مُذ خلقهنّ الله على هذه الأرض، لم تتعرض النساء السودانيات إلى قهرٍ مُنظمٍ كالذي طالهنّ، وما يزال، على يدِ جماعة الإخوان المسلمين، عقب استيلائها على السلطة عبر انقلاب عسكري، في حزيران (يونيو) عام 1989.
منذ ذلك الوقت، وإلى اللحظة، صارت المرأة السودانية رهينة القهر والجلد والمطاردة، بموجب المادة (152/1) من القانون الجنائي لعام 1991، الذي أُبرم بموجبه قانون آخر، أطلق عليه "قانون النظام العام"، صدر عام 1996م، وشُكِّلت محاكم خاصة وفرق شرطية تابعة لها، لتنفيذ القانون، عبر مطاردة النساء في الشوارع والأماكن العامة، لفحص ما إذا كان زيهنّ مطابقاً للشرع أم مخالفاً له، وفق تقديرات أفراد تلك الفرق، وأمزجتهم الشخصية، الأمر الذي نجم عنه كثير من التجاوزات والانتهاكات، والاستغلال، والابتزاز.
المرأة السودانية رهينة القهر والجلد والمطاردة، بموجب المادة (152/1) من القانون الجنائي لعام 1991
صدر قانون النظام العام، بشكله الحالي، للمرة الأولى، كلوائح محلية خاصة بولاية الخرطوم فقط، في 28 آذار (مارس) عام 1996، في عهد حاكمها الأسبق، الإخواني المُتشدد بدرالدين طه، تلك اللوائح صدرت في 7 فصول، و26 مادة، خاصة بتنظيم الحفلات العامة والخاصة، وضرورة الحصول على تصديق رسمي من الشرطة، لتنظيمها وفق العديد من الشروط التي يُلْزَمْ طالب التصديق على التوقيع عليها، مثل: عدم السماح بالرقص المختلط بين الرجال والنساء، وعدم السماح للنساء بالرقص أمام الرجال، ومنع إطلاق الأعيرة النارية في حفلات الأعراس، وعدم أداء أغنيات ذات مفردات (هابطة) تتنافى مع العقيدة والأخلاق السودانية السمحة، والوجدان السليم. كما حددت تلك اللوائح، (قانون النظام العام)، فيما بعد وحتى الآن، ضوابط لاستخدام المواصلات العامة (الباصات)؛ حيث تخصّص مقاعد منفصلة للنساء، ومُنع الرجال من العمل في مراكز التجميل، ومحلات الخياطة النسائية، ومَن يخالف تلك اللوائح، كما ينصّ الفصل السابع منها، يُعرّض نفسه للسجن بما لا يزيد عن خمسة أعوام، والغرامة أو الجلد، أو كلّ تلك العقوبات مجتمعة.
الزي الفاضح!
أما فيما يتعلق بمادة الزي الفاضح؛ فقد وردت في القانون الجنائي لعام 1991، وهي المادة (152/ 1) سالفة الذكر، التي كُلفت شرطة النظام العام (أمن المجتمع) حالياً بتنفيذها، وتثير هذه المادة جدلاً واسعاً، وتتعرض لانتقادات كثيرة، ليس من قبل المنظمات الحقوقية والمدنية فحسب؛ بل من كلّ الشعب السوداني، كونها تمنح سلطات تقديرية واسعة لأفراد الشرطة، الأمر الذي يجعل بعضهم يتحرشون بالنساء، ويبتزونهنّ بحجة أنهنّ يرتدين أزياء فاضحة، ولا تتورع شرطة النظام العام (شرطة دينية) عن إذلال السودانيات، وإهانتهنّ، واتهامهنّ بالأفعال الفاضحة، لمجرد ارتدائهنّ سراويل الجينز مثلاً!
تم اعتقال فتيات مسيحيات من قبل شرطة النظام العام أثناء خروجهنّ من إحدى الكنائس، بتهمة ارتداء الزي الفاضح!
وتتعرض العديد من النساء لانتهاكات جسيمة، بموجب المادة (152/ 1)، من القانون الجنائي لعام 1991، مدعومة بمواد قانون النظام العام لعام 1996، منها: جلد النساء أمام الملأ، والتشهير بهنّ، والتحرش بهن، وزجهنّ في السجون، ومطاردتهنّ، وابتزازهنّ بأشكال مختلفة. ووصل الأمر، في بعض الأحيان، إلى قتلهنّ، كما في حالة السيدة عوضية عجبنا؛ التي أزهقت روحها في آذار (مارس) عام 2012، برصاص أطلقته عليها شرطة النظام العام، أثناء مداهمتها لمنزل الأسرة في حي (الديم) بالعاصمة السودانية الخرطوم، بحجة القبض على أخيها بتهمة السُّكر.
وفي السياق ذاته؛ لا بُد من الإشارة إلى حادثة اعتقال فتيات مسيحيات، في آذار (مارس) 2017، من قبل شرطة النظام العام، أثناء خروجهنّ من إحدى الكنائس، بتهمة ارتداء الزي الفاضح، وتمت محاكمتهنّ، رغم أنّ دينهنّ يسمح لهنّ بارتداء الزي الذي يردن.
الوقوع في الفخ
فتيات ونساء كثيرات، من الأسر التي تقطن الأحياء الفقيرة من أطراف العاصمة السودانية الخرطوم، جُلدن وشُهِّر بهنّ دون أن تصل قصصهنّ إلى أجهزة الإعلام؛ فشرطة النظام العام تتجنّب الاحتكاك بالنساء من الطبقات المتعلمة أو الثرية، لكنّها تقع أحايين كثيرة في الفخ، نتيجة سوء التقدير الذي يكتنف عمل بعض مفارز شرطة الآداب (النظام العام).
ولعلّ أبرز الفخاخ التي وقعت فيها شرطة النظام العام، كانت اعتقال الصحفية لبنى أحمد الحسين، عام 2009، وكانت حينها تعمل في إعلام قوات الأمم المتحدة لحفظ السلام في السودان (يونيميد)، في مطعم كوكب الشرق بالخرطوم، بتهمة ارتداء زي فاضح، رغم أنّها كانت ترتدي سروالاً واسعاً وفضفاضاً، وقميصاً طويلاً، وتضع وشاحاً على رأسها وكتفيها. وتمت محاكمتها، بموجب المادة 152، بالجلد (40) جلدة، لكنّ القاضي غيّر الحكم إلى غرامة تبلغ (500) جنيه سوداني، أو السجن لمدّة شهر كامل، لكن الصحفية رفضت دفع الغرامة، الأمر الذي أوقع الحكومة السودانية في مأزقٍ كبيرٍ، بعد أن ندّدت المنظمات الحقوقية والصحفية العالمية بالمحاكمة، فاضطر اتحاد الصحفيين السودانيين، التابع للنظام الحاكم، إلى دفع الغرامة للمحكمة، دون استشارة المُتهمة، وأُطلِق سراحها، فهاجرت إلى فرنسا، حيث تقيم إلى الآن.
قانون فضفاض!
"من يأتي بفعلٍ أو سلوكٍ فاضحٍ، أو مخلٍّ بالآداب العامة، في أماكن عامة، أو من يرتدي زياً فاضحاً، أو مخلّاً بالآداب العامة، يسبب بفعله ضيقاً للعامة، يعاقب بالجلد بما لا يجاوز الأربعين جلدة، أو بالغرامة، أو بالعقوبتين معاً. يعد الفعل مخلاً بالآداب العامة إذا كان كذلك في معيار الدين الذي يعتنقه الفاعل، أو عرف البلد الذي يقع فيه الفعل".
هذا هو نصّ المادة (152/ 1)، مثار الجدل، وموضوع جلد النساء بالسوط أمام الملأ، وبناء على هذه المادة المجحفة، نُشرت العديد من مقاطع الفيديو، في الفترة بين عامَي 2010 – 2013، صوّرها رجال الشرطة أنفسهم، تظهر فيها نساء يجلدن بقسوة في أقسام الشرطة، وهنّ يصرخن، فيما يضحك المنفّذون ضحكاً هستيرياً، ويمطرون الضحايا بالتعليقات الساخرة!
القانون صمِّم لقهر المرأة وإذلالها والحطّ من كرامتها بأساليب مختلفة من بينها الجلد والسجن بسبب مسائل تتعلق بالزي
من جهتها، ظلت منظمات حقوقية ونسائية مدنية تقاوم هذه القوانين، وتسعى إلى إلغائها دونما جدوى، فلا تزال حكومة الخرطوم، بدعم من هيئة علماء المسلمين الإخوانية، تٌصرّ على إبقاء هذه المادة، إلى جانب قانون النظام العام، والقوانين الأخرى التي تستهدف المرأة السودانية.
وفي هذا الصدد؛ وصِفت مبادرة "لا لقهر النساء"، وهي مبادرةٌ مدنيةٌ حقوقيةٌ، قانون النظام العام، بأنّه صمِّم لقهر المرأة، وإذلالها، والحطّ من كرامتها بأساليب مختلفة، من بينها: الجلد، والسجن، بسبب مسائل تتعلق بالزي، ما يعدّ انتهاكاً لحقوقهن الفردية، وتدخلاً في أمورهنّ الخاصة بحرية الملبس.
كأن مشيتها
نهاية العام 2013، برز اسم المهندسة المدنية، أميرة عثمان، وشغل حيزاً من مساحات الصحف، والفضائيات المحلية والعالمية، ومواقع التواصل الاجتماعي. وكانت أميرة قد رفضت وضع الغطاء على رأسها، بناءً على طلب أحد أفراد الشرطة، في الشارع العام، ما اعتبرته مستفزاً، وقدّمت أميرة إلى المحاكمة لمخالفتها المادة سيئة الصيت نفسها، إلّا أنّ السلطات خشيت هذه المرة من تبعات جلد امرأةٍ متعلمةٍ، وناشطةٍ في مجال حقوق النساء، ما قد يتسبب فيما لا يحمد عقباه، فتحفظت على القضية.
لا يزال نظام جماعة الإخوان في السودان يواصل فرض قوانين يعدّها دينية على الشعب السوداني عموماً والنساء خصوصا
ورغم أنّ تلك الحادثات الجسام، التي أضرت بسمعة الحكومة السودانية، في المحافل الدولية، إلّا أنّها لم تتوقف عن جلد النساء، والتنكيل بهنّ عبر يدها الباطشة المتمثلة في شرطة النظام العام، وإن كانت تختار ضحاياها من الطبقات المسحوقة، وتتجنّب الاحتكاك بالأخريات المتعلمات، أو المنسوبات إلى الأسر الثرية، لكنّها ظلت تخطئ التقدير بين الفينة والأخرى، ومن ذلك؛ ما حدث في 21 كانون الأول (ديسمبر) عام 2017؛ ونقلته وسائل الإعلام السودانية؛ حيث أوقف أحد وكلاء النيابة شابة سودانية في الشارع العام، بحجة أنّ ما ترديه يعدّ "زياً فاضحاً"، رغم أنّها كانت ترتدي تنورة وبلوزة عاديتين، لكنّ لسوء حظّ ذلك الوكيل، كانت الشابة وتُدعى (ويني عمر)، صحفية وناشطة حقوقية، فأسقط في يده حين جادلته، وعدّت توقيفه لها خرقاً للقانون، وابتزازاً رخيصاً، فما كان منه إلّا أن حرّك ضدّها إجراءات قانونية، وعبث بهاتفها الشخصي، واطّلع على محتوياته من مراسلات وصور، قبل أن يحيلها إلى المحكمة؛ حيث قرّر القاضي بأنّ الزي الذي كانت ترتديه ويني، أثناء توقيفها من قبل وكيل النيابة لم يكن فاضحاً، وأنّ البلاغ المقدَّم في حقّها فيه شبهة تربص، فما كان من وكيل النيابة، إلّا أن دافع عن نفسه بطريقة مثيرة للسخرية والضحك، حين قال للمحكمة: "إنّ طريقتها في المشي لم تعجبه، لذلك جاء بها إلى هنا"، وهكذا قضت المحكمة ببراءتها، وأغلقت القضية.
إلّا أنّ ويني عمر، بعد حصولها على البراءة، قالت في تصريحات صحفية: إنّ "منظمات الدفاع عن حقوق المرأة السودانية، ستواصل حملتها ضد المادة 152 من القانون الجنائي، التي تمسّ كرامة النساء. وإنّ سعادتها بالبراءة لن تكتمل إلّا بإلغاء تلك المادة، وغيرها من القوانين التي تصادر حقوق النساء، وتسعى لقهرهنّ وإذلالهنّ، وطالبت الحكومة بإلغاء مادة الزي الفاضح، باعتبارها مادة فضفاضة تمسّ كرامة السودانيات، وتنتهك حرياتهن".
ابتزاز وتهديد
إلى ذلك، لا يزال نظام جماعة الإخوان المسلمين في السودان، يواصل سعيه الدؤوب إلى فرض قوانين، يعدّها دينية، على الشعب السوداني عموماً، والنساء بشكل خاص، فإلى هذه اللحظة يتواصل مسلسل اقتياد الفتيات لأقسام شرطة النظام العام، سيئة الصيت؛ حيث تنقل وسائل الإعلام السودانية قصصاً يومية لنساء يتعرضن للإهانة والتحرش، والابتزاز، والإذلال، من تفتيش لهواتفهنّ، وعبث بمحتوياتها، بغية الحصول على صور أو رسائل خاصة، وتهديدهنّ بنشرها، إن وجدت، على مواقع التواصل الاجتماعي، أو عرضها على أسرهنّ. بالتالي، بثّ الرعب فيهنّ، وفي كثير من الأحيان، تتم مصادرة هواتفهنّ ومتعلقاتهن الشخصية، ومن ثم إطلاق سراحهنّ دون محاكمة، وإلّا فالجلد، والتنكيل، والتشهير في انتظار من تقاوم.