
اندلاع التظاهرات في غزة ضد حركة حماس ليس أمراً جديداً أو مباغتاً، كما أنّ ممارساتها القمعية ضد المحتجين على سياساتها، أو بالأحرى جرائمها المتسببة في نكبات مستمرة بحق الفلسطينيين، تُعدّ، هي الأخرى، منذ انقلابها الدموي في حزيران (يونيو) 2007 استئنافاً لسوابقها في القتل والتعذيب وسجن وتشويه أجساد خصومها.
منذ هجمات الحركة على إسرائيل في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) العام 2023، عانى الفلسطينيون في غزة من جرّاء الحرب الهمجية والعبثية التي هندسها التحالف الإسلاموي المشبوه، بجناحيه السنّي والشيعي، وتحت إدارة النظام الإيراني. ولا تكاد تختلف أوضاع المواطنين بغزة عن غيرهم في الدول الواقعة ضمن نطاق ما عُرف بـ "جبهة الإسناد". فقوى الممانعة، أو ما يُعرف كذلك بـ "محور المقاومة"، وضع المدنيين رهائن وحواجز بشرية، لجهة دفع أثمان المغامرة العسكرية لوكلاء "الولي الفقيه" بالمنطقة، ولصالح حسابات فئوية ضيقة. وهي الحسابات التي لم يتبقَّ منها في ظل الاندفاعة الإسرائيلية نحو تصفية أيّ احتمالات لتكرار الهجوم، وصد أيّ تهديد، سوى بقايا شعارات باهتة عن الانتصار المتوهم، بينما لم تعد القواعد الاجتماعية في بيئات الحرب قادرة على الصمود مع فقدان شروط الحياة وهم يتابعون الموت المجاني.
الاحتجاجات تطوق القطاع
أمضى الغزيون (3) أيام في احتجاجات كبيرة طوقت القطاع، ثم ما لبثت أن توقفت قسراً نتيجة القمع والقتل من قبل عناصر الحركة. وسبب هذه الاحتجاجات هو رفض التصعيد الذي تقوم به حماس، وقد تزامن مع صدور أوامر إخلاء إسرائيلية لأهالي بيت لاهيا، نتيجة إطلاق عناصرها قذائف صاروخية من مناطق قريبة باتجاه المستوطنات الإسرائيلية. حمل المحتجون لافتات تحمل عبارات منها: "دماء أطفالنا ليست رخيصة"، و"بدنا نعيش بسلام وأمان"، و"أوقفوا شلال الدماء".
قضى في الغارات الإسرائيلية على قطاع غزة التي بدأت منذ أسبوع تقريباً (792) قتيلاً وأكثر من (1663) جريحاً بحالات متفاوتة، وما يزال هناك ضحايا تحت أنقاض منازل دُمّرت على رؤوس ساكنيها، وفق موقع (الحرة). وأفادت إحصائية لـ "هيئة إنقاذ الطفولة" مطلع الشهر الحالي نيسان (أبريل) أنّ "أكثر من (270) طفلاً في غزة قتلوا خلال أسبوع واحد منذ استئناف الغارات الإسرائيلية على القطاع".
وفي ظل هذه الأوضاع المأزومة والمحتدمة، انتفض الغزيون ضدّ حماس، وقد فقدوا إمكانية الاستقرار في مناطقهم بشمال غزة بعد عودتهم من خيام النزوح بالجنوب، نتيجة استئناف القتال ودخول الجيش الإسرائيلي بريّاً، إثر القصف الذي نفذته حماس. لهذا خرجت المسيرات للمطالبة بوقف الحرب، فضلاً عن المطالبة بإنهاء حكم ووجود حماس، مرددين: "الشعب يريد إبعاد حماس"، و"حماس برّا برّا".
حماس تواصل سلوكها القمعي
قمع حركة (حماس) للمظاهرات التي خرجت ضدها لم يقتصر على الاندساس بين المسيرات والوقفات الغاضبة، وإنّما حاولت منع تلك الحشود من تنظيم الوقفات الاحتجاجية الغاضبة، وأقامت نقاط تفتيش على مفترقات الطرق لمنع تحشد الناس، وفق (إندبندنت عربية)، وتقول: "إلى جانب إجراءات القمع والترهيب الممنهجة التي نفذتها حماس ضد المشاركين في الاحتجاجات، فإنّ هناك أسباباً أخرى أدت لاختفاء تلك المظاهرات قسراً، إذ اختطف عناصر الحركة عدداً من الذين شاركوا في الوقفات الغاضبة وعذّبوهم".
ويمكن القول: إنّ هذا السلوك القمعي للحركة لم يتغير منذ الانقلاب الذي قادته، بل إنّ القطاع وإدارته الأمنية تحول إلى ساحة لفرض إرادتها وتحقيق مصالحها، وفي المقابل تبدو المسألة الفلسطينية محل مقايضة وانتفاع. فوكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية تقول في تقرير سابق لها قبل عامين: إنّ ميليشيات (حماس) بدأت في مثل هذه الأيام تصفية المشروع الوطني الفلسطيني، وأعلنت حكمها على قطاع غزة، واختطفت حياة مليوني فلسطيني، واستخدمتهم رهائن لمشاريعها المشبوهة.
وتردف: "شاهد الجميع قيام ميليشيات (حماس) وأفرادها بعلميات السطو والسرقة للمؤسسات والمراكز، ورفع راياتها بعد إنزال علم فلسطين. أكثر من (700) شهيد وآلاف الجرحى خلّفهم انقلاب حماس الدموي. روايات أليمة خلَّفها هذا الانقلاب، وبعد (15) عاماً لم يندمل هذا الجرح النازف، ولم تنسَ عوائل الضحايا والمصابين بشاعة تلك الأيام السوداء.
يتحدث شهود عن إجرام عناصر حركة حماس أثناء تنفيذها للانقلاب، فقد كانوا يتعمدون إمّا القتل، وإمّا تعمّد إصابة الضحايا بإصابات خطيرة تسبب لهم إعاقات دائمة".
ومن الأحداث المفزعة التي ارتكبتها حركة حماس، أنّ عناصرها عندما كانوا يختطفون أبناء حركة فتح كانوا يقومون بإطلاق النار من نقطة الصفر من خلف ركبة المصاب مع ثني قدمه للخلف، حتى تتهشّم العظمة الأمامية للركبة، ممّا يؤدي إلى ترك المصاب في إعاقة مدى الحياة. كما استخدمت حماس في جرائمها بحق أبناء شعبنا في قطاع غزة الرشاشات الثقيلة، والقذائف الصاروخية، والقنابل، وقتلت المئات تحت التعذيب الوحشي، وقتلت عائلات بأكملها بعد محاصرة منازلها وإمطارها بالصواريخ، وكأنّها تقاتل شعباً غير شعبها! وفق وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية.
وتردف: "استشهد عدد كبير من أبناء حركة فتح والأجهزة الأمنية وحرقت مقراتهم ومنازلهم وهدمت فوق رؤوسهم ورؤوس عائلاتهم، وهم يدافعون عن حركة فتح وشرعيتها. ويعيش أبناء قطاع غزة منذ الانقلاب الدموي في نكبات متجددة".
قتل عمدي
إذاً، تبعث ممارسات حماس السياسية والأمنية مشاعر إحباط وامتعاض، لا سيّما مع ما توفره لإسرائيل من فرص مجانية لهذا المشهد المأساوي المستمر منذ نهاية عام 2023، بل يضع المنطقة أمام متغيرات أمنية وجيواستراتيجية عميقة. كما أنّ ما جرى مع الشاب العشريني عدي ربيع، من تعذيب أفضى إلى قتل علني لانتقاده الحركة والمشاركة في الاحتجاجات، هو استئناف لمسيرة التنكيل. فقد نقلت شبكة CNN شهادة شقيقه الذي قال: إنّ عشرات المسلحين من الجناح العسكري لحماس "كتائب القسام" اختطفوا (عدي ربيع) في حي تل الهوى بمدينة غزة، ثم عذبوه. ويقول: "كان (ربيع) يرتدي ملابس داخلية فقط، وكان المسلحون قد قيدوه من رقبته بحبل، وسحبوه وضربوه، ثم سلّموه إليّ، وقالوا لي هذه الكلمات: "هذا مصير كل من يسيء إلى كتائب القسام ويتحدث عنها بسوء".
الشاب العشريني الذي مات بفعل هذا التعذيب الوحشي والهمجي، يؤشر إلى بدائية وغرائزية لدى هذا الفصيل الإسلاموي الذي يرهن قطاع غزة لحساب نزواته ومغامراته السياسية. ويؤكد بيان لعائلة ربيع على موقع التواصل الاجتماعي (فيسبوك) أنّ مجموعة تدّعي أنّها من "كتائب القسام" اختطفت ربيع الساعة 8:30 مساء الجمعة، وتعرّض ربيع "لتعذيب شديد بجميع أنواع الأدوات الحادة والصلبة"، وتعرض لـ"نزيف داخلي"، فضلاً عن إصابات متعددة في الرأس والحوض والظهر.
وفيما يبدو كانت هناك تهديدات للشاب قبل خطفه وتعذيبه وقتله، بحسب ما وثق بنفسه في مقطع فيديو، يؤكد شقيقه أنّه قام بتسجيله قبل نحو أسبوع من وفاته، قال فيه ربيع: "هم (حماس) يريدون أخذي، يريدون قتلي...، لا أعرف ماذا يريدون منّي". وعليه، أدانت الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان، التي أسسها الرئيس السابق لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات مقتل ربيع، وقالت: "هذه الجريمة في إطار تفاقم الفوضى الأمنية وانتشار الأسلحة وغياب سيادة القانون في غزة، ممّا يشكل تهديداً خطيراً للحقوق والحريات العامة".