه الشباب في هذا الاتجاه (الألعاب العنيفة والفيديوهات، والأفلام الجنسية، من خلال الإنترنت هي الأكثر رواجاً واستهلاكاً بين الشباب)؟
فقد الشباب كيانهم الوجودي، وحقّهم في حرية التفكير والتعبير عن آرائهم
لقد فقد الشباب والشابات كيانهم الوجودي، وحقّهم/ن في حرية التفكير والتعبير عن آرائهم، إضافة إلى المحاذير الاجتماعية والمحرمات الدينية، التي تعرقل حياتهم العاطفية، في المرحلة العمرية المناسبة لإنشاء علاقات إنسانية ضرورية لنمو الحب بكافة وجوهه، فمن يمتلك الحب ويمارسه في الحياة العملية، لا يمكن أن يمتلك العنف أو التعصب أو التطرف، والمعايير التي وضعها المجتمع، التي تتضمّن: النجاح والفشل، الخطأ والصواب، الجزاء والثواب، التي تحدّث عنها غدنز مطولاً وأطلق عليها اسم "المعايير وأنساق الجزاء".
يقول غدنز: "إنّنا، في بعض الأحيان، نلتزم بالمعايير الاجتماعية؛ لأنّنا تعودنا عليها بفعل التنشئة الاجتماعية التي تلقيناها، وتكون هذه المعايير الاجتماعية مقرونة بآليات الجزاء، التي تهيب بنا أن نعمل بمقتضاها، أو تنهانا عن عصيانها، وتضمّ منظومة الجزاء هذه، الثواب على الأعمال الحميدة المقبولة، أو العقاب السلبي على التصرفات التي تحيد عن النموذج المحبذ، أو المنسجم مع العرف العام". تلك المعايير أصبحت، فيما بعد، أداةً حاكمةً على الأفراد (هذا شاب أو شابة ناجح/ة)؛ لأنّه/ها يتوافق مع تلك المعايير، (وذاك وتلك فاشل/ة)؛ لأنه/ها يخالفها، كما أنّها الخطوة الأولى في طريق الفساد السياسي والوظيفي والاجتماعي، فهل تلك المعايير صائبة ومناسبة لإنشاء جيل من الشباب والشابات، وإنتاج مجتمع يقوم على النجاح من خلال التقيد بها والاحتكام إليها؟
واقع الشباب في العالم العربي واقع ميّت بحسب تعبير مصطفى حجازي لذلك يلجأ الشباب لصناعة عالم بديل
واقع الشباب في العالم العربي "واقع ميّت"، بحسب تعبير مصطفى حجازي، لذلك يلجأ الشباب إلى صناعة عالم بديل، يكوّن شخصيته، ويثبت وجوده وكينونته، عالم يبني فيه علاقات الحب والصداقة عن بُعد، بدل العالم الزاخر بالحياة. فإذا قمنا بمقاربة بسيطة بين العقل المخترِع لشبكات التواصل والعقل المقرصِن، على سبيل المثال؛ نجد أنّ العقلين يعملان بنفس القوة في اتجاهين مختلفين: إبداع إيجابي فاعل، وإبداع سلبي منفعل، لا بل العقل الثاني (السلبي) قد يتفوق على العقل الأول (الفاعل)، من هنا يبدأ شعور الشباب والشابات بالتفوق والامتياز، سعياً إلى تحقيق الذات، وإثباتها بشتى السُبل والوسائل، ضمن بيئة اجتماعية وسياسية، تعمل على تهميش العقل المبدع وإقصائه.
هذا الحديث عن شريحة الشباب المدمن لشبكات التواصل، ليس حديثاً عاماً يشمل كلّ فئات الشباب، التي سنوليها اهتماماً في حديث قادم، لكنّه يتحدث، فقط، عن الشباب المهمش والمكبوت والمقهور، الذي ضاقت أمام تحقيق أحلامه سبل الحياة، ويعيش كما يُراد له أن يكون، لا كما يرغب هو أن يكون.