في هجاء التناقض والرياء: هابرماس نموذجاً

في هجاء التناقض والرياء: هابرماس نموذجاً

في هجاء التناقض والرياء: هابرماس نموذجاً


27/01/2024

المحن تكشف معادن البشر، وتمتحن صلابتهم ومصداقيّتهم، خصوصاً إذا كان هؤلاء البشر ذوي مكانة موجّهِة أو ملهِمة، أو قادة رأي أو نشطاء أو مناضلين من أجل العدالة والحريّة.

وينخرط في قائمة ذوي المكانة الشعراء والأدباء والمفكرون والفلاسفة، وسواهم من المشتغلين بالإبداع؛ فهؤلاء، كما تفترض البداهة، هم أنصار الضوء والانعتاق، وأعداء الاستبداد والقتلة والمحتلّين.

فإذا جاوز أحدٌ من ذوي المكانة والهالة هذه الحدود التي تعاقدت عليها توقعات الناس المستقبلِين لخطاب هؤلاء، حدثت الخيبة والانكسار، وأصاب الرجاءَ إحباطٌ شديد ولئيم.

في الحرب على غزة التي بلغت حداً من الهمجيّة والإجرام لا يمكن غض الطرف عنه، يَفترض الحسّ النزيه، والوعي المنصف أن ينحاز الناس، على اختلافاتهم المتعددة إلى الضحايا، وهم في جلّهم أطفال ونساء ومدنيون لم يحملوا سلاحاً، ولم يشاركوا في حرب، بل كانوا في بيوتهم حينما هطلت عليها القنابل والصواريخ، وتركت الفضاء المغبرّ نهباً للصراخ، إن قيّض لحنجرة أن تصرخ.

هابرماس لم يبقَ متّسقاً مع تلك الأفكار التي جعلت الناسَ تعتنقها كما لو أنها أيديولوجيّة جديدة ذات رونق جذّاب ودهشة مفعمة بالأمل

هذه تكاد تكون واحدة من المسلّمات غير المختلَف عليها، فلماذا يشكُل الأمر على فيلسوف كيورغن هابرماس يُنظر إليه بأنه أحد ألمع روّاد النقد والتغيير في العالم، وأحد أكثر الفلاسفة التصاقاً بالواقع من أجل تفكيكه وهدمه وإعادة تركيبة على أسس جديدة منقطعة الصلة بصورته السابقة؟

لقد أسهم هابرماس في انتشال أجيال في ألمانيا من حفرة الانهدام الفكريّة التي شكّلها العقل النازيّ، وحشاها بالأوهام، وقادت المجتمع الألمانيّ والمجتمعات الأوروبيّة، أيضاً، إلى حالة التدمير الذاتي، فقد أتت الحرب العالمية الثانية على كلّ شيء، فلم تبقِ ولم تذر، وعمّ البلاء والإحباط في ألمانيا الهتلريّة المهزومة التي لم يخلُ بيت فيها من فقدان وأسى وخسارات أشدّها فداحة خسارةُ اليقين.

ترجّل هابرماس من برج الأستاذ الجامعيّ، ونزل إلى الشارع، وراح يحرّض الروح الألمانيّة الجريحة على تجاوز هزيمة الرايخ الثالث، والعمل على "اجتثاث النازيّة" من النفوس والمناهج والأدبيّات والتداول العام، وتنمية الحسّ النقديّ لدى الجيل الألمانيّ الناهض، من أجل تحرير الذات الألمانيّة من الفاشيّة والتعصب القوميّ، ومن تبرير التوحّش باسم التمدّد والسيطرة على العالم، كما كان يحلم هتلر.

تمكّن هابرماس الذي يُطلق عليه "فيلسوف الجمهوريّة الألمانيّة الجديدة" من بلورة أطروحة منهجيّة عملياتيّة للتغيير متعدّد الأبعاد قوامها "الخطاب النقديّ الخالي من الهيمنة". ومن خلال أطروحته هذه، أخذ هابرماس على عاتقه، تجذير علم الاجتماع والفلسفة وعلم النفس في الجامعات الألمانيّة، وتعميق النظر في العلوم الإنسانيّة، من أجل تدشين دولة الحداثة والمجتمع المدنيّ.

وتبلور جهد هابرماس من خلال مدرسة فرانكفورت، التي انطلقت ما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية وانخرط فيها فلاسفة بارزون من وزن: ماكس هوركهايمر، وتيودور أدورنو، وهربرت ماركوز، وفريدريش بولوك، وإريك فروم، وأوتو كيركهايمر، وليو لوفنتال، وفرانز ليوبولد نيومان، وهنريك غروسمان.

 صاحب نظريّة "الفعل التواصلي"، رنا إلى بناء مجتمع عقلانيّ حداثيّ يقوم على أخلاقيّات الحوار، ونجح في ذلك برفقة أصوات فكريّة وأكاديميّة وأدبيّة ألمانيّة سرّعت في عملية التشافي التي أثمرت، في زمن قياسيّ، نهضة ألمانيّة في مختلف المجالات.

"فيلسوف التنوير" أراد لأفكاره أن تتطابق والحالة الأوروبية، فقد انشطر عقله "النقديّ" إلى شمال وجنوب، إذ يحقّ للأول ما لا يحقّ للثاني، وبذلك سقط في "وحل التناقض الأخلاقيّ"

لكنّ هابرماس، وهنا بيت القصيد، لم يبقَ متّسقاً مع تلك الأفكار التي دشّنها، وجعل الناسَ في ألمانيا وخارجها تعتنقها كما لو أنها أيديولوجيّة جديدة ذات رونق جذّاب ودهشة مفعمة بالأمل والرغبة في التجاوز والانعتاق وتحرير الروح من الهيمنة والقبح والاستعباد والإقصاء، وحماية البشر من بطش القوّة، وانفلات العقل "الإباديّ" المتوحّش من عقاله.

انقلب هابرماس إلى رجل من سليل جيل حفرت النازيّة في أعماق لاوعيه، فراحت تتجلّى في مواقف عدة أفصح عنها هابرماس بخصوص دولة الاحتلال الإسرائيليّ، وكان آخرها موقفه من المظاهرات والاحتجاجات التي قام بها الألمان تضامناً مع غزة، حيث رأى في تلك المظاهرات "عداءً للسامية"، وهي الذريعة التي شكّلت كما يشبه "البعبع" الذي كبّل عقل هابرماس، وشلّ وعيه، وأغلق فمه، بدلالة أنه ذات مرة انتقد الروائي الألماني غونتر غراس، وقال إنه لا يجب أن يتحدث بما يوحي أنه "عداء للسامية" موضحاً: "هناك أشياء لا ينبغي على الألمان من جيلنا قولها"، وهو تصريح بالغ الدلالة لجهة الرعب المحيط بمن ينتقد اليهود وإسرائيل، أو يتعاطف مع الضحايا الفلسطينيين.

"فيلسوف التنوير" أراد لأفكاره أن تتطابق والحالة الأوروبيّة، فقد انشطر عقله "النقديّ" إلى شمال وجنوب، إذ يحقّ للأول ما لا يحقّ للثاني، وبذلك سقط في "وحل التناقض الأخلاقيّ"، وحوّل أدوات التواصل، والخطاب النقدي الخالي من الهيمنة إلى ذرائع وهميّة للهروب من الواقع الذي يقول بأفصح لسان إنّ ضحايا النازيّة الألمانيّة في الأمس، هم النازيّون الصهاينة الجدد الذين يعملون اليوم، بل كلل، على تدمير معبد الإنسانيّة، وتصحير الأخلاق، وفقء عين الضمير الأخلاقيّ.

مواضيع ذات صلة:

كيف تكون الأخلاق بلا دين؟

وذلك أضعف الإيمان

 



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية