وذلك أضعف الإيمان

 وذلك أضعف الإيمان

وذلك أضعف الإيمان


18/01/2024

فرضت الحرب الإسرائيليّة على قطاع غزة أشكالاً مختلفة من المقاومة لدى قطاع كبير من الناس، عرباً كانوا أم أجانب، تتمثّل في مقاطعة السلع والمتاجر والمقاهي والمطاعم التي توصف بأنّها "مشبوهة" والبحث عن بدائل محليّة أو أكثر "أماناً".

وقد حقّقت هذه المقاطعة نجاحات مبهرة في بلدان كثيرة، بينما لم يكن التفاعل معها شديداً في دول أخرى.

بيْد أنّ اللافت في هذا الأمر هو يقظة الإحساس الجمعيّ مع الضحايا الذين يتعرّضون للإبادة الجماعيّة في غزة التي أضحت، بعد مائة وأربعة أيام، مقبرة مفتوحة على الألم والغضب وهجاء "الضمير" الصامت؛ لأنّ في الصمت المطبِق، دلالة على التواطؤ مع القتلة والوحوش.

ولم يجد المقاطعون عَنتاً في مساعيهم، فقد تأقلموا بسرعة مع الحالة الجديدة، وراحوا يتداولون البضائع والمنتجات والخدمات البديلة التي قد تكون أقلّ جودة، لكنّ ذلك أمر ثانوي في غمار "المعركة" الأخلاقيّة الكبرى التي يغدو الساكت عن التأثير الإيجابي فيها كالشيطان الأخرس.

والمقاطعون لا يحتاجون إلى إشهار ما يفعلون؛ لأنّ ذلك في المقام الأول شأن نفسيّ يُشعر الإنسان بالفاعليّة وجدوى الكينونة، فضلاً عن أنّ ذلك ينخرط في إطار ما يُعرف بـ"أضعف الإيمان"، تيمّناً بالحديث النبويّ: "من رأى منكم منكراً فليغيّره بيده، ومن لم يستطع فبلسانه، ومن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

لعلّ في انتصار المقاطعة دليلاً ساطعاً على "المقاومة الناعمة" التي تعمل بلا ضجيج، وتحفر في أعماق الوعي الإنسانيّ، من أجل تكريس تقاليد لمكافحة الظلم

وقد تكلّلت المقاطعة، في بعدها الاقتصاديّ، بنتائج مبهرة، وألحقت خسائر فادحة بالشركات المقاطعَة التي راح بعضها يفكّر بتغيير العلامة التجاريّة لتلافي الخسائر المتدحرجة، وهذا أمر لم يسبق له مثيل في حروب ومخاضات عربيّة سابقة، ما يعني إدانات إضافيّة لا تنقطع للاحتلال الإسرائيلي الذي يُحاكم الآن أمام أرفع منصّة للعدالة في العالم باعتباره مرتكِباً أشدّ الفظائع، ووالغاً في إبادة جماعية استهدفت مدنيين غالبيّتهم من الأطفال والنساء، فضلاً عن تدمير مؤسسات خدميّة كالمشافي والمخابز والمتاجر التي تغذّي شريان الحياة في حدودها الدنيا. كلّ شيء تعرّض للإبادة المنهجيّة، ثم يأتي من يسأل: لماذا تقاطعون؟

أنت تقاطع لا دفاعاً عن فصيل أو تيّار أو حزب أو اتجاه. أنت تدافع عن البشر العاديين الذين لا حول لهم ولا قوّة، عن فسحة الشمس، وقطرة الماء، وكِسرة الخبز، والدفء في ليالي الزمهرير. ثم إنك تدافع عن الحقّ في المقاومة المشروعة التي فرضتها الشرائع الدوليّة وحضّت عليها الأديان، كما تجلّى في مراحل ودرجات ردّ المنكر وتغييره، بحسب الحديث النبوي السابق.

والمقاطعة لا تعني الكراهية، بالضرورة، ولا تحرّض عليها، وهنا أقصد الجهات الغربيّة المقاطَعة. أي أنّ المقاطِع يتوجّه إلى رأس المال اللأخلاقي الذي لا يؤنّب "ضميره" تمويلُ كيان غاصب، وهذه الشركات العابرة للحدود والقيم لا تعني أنّ مواطنيها ضالعون في هذه "الجريمة"، بدليل أنّ الشعوب والقوى الحيّة والناشطة في كلّ بقاع الأرض انتصرت لاستغاثات الضحايا في غزّة. أنت تقاطع شركة، ولا تقاطع شعباً. ولا أعتقد أنّ ثمة شعباً (بقضّه وقضيضه) يدعم الاحتلال، ويواري سوأة القتلة، ويغمض العين عن دخان المحرقة النازيّة الجديدة في غزّة.

ولعلّ في انتصار المقاطعة دليلاً ساطعاً على "المقاومة الناعمة" التي تعمل بلا ضجيج، وتحفر في أعماق الوعي الإنسانيّ، من أجل تكريس تقاليد لمكافحة الظلم والاستبداد وعدم الاستسلام لاشتراطات الأمر الواقع، وهي في جلّها اشتراطات كريهة ومذمومة.

قيل كثيراً عن انتصار الدم على السيف. وها هي غزة ومناصروها في مشرق الأرض ومغربها تؤكد أنّ صيحات الأمهات التي خرقت عنان السماء قد سمعت من يلبّيها. إنه قانون الجذب المغناطيسيّ. إنه الكون وقد أصاخ السمع، وذرف الدمع، وتململ.




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية