
كشفت (لوفيغارو) الفرنسية عن نسخة مخففة من تقرير رسمي سرّي، صاغه الدبلوماسي فرانسوا غوييت (François Gouyette) واللواء باسكال كورتاد (Pascal Courtade)، مكوّن من (73) صفحة، ويُبرز شبكات امتداداتها "مفتوحة" لجماعة الإخوان المسلمين في فرنسا، وأهدافها المباشرة هي بسط أحكام الشريعة الإسلامية تدريجيًا حسب فهم ورؤية الإخوان المختزلة.
ويشير التقرير إلى تغلغل الجماعة عبر المساجد والجمعيات والأنشطة الاجتماعية والرياضية في أحياء كثيرة، خاصة ذات الأغلبية المسلمة والمهمشة، مع تفصيل لعدد المواقع المنشغلة (139) مسجدًا رسميًا و(68) محلّية و(280) جمعية، وبيان عدد المصلين حوالي (91) ألفًا، والمجالات التي تستثمر فيها الجماعة لبناء "نظام اجتماعي" متكامل ومنفصل، منذ الولادة حتى الوفاة.
ويقترح التقرير خطوات تشريعية وإعلامية لمواجهة هذا "الانخراط تحت الأرض"، من إعادة تعريف مفهوم "التقسيم" أو "الانفصال" إلى ميزانية تقارير دورية للبرلمان، وتبنّي خطاب عام جديد يُوجّه إلى عموم المجتمع، ومن ضمنهم مسلمو فرنسا.
تمدد الجماعة
يبدأ التقرير بمقولة شهيرة لـ (حسن البنا) يقول فيها: "نحن دعوة سلفية، وطريقه سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وروابط علمية وثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية". ويؤكد كاتب التقرير تبعًا لذلك أنّ الجماعة مثل قاعة ضخمة يمكن لأيّ مسلم دخولها من أيّ باب ليجد ما يشاء، حيث يعمل الإخوان من أجل التجنيد طويل الأمد، والسعي نحو إنشاء دولة إسلامية، يخضع فيها المجتمع بأسره لأحكام الشريعة.
ويمضي التقرير ليكشف عن سيطرة الجماعة على أماكن العبادة الرسمية والجمعيات، مؤكدًا أنّه "تمّ رصد (139) مكان عبادة رسميًا، بالإضافة إلى (68) قريبة من ’المؤسسة‘، موزعة على (55) إدارة إقليمية…، ويُقدّر عدد المصلين المنتظمين في هذه المساجد بحوالي (91) ألف شخص". مضيفاً أنّ هناك "حوالي (280) جمعية تابعة أو قريبة من هذه الحركة، تعمل في مجالات لا حصر لها مثل: العبادة، والعمل الخيري، والتعليم، والشباب، وحتى الشؤون المالية".
ويسهب التقرير في كشف مدى تمدد الإخوان في الأحياء المسلمة، فقد "تكوّن على مدى عقود ما يُسمّى ’النظم الإيكولوجية المحلية‘، في الأحياء ذات الأغلبية المسلمة والمحرومة، حيث تدير الجماعة حياة المسلم من ولادته حتى مماته، وتهيمن على مجالات: التعليم، والصحة، وتنمية الذات، ومساعدات التوظيف، ومواقع التعارف".
ويرسم التقرير خريطة لأبرز المناطق التي تهيمن عليها الجماعة، حيث تسيطر على البنى الاجتماعية والاقتصادية في مناطق عدة مثل: المنطقة الشرقية، وعدة أحياء في باريس والمنطقة الشمالية وبوش دو رون، وأوفيرن-رون-آلب وغيرها. وتتجلى هيمنة الجماعة، وفقًا للتقرير، في انتشار التشدد وحجاب الأطفال، وتشديد الممارسات الدينية اليومية، وانتشار ارتداء العباءة وسط الفتيات الصغيرات.
آليات المواجهة والتفكيك
يقترح التقرير تقديم تقرير إلى البرلمان كل عامين، حول تهديدات الأمن القومي التي تمثلها الجماعة، وإعادة تعريف قانون ’التجنيد‘ ليشمل الأعمال غير العنيفة ذات الطابع الفرعي، وإطلاق خطاب عام جديد يضم المجتمع بأسره، خاصةً المسلمين؛ مع اتخاذ عدة إجراءات؛ من بينها:
تدشين برامج تعليمية تُدمج اللغة العربية ضمن مدارس الجمهورية.
اعتراف فرنسا بدولة فلسطين لتخفيف الإحباطات عند المسلمين.
وقد كُتب التقرير بناءً على معلومات استخباراتية رسمية، جُمعت عبر لقاءات مع أكثر من (40) أكاديميًّا ومسؤولًا إسلاميًا (ومن بينهم ممثلو "مُسلمي فرنسا")، وبالتعاون مع أجهزة المخابرات والإدارات المعنية بمراقبة "الإسلام السياسي". وهذا يؤكد جديّة المعلومات وعمق البحث الذي استغرق أكثر من عام من العمل الميداني.
يبيّن التقرير امتداد نفوذ الإخوان المسلمين، ليس فقط في المساجد، بل أيضًا في جمعيات تعليمية ورياضية وثقافية واجتماعية ومالية، ممّا يجعل الجماعة تملك مشروعًا كاملًا للتنمية المجتمعية وفق أجندة إخوانية.
وتعتمد الجماعة على استراتيجية التعددية الداخلية التي تسمح بجذب أوسع شريحة من المسلمين؛ عبر تقديم خدمات متعددة: دينية واجتماعية ورياضية.
أهمية التقرير
تشريعيًا: يسلط الضوء على الثغرات القانونية في تعريف "الانفصال" أو "التقسيم" (séparatisme)، ويقترح توسيع الصلاحيات لمكافحة الأشكال الفرعية وغير المباشرة من التطرف.
أمنيًا: تكشف الأرقام عن حجم منظومة الإخوان، التي تتطلب استجابة عاجلة من الأجهزة الأمنية، وتنسيق بين وزارات الداخلية، والخارجية، والثقافة، والتربية، ممّا يعزز جدوى كتابة تقارير دورية إلى البرلمان.
اجتماعيًا: يشير التقرير إلى ضرورة تبنّي "خطاب عام" يشمل المسلمين ويعالج إحباطاتهم، بما في ذلك فرص التعليم، والاعتراف بالقضايا العالقة مثل القضية الفلسطينية لدرء مخاطر الشعور بالتهميش الذي يُغذي التطرف.
طبيعة النسخة المخففة
النسخة المنشورة تعمّدت إخفاء التفاصيل، وحذف نصوص سرّية أساسية؛ الأمر الذي اعتبره البعض يقلل من وعي الرأي العام بحجم الخطر الحقيقي، ويُضعف إمكانية المحاسبة السياسية، خاصّة أنّه لم يُحدد بعد موعد نشر النسخة الكاملة من عدمه.
وعلى كل حال، فإنّ التقرير الذي نشرته (لوفيغارو) يُعدّ إنذارًا أمنيًا وسياسيًا من أعلى المستويات، ويدعو إلى تحديث الأطر القانونية ومراجعة السياسات العمومية في فرنسا لمواجهة استراتيجية "التسلل المتدرج" التي تنتهجها جماعة الإخوان المسلمين.
وتنبع خطورة التقرير من كشفه مدى انتشار الجماعة على الصعيد المجتمعي الواسع، وسيطرتها على شبكات متعددة الأوجه: دينية واجتماعية وثقافية، ممّا يفرض على السلطات الأمنية ومؤسسات الدولة التنسيق الفوري بين مختلف القطاعات الحكومية والمجتمع المدني، لعزل الكيانات الفرعية التي تغذيها هذه الشبكات الإخوانية قبل فوات الأوان.