
يُعدّ حضور جماعة الإخوان المسلمين في فرنسا من الظواهر التي أثارت جدلًا واسعًا خلال السنوات الأخيرة، خاصة مع تصاعد النقاشات حول الإسلام السياسي. يعتمد هذا التيار على التغلغل التدريجي في المجتمع من خلال شبكات من الجمعيات والمراكز ذات الطابع الدعوي.
وتركّز الجماعة على العمل داخل النسيج المدني الفرنسي، مستفيدة من فضاءات الحرية والديمقراطية. عبر مؤسسات دينية وثقافية وتعليمية، تسعى لبناء قاعدة اجتماعية متينة، خصوصًا في الأوساط الشبابية والمهاجرين من أصول عربية، حيث تستثمر في مسائل الهوية والانتماء الديني.
هذا وترى السلطات الفرنسية أن بعض هذه التحركات تهدد قيم الجمهورية، مما أدى إلى فرض رقابة مشددة على أنشطة بعض الجمعيات الإسلامية. وتدور تساؤلات جدية حول مدى تأثير الإخوان في توجيه الخطاب الديني، ومدى توافقه مع مبادئ الدولة العلمانية.
الإخوان ينتشرون بطريقة خبيثة
وخلال اليومين الماضيين تداولت وسائل إعلام عربية ترجمة لتقرير أمني لوزارة الداخلية الفرنسية، يشير إلى أن تنظيم الإخوان المُسلمين يدفع المُجتمع الفرنسي أكثر فأكثر نحو الإسلاموية، من الجمعيات الدينية والتعليمية والثقافية وحتى الرياضية، إلى المدارس والجامعات والكيانات الحكومية في فرنسا ومؤسسات الاتحاد الأوروبي، وصولاً إلى الانتخابات البلدية، بحسب.
يعتمد هذا التيار على التغلغل التدريجي في المجتمع من خلال شبكات من الجمعيات والمراكز ذات الطابع الدعوي
وفي إطار التدابير الوقائية الأساسية ضدّ تغلغل الإخوان، أكد مصدر أمني فرنسي أنّه بالنسبة لانتخابات عام 2026 المحلية لاختيار مسؤولي نحو 35 ألف بلدية، فسوف يتم تحذير حُكّام الأقاليم ووكلاء الدولة ورؤساء القوائم الانتخابية من أيّ عمليات تسلل لأعضاء في جماعة الإخوان أو من المؤيدين لها.
وقد حذّر مُعدّو التقرير مما أسموه "حركة تهدف إلى إدخال الدولة الفرنسية في ظلّ حكم الشريعة الإسلامية وفق أيديولوجية الإخوان". ونقلت الكاتبة والمحللة السياسية الفرنسية في مجلة "لو بوان" ساندرا بويسون عن مصادر استخباراتية التحذير من أنّ التنظيم الإرهابي "ينتشر بطريقة خبيثة، وعبر آلية تسلل شبه سرّية تُحدث ضجيجاً مُنخفض المستوى".
وفي ساحة بوفو، حيث يقع مقر وزارة الداخلية الفرنسية في باريس، يُثير تطوّر الحركة الإخوانية القلق على أعلى مستوى بوصفها "تُهدّد التماسك الوطني"، وفقا لما نقلته صحيفة "24".
وكان وزير الداخلية برونو ريتايو قد التقى مؤخراً ممثلين عن الجاليات المُسلمة في فرنسا بهدف تفعيل مُنتدى الإسلام في البلاد، والذي تمّ تشكيله قبل نحو 3 سنوات في إطار إبعاد الإخوان عن أيّ دور قيادي لمُسلمي فرنسا، وحظر المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية الذي يُسيطرون عليه.
ويكشف التقرير أنّ وسائل محاولة دفع المُجتمع نحو الإسلاموية، وحتى نحو الشريعة الإسلامية، تتم في سرّية تامة، عبر مختلف أشكال الجمعيات غير الحكومية وصولاً إلى الانتخابات المحلية، حيث يُمكن تنفيذ الهجوم من خلال قوائم متسللة للإخوان أو عبر مسؤولين مُنتخبين يستسلمون للمحسوبية والمصالح.
وبحسب التقرير الحكومي فإنّ 140 جمعية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين تُشرف على مساجد ومراكز دينية في فرنسا تستقطب نحو 100 ألف من المؤيدين للإخوان.
وتُؤكّد وزارة الداخلية أنّ هذه الجمعيات تُشكّل "مصفوفة الإسلام السياسي"، وفي طليعتها يتواجد الائتلاف ضدّ الإسلاموفوبيا، الذي تمّ حلّه في عام 2020 في فرنسا، فانتقل إلى بلجيكا تحت اسم (الائتلاف ضدّ الإسلاموفوبيا في أوروبا).
وهناك أيضاً بعض المدارس. وهذا هو حال مدرسة ابن رشد الثانوية في مدينة ليل، التي أنهت المحافظة عقدها مع الدولة في نهاية عام 2023، لكنّها لا زالت تعمل بدعم مالي مشكوك فيه بعد قطع المُساعدات الحكومية عنها. وتضم قائمة مؤسسات الإخوان أيضاً مدرسة الكندي الثانوية في مدينة ليون، والتي تمّ إنهاء عقدها للعام الدراسي المُقبل 2025-2026، وخاصة بسبب وجود أعمال انفصالية فيها مُعادية لقوانين الجمهورية.
140 جمعية تابعة لجماعة الإخوان المسلمين تُشرف على مساجد ومراكز دينية في فرنسا تستقطب نحو 100 ألف من المؤيدين للإخوان
وأخيراً، يتضمن التقرير معهد تدريب الأئمة الإخواني في كلّ من إقليم نيفر وسط البلاد، وضاحية سين سان دوني شمال باريس، والذي يخضع لتحقيق جنائي في تمويله.
فرنسا تضم أكبر عدد من الجاليات المسلمة
وبحسب دراسة للمركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، تضم فرنسا أكبر عدد من الجاليات المسلمة في أوروبا حيث يقدر عدد المسلمين الذين يعشون في المجتمع الفرنسي بحوالي (6) مليون مسلم، وهو العدد الأكبر بين دول أوروبا.
ومن الجدير بالذكر أن الغالبية الساحقة من مسلمي فرنسا هم من دول المغرب العربي ونسبتهم (82%) من مجمل مسلمي فرنسا (43.2 %) من الجزائر، (27.5 %) من المغرب و(11.4%) من تونس و(9.3%) من إفريقيا جنوب الصحراء و(8.6%) من تركيا و(0.1%) فرنسيون تحولوا إلى الإسلام نحو (70,000) متحول للإسلام.
وفي تقرير لها، نشرته عبر موقع “يوروبيان كونسيرفاتيف”، كشفت الكاتبة والباحثة الفرنسية هيلين دي لوزون أنّ منذ عام 2019 زاد عدد أعضاء تنظيم الإخوان المسلمين في فرنسا من 50 ألفا إلى 100 ألف عضو، نقلا عن تصريحات خبير استخباراتي فرنسي لصحيفة “لو جورنال دي ديمانش”.
وقالت الباحثة الفرنسية إن الأدلة على تغلغل حركة الإخوان المسلمين في الحياة الفرنسية تتزايد بشكل شبه يومي. ففي غضون 10 سنوات، تضاعفت نسبة النساء المسلمات المحجبات، مما جعل من الممكن الحديث عن عملية أسلمة ثقافية “منسقة بلا شك”. والتي تم التعبير عنها في مجموعة من الأعراض منها الأهمية المتزايدة للملابس الإسلامية مثل العباءة، والمطالب الدينية في مكان العمل وفي حمامات السباحة ونمو ما يعرف بـ”التجارة الحلال”.
هذا وتشترك حركات الإسلام السياسي بوجه عام فيما يسمي بالاستغلال السياسي للأزمات وتوظيفها سواء للوصول إلى السلطة أو التحريض ضد الأنظمة الحاكمة ومحاولة تشويه صورتها أو في التغلغل في المجتمع وبناء قاعدة شعبية لها، وخاصة ضمن أوساط الطبقات الفقيرة والمهمشة، وتأتي جماعة الإخوان في مقدمة هذه الحركات التي لم تترك أزمة أياً كانت سياسيةً أو اقتصاديةً أو إنسانيةً إلا وحاولت استغلالها لتعظيم مكاسبها وتعزيز نفوذها.
وكشفت التقارير أن مؤيدي الإسلام السياسي، يسعون حالياً إلى السيطرة على الإسلام في فرنسا من أجل إنشاء دولة الخلافة، ويغذون في بعض المدن نزعة انفصالية خطيرة.
فرنسا تواجه التمدد الإخواني
ومنذ سنوات، تبحث الحكومات الفرنسية المتعاقبة عن آليات لمواجهة هذا التمدد عبر تأهيل متخصصين في الإسلام المعتدل بفرنسا، مع ضمان تلبيتهم لمتطلبات الاندماج في المجتمع الفرنسي، مثل إتقان اللغة الفرنسية، والحرص على التنوع الثقافي، واحترام تراث وتاريخ وقانون البلاد، والحفاظ على مبادئ وقيم الجمهورية والعلمانية.
في غضون 10 سنوات تضاعفت نسبة النساء المسلمات المحجبات مما جعل من الممكن الحديث عن عملية أسلمة ثقافية “منسقة بلا شك”
وقد أقرت فرنسا قانون “مبادئ تعزيز احترام قيم الجمهورية” منذ تموز / يوليو 2021، القانون الذي أثار جدلا واتهامات للسلطات الفرنسية باستهداف المسلمين في البلاد، حيث ينص على فرض رقابة على المساجد والجمعيات المسؤولة عن إدارتها، ومراقبة تمويل المنظمات التابعة للإسلاميين. كما يفرض قيودا على حرية تقديم الأسر التعليم لأطفالها في المنازل، ويحظر ارتداء الحجاب في مؤسسات التعليم ما قبل الجامعي.
كما باشرت السلطات الفرنسية في حلّ عدد من الجمعيات التي ثبت تورطها في دعم أو نشر فكر قريب من جماعة الإخوان. واعتمدت وزارة الداخلية على تقارير استخباراتية وقانونية، وركّزت على الجمعيات النشطة في الضواحي والأحياء الحساسة اجتماعيًا.
إلى ذلك، تم حلّ جمعيات كبرى مثل "بركة سيتي" و"جمعية الشيخ ياسين"، كما أُغلقت مساجد اتُّهمت بتقديم منابر لأئمة ينشرون الكراهية أو التفرقة، مثل مسجد "بانتان" في باريس. هذه الإجراءات كشفت عن شبكة نفوذ غير مرئية تتحرك تحت غطاء ديني واجتماعي.
وتم، أيضا، تسريع إجراءات ترحيل الأئمة الأجانب الذين يُشتبه في تبنيهم خطابًا متطرفًا. إذ لم تعد فرنسا تقبل إرسال أئمة من الخارج دون مراجعة صارمة، وبدأت تشجّع على تكوين أئمة محليين يتحدثون الفرنسية ويدركون خصوصية المجتمع العلماني.