"أوبنهايمر": رماد جثة محترقة تدعى "الأخلاق"

"أوبنهايمر": رماد جثة محترقة تدعى "الأخلاق"

"أوبنهايمر": رماد جثة محترقة تدعى "الأخلاق"


29/07/2023

في فيلم قصير أنجزه في بداياته السينمائيّة (1997)، يتحدّث كريستوفر نولان عن رجل يسحق حشرة بقدمه، ليكتشف فيما بعد أنه قد سحق نفسه. الفيلم كان من ثلاث دقائق كشفت الطريقة التي يتعاطى فيها هذا المخرج مع العالم المعقّد.

تلك الدقائق الثلاث صاحبت نولان في مسيرته السينمائيّة التي جعلت منه في نظري "فيلسوف السينما المعاصرة"، وهو ما تجلّى في فيلمه الأخير "أوبنهايمر" الذي احتاج فيه إلى ثلاث ساعات من أجل أن يقول إنّ رؤيته لذلك العالم الذي يسحق فيه رجلٌ حشرة، ما تزال قائمة وتزداد تعقيداً، إننا الآن إزاء رجل يسحق العالم، ويهدّد البشرية بالموت والفناء، فيما هو في الحقيقة يكشف عن منازع ذاته المتوترة، المتناقضة، المنفصمة، المدمّرة.

وأشدّ ما يلفت الانتباه في الفيلم الجديد الذي أداه، بل عاشه وغرق فيه الممثل كيليان مورفي الذي عمل مع مولان في جزئين من أفلام "ثلاثية الظلام"، أنّ البناء النفسيّ للعمل لم يكن ليتحقّق لولا تلك الإضافات التي صهرت رؤى المخرج مع جهد الممثل، حتى ليكاد أن نقول إنّ مورفي مشارك أساسي في إخراج الفيلم، وليس في تمثيله وحسب.

وفي منأى عن نولان ومورفي، ونص الفيلم المأخوذ عن كتاب السيرة الذاتية "بروميثيوس الأمريكي: انتصار ومأساة ج. روبرت أوبنهايمر"، فإنّ الشخصيات والأحداث تبدو ثانوية، بمعنى أنّ الفيلم ليس عن القنابل التدميريّة الساعية إلى إفناء العالم، ولا عن سباق التسلح بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ولا عن الظروف التي أرغمت اليابانيين على الاستسلام عقب هزيمة هتلر في الحرب العالمية الثانية.

الفيلم يتكىء على تلك الأحداث، لا ليستعيدها، ففي ذلك حُمْق لا يجرؤ عليه نولان، بل إنّ الفيلم يتجسّد كمرافعة أخلاقيّة بخصوص المعاني القصوى للوجود والعدم. ومن يلاحظ ترسّبات فلسفة الوجود في روح الفيلم وخلفيته، فهو محقّ، لكنّ تلك الأسئلة الفلسفيّة الحارقة لا تسعى إلى إجابات، ولا تتوخّى إنتاج معنى محدّد ونهائي. إنّها تقذف في وجه العالم نفايات تبجّحه وركاكة ضميره وامتلاءه بالأكاذيب، وهذا ما يُغوي مخرجاً مثل نولان يتحدّى صبر المشاهد في ثلاث ساعات، ويحشد خلالها كلّ ما من شأنه أن يؤثث للحظة المنتظرة: خواء الإنسان، بؤس الحضارة الغربية، تهافت الضمير، علوّ كعب التبرير حتى لو كانت الأجساد المسلوخة بفعل الصهر النووي لها تحدّق في العدم.. إنها تظل تحدّق فيما عظامها تذوب.

وفي لحظة من أشدّ لحظات الفيلم مأساوية (وما أكثر تلك اللحظات في هذا العمل) بعد الانفجار العظيم الذي يستبطن مؤشرات دمار العالم، يسود صمت فادح لا تقطعه إلا أنفاس أوبنهايمر، الذي يعقبه صوت "الآن صرتُ الموت، مدمرَ العوالم" من الكتاب المقدّس الهندوسي البهاغافاد غيتا.

الفيلم، وهنا تتجلّى براعته، يحاكم حقبة من أخطر حقب التاريخ الإنسانيّ، من خلال شخصية عالم فيزياء يعد "أبا القنبلة النووية"، وأشدّ الأشخاص الملعونين في التاريخ.

الأسئلة الفلسفيّة الحارقة في الفيلم لا تسعى إلى إجابات، ولا تتوخّى إنتاج معنى محدّد ونهائي. إنّها تقذف في وجه العالم نفايات تبجّحه وركاكة ضميره وامتلاءه بالأكاذيب

 وما يجعل أوبنهايمر شخصاً "استثنائياًّ" أنه لم يشعر بالندم، بل لم ينطق بأية عبارة تشير إلى أنه وافق على الضغط على الزر الأحمر المدمّر بدافع آخر غير دافع الإفناء، واستئصال الحياة، محمولاً بطاقة التبرير التي تخلع على فعله أوصافاً أخلاقيّة، مثل الردع النوويّ، حماية أمريكا والعالم من الروبوتات (المقاتلين) اليابانيين، زرع بذرة السلام في العالم، وكلها ذرائع يسوّقها الخطاب الرسميّ في العالم "المتقدّم"، ويصبغها بالمشاعر.

عن هذا الاختلال الأخلاقيّ يتحدّث الفيلم، وبهذه الشجاعة الفلسفيّة الناقمة على مجتمع "أوبنهايمر"، ومشروع مانهاتن، يكشف هراء المباركة الرئاسيّة الأمريكيّة لإذابة اليابانيين وصهر آهاتهم، من دون أن يرفّ لهؤلاء جفن. أين المحرقة الفلسطينيّة المستمرّة من ذلك كله؟

وفيما تهتز الأقدام كقرع طبول في صالة الاحتفال بإنجاز أوبنهايمر المدمّر، يورد الفيلم مشهداً آسر لغوص قدم العالم الفيزيائي في رماد جثة محترقة، فيما ارتسم الهلع على ملامح الرجل المكرَّم. وهو هلع أقلّ مما أحدثته لحظة تسميم التفاحة التي كادت أن تودي بأستاذه لولا التنبيه الأخير، وفي ذلك التنبيه تكمن أسرار التناقض في شخصية هذا الرجل الممتلىء بالعتمة والنور، بالخير والشر، بالرغبة والألم، وبالتوق الشديد لإحضار زهور إلى حبيبته التي تمقتها وتلقيها، كلّ مرة، في سلة المهملات.

من أشلاء هذه التمزّقات المتناثرة على قارّة لا متناهية من الوعي المتشظّي، ينسج نولان أسطورته السينمائيّة، بعين شاعر، وروح فيلسوف، وتطلّع ثائر، محدّقاً في "أوبنهايمر"، ليس بوصفه بروميثيوس الذي سرق النار والمعرفة والعطايا ليهديها إلى البشر، بل باعتباره الشر ذاته مجسّداً، ليس في شخصيّة عالم فيزياء، بل بحقبة انسلخت فيها الأخلاق وذابت، حتى غدت رماد جثة محترقة يغوص فيها العالَمُ حتى ركبتيه!




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية