علاقات مُثيرة للتوتُّر: التوافق الإيراني الروسي والرضوخ لمنطق الأمر الواقع

علاقات مُثيرة للتوتُّر: التوافق الإيراني الروسي والرضوخ لمنطق الأمر الواقع

علاقات مُثيرة للتوتُّر: التوافق الإيراني الروسي والرضوخ لمنطق الأمر الواقع


12/02/2025

أظهرَ الإعلام الإيراني اهتمامًا محدودًا بـ "اتفاقية التعاون الاستراتيجي" التي وقّعها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، في خلال زيارة بزشكيان الأولى إلى موسكو، في 17 يناير 2025. وإذا ما قورن هذا الاهتمام، بذلك الذي أولاه المشهد السياسي الإيراني لاتفاقية التعاون الاستراتيجي مع الصين، أو حتى بعد إقرار "اتفاقية التعاون الأمني" مع روسيا في البرلمان، فيبدو هذا الاهتمامُ المحدودُ لافتًا، خصوصًا أنّ الاتفاقية كانت تتويجًا لشراكة استراتيجية سعى إليها النظام الإيراني مع أهم حلفائه من بين القوى العظمى، وكان مقررًا لها أن تكون حدثًا تاريخيًّا. وكان الحديث عن الاتفاق الاستراتيجي مع روسيا قد شغلَ حَيِّزًا كبيرًا في المجال السياسي الإيراني على مدار العامين الماضيين قبل أن يتراجع هذا الاهتمام فجأةً.

في خلال هذين العامين، تغيّرت اتّجاهات المشهد السياسي في طهران؛ إذْ أنهت الوفاة المُفاجِئة للرئيس السابق إبراهيم رئيسي، عهْدَ حكومةٍ مُحافظةٍ، كانت تنوي إكمال مسار الاندماج مع الكتلة الشرقية، لتُفرِز العملية السياسية حكومة "اعتدال"، تسعى إلى رأب الصدع مع المجموعة الغربيّة. لكنّ هذا الانتقال السياسي، لم يكُن السبب الأوحد لتراجع الاهتمام الإيراني بالاتفاقية؛ فالتعاون مع روسيا، وإن كانت تمارسه الحكومات، لكنّ القرار فيه للدولة العميقة، ذات التوجُّهات الأكثر ثباتًا، واستمراريّةً، بل كانَ مرَدُّه إلى التغيير الذي طرأ على "نصّ الاتفاقية"، والذي شهد تراجُعًا واضحًا عن الأهداف الاستراتيجية التي كان ينشُدُها الجانب الإيراني، ويعتبرُها الإنجازَ التاريخيّ المُتوقَّع. وقد جاء نصّ الاتفاقية الموقّعة بين إيران وروسيا دونَ تلك الغايات والتوقُّعات؛ حيثُ اختزل التعاون بين البلدين في مجالاتٍ، لا يصِحُّ الحديثُ عن كونِها "استراتيجيّة".

من توافق استراتيجي إلى اتفاقية تعاون تقليدية

كانت إيران تطمحُ إلى تضمينِ نصّ الاتفاقية بُنودًا حول التعاون العسكريّ، ترتقي بها إلى حدود "التحالف". ومهّدت طهران لذلك على مدار عامين وأكثر، أظهرت في خلالها التزامًا بدعم الموقف العسكري الروسي في الحرب على أوكرانيا، من طريق تزويد روسيا بالعتاد، والتدريب، وسط أحاديث عن مشاركة قوىً موالية لإيران في محاور القتال. لكنّ البُعد العسكري والاستراتيجي غاب إلى حدٍّ بعيد، عن نص الاتفاقية المُعلَن الذي لم يتضمن أيّة إشارات إلى "تعاون عسكري واسع" أو "استراتيجي"، ولا أيّة بنودٍ حولَ مبدأ "الدّفاع المُشترَك"، أو "التحالُف العسكريّ" في وجه مصادر التهديد التي يواجهها طرفا الاتفاقيّة على غرار الاتفاقيات التي وقّعتها روسيا مع بيلاروسيا أو كوريا الشمالية. بل اكتفى نص الاتفاقية بالإشارة إلى "التدريب"، و"التنسيق العسكري"، و"إجراء المناورات"، والاتفاق على "محاربة الإرهاب بما يتناسب مع القوانين الدولية". ولعلّ الالتزام الوحيد ذو القيمة العالية الذي يقرّه نص الاتفاقية، هو التزامُ الطرفين بالامتناع عن تقديم أيّ دعمٍ عسكري إلى خُصوم الطرف الآخر في أيّة مواجهة عسكرية يخوضُها.

كان الإيرانيُّون، ومن ورائهم مُراقبونَ كُثْرٌ في المشهد الدولي، يتوقّعُونَ أنْ يُكلَّلَ مسارُ التعاون العسكري بين إيران وروسيا في خلال الأعوام الثلاثة الماضية، بتوافقٍ على تزويد روسيا لإيران بأسلحةٍ مُتقدّمة على صعيد: الدفاع الجوي، وأنظمة الصواريخ، والطائرات الحربية. لكنّ نصّ الاتفاق خلا من كلّ ذلك. ولعلَّ عدم حضور وزير الدفاع الإيراني مراسم توقيع الاتفاقية، واكتفاء الرئيس مسعود بزشكيان بالإشارة إلى أنّ بلاده قد تُفكّر في توسيع علاقاتها العسكرية مع روسيا في وقتٍ لاحقٍ، يعكِسَان مدى التراجُع الذي حصل في خطط التعاون العسكري بين الجانبين، أو ربّما يعكِسان خيبةَ الأملِ الإيرانيّة على هذا الصعيد.

إن علامات التراجُع في الاتفاقية المُعلنة عمّا كان متوقّعًا قبل إعلانها، لم تكن حِكرًا على المجال العسكريّ، بل شملت التعاون الاقتصادي؛ فلم يتجاوز نصّ الاتفاقية الموقعة عبارات المجاملة المعهودة في نصوص غالبيّة اتفاقيات التعاون الدولية، مثل: العمل المشترك على تعزيز التعاون الاقتصادي، وسن القوانين الجمركيّة لتسهيل حركة البضائع بين الجانبين في الحدود التي يسمح بها القانون الدولي بشأن الشّفافيّة الماليّة، ومُكافحة الإرهاب، وما إلى ذلك من عباراتِ مُجاملةٍ تقليديّةٍ. وشهدت الزيارة الرئاسيّة السّابقة التي قام بها الرئيس الراحل إبراهيم رئيسي إلى موسكو إعلانًا روسيًّا عن عدم الرضى من مستوى التّبادل التّجاري بين البلدين، وتأكيدًا ثنائيًّا على ضرورة بُلوغِها 10 مليارات دولار. بينما قال الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في خلال الزيارة الأخيرة: "إنّ وتيرة ارتفاع التبادل التجاري بين البلدين جيّدة، حيث سجلت ارتفاعًا سنويًّا بنحو 15% مقارنة بعام 2023"، وهذه إشارةٍ ربّما إلى أنّ روسيا لا تُريد، أو لا تتوقّعُ أكثر من ذلك. ومع أن نصّ الاتفاقية تضمّن إشارةً إلى ضرورة تطوير الممرّ الشمالي - الجنوبي في محطّته الإيرانية فإنّ هذه الإشارة هي الأخرى، لم تُسايِر الاهتمام الذي طالما أبدته طهران، بالموضوع على مرّ الأعوام الماضية.

وروّج صُنّاع القرار في طهران خلال العامين الماضيين لهذه الاتفاقية باعتبارها مدخل إيران إلى تحالف استراتيجي مع قوة عالمية عظمى. لكنّها تراجعت لحظة الإعلان عنها إلى "اتفاقية تعاون"، أقلّ ما يمكن أن يُقال عنها: إنها "عادية". واللافت أنّ الرئيس الإيراني حرص على إبراز هذا الواقع في خلال الزيارة؛ إذ أوضح بأن إيران لا تسعى من وراء هذا الاتفاق إلى المساس بمصالح أيّ طرفٍ آخر، وأنّها مستعدةٌ لتوقيع مثل هذه الاتفاقيّة مع مختلف الأطراف؛ الأوروبيّة، والإقليميّة. ولكنْ ما هي الأسباب التي أدّت إلى اختزال ذلك الطُّموح الكبير، بهذا الواقع المتواضِع؟

في أسباب التَّراجُع

كان المجتمع الدولي مُمتعِضًا من تنامي وتيرة التعاون بين إيران وروسيا. وكانت هناك مخاوف إقليمية ودولية من احتمال تحوُّل التقارب الإيراني - الروسي إلى عمليّة انصهار استراتيجي. وأدى هذا الامتعاضُ بالتأكيد، دورًا فاعلًا في إعادة صياغة الاتفاقيّة، وتمييع مضمونِها. وفي مقدمة المُمتعضِين، يأتي الاتحاد الأوروبي الذي تربطه علاقات تقليديّة بإيران، ساعدَتْه على ممارسة دور الوسيط بين إيران وأمريكا في أكثر من محطّة، لكنّ انخراط إيران في دعم روسيا في حربِها على أوكرانيا، شكّل نقطة تحوُّل في تعامل الأوروبيين مع إيران، واضعًا النظام الإيراني على قائمة الأخطار الوجودية التي تهدّد كيان الاتحاد الأوروبي.

أمّا الولايات المتحدة فهي الخصمُ الاستراتيجي لكلّ من روسيا وإيران، ومن الطبيعيّ أنْ تنظرَ إلى احتمال التحالف بينهما بكثيرٍ من التحفُّظ؛ فهي تتعاملُ معه من منطلق رؤيتها للتحدّي الناجم عن تحالُف أعداءِ الولايات المتحدة، والسّعي إلى تفكيكِ العلاقات بين أعضاء هذا التحالُف.

إقليميًّا، قد يُثير تقدُّم العلاقات بين موسكو وطهران قلقَ بعض الدول العربية والخليجية التي تربطها علاقات تجاريّة متنامية مع روسيا، وذلك في ضوء الرؤية الجيو-عسكرية التي تُهيمن على السلوك الإيراني في منطقة الخليج، وأيضًا في ضوء تطلعات طهران إلى تعزيز موقعها الجيو-عسكري الإقليمي عبر تطوير تحالفها الاستراتيجي مع القوى الشرقيّة. وحتى في دائرة حُلفاء الجانبين، لمْ تَنْجُ العلاقات الإيرانية الروسية من التحسُّس؛ إذ تبدو الصين التي تربطها علاقات واسعة بالجانبين، مُتضرّرةً من هذا التقارب المُحتمَل، فهي تعتبره مدخلًا روسيًّا لمزاحمة نفوذها في إيران، وترى في الممرّ الشمالي - الجنوبي، تحدّيًا لخطّتها الاستراتيجية (الحزام والطريق)، وداعِمًا لمنافسها الإقليمي الهندي.

وبطبيعة الحال، نجَمَ جزءٌ من التراجُع في مستوى التعاون المتوقّع، عن تغييرِ الأهواء الدبلوماسيّة لدى كُلٍّ من الجانبين. وكانت الأعوام الثلاثة من حكومة المحافظين برئاسة إبراهيم رئيسي قد شهِدت قفزةً في مستوى العلاقات الإيرانيّة مع القوى الشرقيّة، تمثّلت في انضمام إيران إلى الأحلاف البديلة (الاتحاد الأورو-آسيوي، ومنظمة شنغهاي، ومنظمة بريكس) بدعم من روسيا. وفي خلال نفس الفترة، تزايد حجم التبادل التجاري والعسكري بين روسيا وإيران بوتيرةٍ غير مسبوقة، وتطلّع الجانبان إلى مُضاعفته عدّة مراتٍ في الأعوام المقبلة. لكنّ حكومة الإصلاحيّين التي جاءت بعد الموت المُفاجئ لإبراهيم رئيسي، غيّرت اتّجاه الدفّة تمامًا. إذ لم تُظهِر رغبةً في مُواصلة مسار الانصهار مع القوى الشرقيّة، وتلكّأت في توقيع الاتفاق الاستراتيجي مع روسيا بشكلٍ مُتعمّد، على رغم إصرارِ الجانب الروسي. وتُبيّن المُعطيات أنّ حكومة بزشكيان تنصّلت عن توقيع الاتفاق، إلى أن عُدِّلَت بنود مهمّة فيه. ويعودُ ذلك جزئيًّا إلى مُيول الإصلاحيّين التقليديّة نحو الغرب، فيما يُشكِّل مجِيءُ الرئيس ترمب إلى السُّلطة سببًا آخر في تراجُع الرّغبة الإيرانيّة بتطوير التّحالف مع روسيا؛ إذْ تزايدَت المخاوف الإيرانيّة من صفقةٍ مُحتملةٍ بين روسيا وترمب حول أوكرانيا. كما تزايدت الحاجة الإيرانيّة إلى إرسالِ رسائلَ طمأنةٍ للمجتمع الغربيّ الذي تعتزمُ رأبَ الصّدعِ معَهُ بأنّها لا تنوي الانخراط في تعاونٍ عسكريٍّ استراتيجيٍّ غير مألوفٍ مع روسيا. وهو ما حرص الرئيس بزشكيان على تأكيدِه غداةَ توقيع الاتفاقيّة من طريق القولِ بأنّ التوافق الإيراني - الروسي ليسَ ضدّ أيّ طرفٍ دونَ آخر، وأنّ إيران جاهزة لتوقيع اتفاقاتٍ مشابهةٍ مع كلّ الأطراف، بما فيها الاتحاد الأوروبي. 

ولا شكّ أنّ الرغبة في التهدئة مع الولايات المتحدة كانت حاضرةً كذلك في الغُرفة الدبلوماسيّة الروسيّة، وربما دفعتها نحو التخلّي عن موضوع التّوافق الاستراتيجي بصيغتِه السّابقة التي كان من شأنها أنْ تُثير امتعاضَ الإدارة الأمريكيّة الجديدَة. وتطمحُ موسكو أنْ تؤدّي عودةُ ترمب إلى الضّغط على أوكرانيا وأوروبا لفضّ الملف الأوكراني. ولنْ ترغبَ روسيا في هذه المرحلة بإثارةِ حفيظة ترمب وإدارته من طريق التّحالف مع إيران التي تُشكّل بؤرةَ التوتُّر مع واشنطن. 

ويعكسُ التراجُع في مضمون الاتفاق بين إيران وروسيا أيضًا طبيعةَ العلاقات الإيرانيّة الروسيّة، بوصفها "بؤرة توتُّر"؛ فهي علاقاتٌ لا تحظى بالإجماع في المجال الإيراني (بل هي موضع انقسامٍ حادٍّ في المجتمع)، ولا ترتقي إلى المستوى الاستراتيجي في المجال الروسي، وهي فوق كلّ ذلك، علاقاتٌ مثيرةٌ للتوتُّر على المستويات الإقليمية والدولية.

مع ذلك، لا ينبغي اختزال ما جرى في مقولة: "التراجُع عن الشّراكة الاستراتيجيّة بين إيران وروسيا"؛ إذْ ثمةَ خطواتٍ ميدانيّة يتّخذُها الطّرفان لتعزيزِ تعاوُنهما، تقَعُ خارج سياقِ العلاقات الرسميّة العاديّة، من بينها: تشغيلُ شبكة البُنوك الروسيّة في إيران، وتوقيعُ الاتفاقيّة الأمنيّة الثنائيّة، والتأكيدُ المتواصلُ على تفعيل الممرّ الشمالي – الجنوبي. وتبدو هذه الخطوات العمليّة أكثرَ أهميّةً ممّا جاء في نصّ الاتفاقية الرّسميّة الموقّعَة؛ ما يعني أنّ البلدين ربّما ينويان مُمارسة الاندماج خارجَ الاتفاقيّات الرّسميّة المعروضة على المُراقبين الدوليّين لتجنُّب إثارة حفيظة المُجتمع الدولي. ولعلّ روسيا ترغبُ في شقِّ طريقِها للتّعاون مع النظام الإيرانيّ عبر مؤسّساتِ الدّولة العميقة، وخارجَ هيكل الحكومة الإيرانيّة الحاليّة التي لا تُبدي رغبةً في الانفتاح على روسيا. 

الخلاصة والاستنتاجات

تُظهِرُ القراءةُ المتأنّية لنصّ الاتفاقيّة الموقّعة بين إيران وروسيا بجلاءٍ، تحوُّلًا في مَغْزاها، من اتفاقية تعاونٍ استراتيجي، يفتحُ البابَ أمام انْصهارٍ شاملٍ بين البلدين، إلى اتفاقيّة تعاوُن تقليدي، اختفت منها العديد من البنود التي تضمّنتها اتفاقيات مُشابهة، أبْرَمتها روسيا مع شُركائها الإقليّميين في أوقات سابقة.

وتكشِفُ بنودُ الاتفاقيّة، اتفاقَ الجانبين على خُلوّها من أيّة إشاراتٍ إلى "تحالُف عسكريّ" أو "دفاعٍ مُشترَك"، رُضوخًا للضُّغوط الناجمة عن امتعاض مُختلَف الأطراف، وقناعات صانع القرار في كُلٍّ من روسيا وإيران بأنّ التّأكيد على إرادة التحالف الاستراتيجي في الوقت الرّاهن ليسَ خيارًا صائبًا؛ إذْ تستشعرُ روسيا وإيران ضرورةَ إرسالِ إشاراتِ طمأنةٍ للولايات المتّحدة والغَرب، ولا تخدِمهُما إثارةُ السُّخْط الدوليّ من رفعِ مُستوى تعاوُنِهما الثُّنائيّ. خاصّةً وأنّ القلقُ من ارتفاع التّعاوُن الثنائيّ بين إيران وروسيا، يكادُ يكون توجُّهًا عامًا في المشهد الدوليّ؛ فهو لا يقتصرُ على جهةٍ دونَ أخرى.

وفي ضوء استفحال الأسباب الداعية إلى خَفْضِ مستويات التعاون، قد يكون تمييعُ نصِّ الاتفاقيّة "توافقًا تكتيكيًّا" بين إيران وروسيا، بُغية طمأنةِ الأطراف الإقليمية والدولية، لكنّه في كلّ الأحوال، يَعْكِس استعدادَ الطّرفَيْن للتّخلّي عن توافُقٍ استراتيجيّ بينهما لصالحِ رغبةِ التقارب مع الأطراف الغربية.

مركز الإمارات للسياسات




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية