كمال أتاتورك.. عقدة أردوغان القاتلة

كمال أتاتورك.. عقدة أردوغان القاتلة


19/02/2022

حميد زناز

لم يهضم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بعد كيف أن العلماني مصطفى كمال أتاتورك الذي ألغى الخلافة سنة 1924 لا يزال أيقونة في أعين الأتراك، يعتبرونه أب الأمة التركية بعد 84 سنة من رحيله. ولا تزال صوره وذكرى مولده ووفاته تؤرق أردوغان وتشعره بالنقص.

رئيس في عباءة سلطان، مهووس بشبح أتاتورك الذي يطارده في كل مكان، يحلم بسجنه في سلة النسيان قبل أن ترغمه القوى العلمانية على مغادرة الحكم. وليس هذا فحسب، بل يريد أن يتفوق على كمال أتاتورك؛ إن كان أتاتورك أبا للأتراك، فهو (أردوغان) بمشروع إحياء الخلافة يريد أن يصبح أبا لكل المسلمين.

كُتب وقيل الكثير عن تحويل آيا صوفيا من متحف إلى مسجد بقرار من أردوغان. وإن كانت التحليلات جدية في أغلبها، إلا أنها أغفلت بعدا أساسيا في المسألة هو عقدة أردوغان المزمنة تجاه مصطفى كمال أتاتورك، وهاجسه الأساسي المتمثل بالعمل على تغييبه والحد من حضوره المهيمن على الدولة التركية الحديثة. أتاتورك هو الذي علمن كنيسة آيا صوفيا وقدمها “هدية إلى الإنسانية” كمتحف وطني من خلال مرسوم صدر عام 1934. وجاء أردوغان بعد 88 عاما ليلغي المرسوم ويعود بآيا صوفيا إلى ما كانت عليه سابقا منذ 1553 تاريخ احتلال القسطنطينية.

واضح أن أردوغان يسير على خطى محمد الفاتح، لا على خطى أتاتورك كما يدعي، فهو لا يتقدم نحو الدولة العصرية بل يعود رويدا رويدا إلى دولة الخلافة. وبغض النظر عن الأسباب الأخرى الكثيرة، كان تحويل آيا صوفيا إلى مسجد هجوما رمزيا على أتاتورك. وقد أوعز أردوغان بطريقة أو بأخرى إلى علي أرباش رئيس الشؤون الدينية لينبش في قبر أتاتورك في خطبة أول صلاة جمعة في آيا صوفيا بحضوره يوم تدشينها كمسجد فقال “السلطان محمد الفاتح وهب وأوكل مكان العبادة المذهل هذا مثل تفاحة عينه للمؤمنين شريطة أن يبقى مسجدًا حتى آخر يوم، وأي ممتلكات موهوبة مصونة في معتقداتنا ويُحرق كل من لمسها، وميثاق الواهب لا غنى عنه ومن يسيء إليه يتعرض للعنة”.

وهو ما اعتبره المجتمع المدني التركي لعنة خبيثة موجهة إلى كمال أتاتورك استنكرها الكثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي، كما استنكروا حمله للسيف على المنبر واعتباره عودة إلى التقاليد العثمانية البائدة. وذهب بعضهم إلى اعتبار ذلك ترويجا للعنف والإرهاب. وقدّم حزب “جيد” اليميني المعارض شكوى ضد أرباش، متهمًا إياه بـ”انتهاك المواد التي لا يمكن المساس بها في الدستور التركي”.

وعلى الرغم من نفي رجل الدين الأول في تركيا الاتهام، فإن أوزغور أوزيل العضو البارز في حزب الشعب الجمهوري الذي أسسه كمال أتاتورك وأهم حزب معارض لمشروع أردوغان الإسلامي، يقول لهذا المتطاول “علي أرباش، أقسم بأنك ستدفع غاليا ثمن شتمك لأتاتورك”.

وإلى جانب التلاعب سرا بنصب كثيرة تمثل أتاتورك ومحاولة تغيير أماكنها وإخفائها، عملت وسائل الإعلام الأردوغانية على تجاهل بعض التواريخ المخلدة له وذهبت حتى إلى تغيير اسم الرجل الرسمي وأصبحت تتجنب كلمة “أتاتورك” التي تعني أب الأتراك باللغة التركية، ولا تذكر سوى اسمه الأصلي “مصطفى كمال”، في محاولة للتقليل من شأنه والتعتيم على دوره الريادي في بناء الجمهورية التركية الحديثة واستبداله بالسلطان الافتراضي أردوغان، الذي لا يحبذ أن تبقى تركيا جمهورية بحدودها كما أرادها أتاتورك، بل يريد استرجاع تركيا الإمبراطورية ولا يخفي نواياه، قائلا “تحتاج تركيا إلى روح فتوحات جديدة”. ويوصي الأجيال الجديدة بالنظر إلى المستقبل على ضوء ما وصفه بـ”تاريخنا المجيد”.

لم يغفر أردوغان والإسلاميون لكمال أتاتورك تأسيسه سنة 1923 للدولة الأمة ذات الطابع الحداثي والعلماني المستلهم من الثورة الفرنسية على أنقاض الخلافة وأنقاض الإمبراطورية العثمانية العزيزتين على قلب الإخواني أردوغان.

فحتى في اليوم الذي زار فيه ضريح أتاتورك بعد فوزه في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لم يكن سلوكه لائقا، وراح ينتقد سياسة الرجل ضمنيا في خطابه، مزيّفا للحقائق ومحملا سياسة أتاتورك القائمة على العلمانية المسؤولية، قائلا إن “هذا النظام الذي كلف البلاد غاليا جراء الفوضى السياسية والاجتماعية والاقتصادية هو الآن في عداد الماضي”. وبطريقة خبيثة حاول أردوغان إقناع مؤيديه بأنه يعمل على تجاوز الدولة الوطنية والجمهورية ليؤسس الإمبراطورية والخلافة “بعد 95 سنة من وجود الجمهورية (سنة 2018) ستولد تركيا قوية ستكون من بين القوى العشر الأوائل في العالم في حدود سنة 2023”.

يقول هذا وهو مهووس بـ2023 السنة التي تقض مضجعه لأنها سنة الاحتفال بمرور قرن على تأسيس أتاتورك، الذي سيحجب حضوره القوي في الاحتفالات صورة أردوغان، للجمهورية التركية.

وفي الحقيقة لا يهم أردوغان ما فعل الرجل أو لم يفعل بقدر ما يحسده على أنه الشخصية الأكثر أهمية في تاريخ تركيا. ويدرك أنه لا يستطيع التخلص من “الكمالية” كليا وأنه مرغم على التعايش معها ولكن في حركة من القطيعة والاستمرارية. وهذا ما يفسر خطابه المتذبذب حيال الرجل، فتارة يشيد به وتارة يصفه بالسكير كما يقول الباحث ساميم أغنوول رئيس دائرة الدراسات التركية بجامعة ستراسبورغ الفرنسية. ويجد أردوغان نفسه متواضعا مقارنة بأتاتورك الذي تخلده ديباجة الدستور التركي كـ”زعيم خالد” وكتب التاريخ التي تقدمه كبطل عسكري ترك بصمات لا تمحى.

لذلك يحاول أن يختلق له أسطورة يعرضها في سردية جديدة علّها تزحزح أسطورة أتاتورك الحية في وعي ولاوعي الأتراك، ولكن فشله في الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومغامراته في سوريا وليبيا والبحر المتوسط وعلاقته بالتنظيمات الإرهابية وتصرفه كفاتح عثماني.. كل هذا سيجعله يغادر مسرح التاريخ خائبا يجر أذيال هزيمة نكراء أمام مصطفى كمال أتاتورك.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية