عصر الأخبار السيئة

عصر الأخبار السيئة


09/04/2020

لفت نظري أحد الأصدقاء إلى أن الصحف عامة، ووسائل الإعلام الرقمية بشكل خاص، دأبت منذ فترة قصيرة على تجاهل نشر أخبار عن تطورات الحرب وأحوال الناس في اليمن. ما ينشر عن سوء الأحوال في اليمن قليل جداً. لاحظ أيضاً هذا الصديق انخفاض مواظبة أجهزة البث الإعلامي في مختلف أنحاء العالم، في بث أخبار من شمال غربي سوريا.
نسمع من أصدقاء وأقارب هناك وفي موسكو، ودمشق وأنقرة، أن الأتراك يفعلون هناك ما يحلو لهم ولا أحد ينقل ما يفعلون.

ما يحدث هذه الأيام يستحق أن يوصف بمذبحة الصحافة الأمريكية، لعلها المذبحة الثانية ولكن المعلنة

خلاصة هذه المقدمة وهدفها في كلمتين أو ثلاث. الاهتمام العالمي بأخبار «كورونا» فرض حجراً على نشر الأخبار السيئة، ليس فقط الأخبار التي تخصنا نحن العرب أو أهل الشرق الأوسط، وإنما كل العالم. يعني مثلاً، لم نعد نقرأ أو نسمع عن تغطية أخبار قضية ذوبان الجليد في القطب الجنوبي وفي شبه جزيرة جرينلاند، وآثاره على مكانة قضايا المناخ في العلاقات الدولية. كان أيضاً نموذجاً لفيض الأخبار السيئة قبل أن تحل علينا أزمة «كورونا» فيتوقف الفيض.
أحب أن أؤكد قبل أن استطرد في الكتابة، أنه ليس في الأمر في رأيي مؤامرة أو تخطيط مسبق. كل ما في الأمر، هو أن الفيروس احتل الصدارة في الاهتمام الدولي، وبذلك أعطى الفرصة لكل القوى التي تريد الاستفادة من هذا الوضع، أقصد وضعاً إعلامياً وربما سياسياً، لجعل الانتباه يبتعد عن مجال الاهتمامات الجيوبوليتيكية.
نعرف منذ سنوات غير قليلة، أن زمن الاعتماد على العمالة التقليدية، على وشك أن ينقضي لصالح زمن يعتمد على عمالة الذكاء الاصطناعي وما شابه. الكل يعلم أن أصحاب المال والأعمال يستعدون بدرجات متفاوتة ليوم يعلن فيه من واتته الشجاعة أو وجد الفرصة، وخاف أن تضيع، نيته الاستغناء عن نسبة أو أخرى من مجمل العمالة التي يوظفها ويدفع أجورها بانتظام. فجأة، وأكرر فجأة، وبينما كنا لاهين بأنباء مثيرة عن فيروس يحصد أرواح من يتجاسرون على الخروج من بيوتهم، راح أصحاب مؤسسات صحفية أمريكية عدة يُلوِّحون بعزمهم فصل صحفيين وعاملين في صحفهم وقنواتهم التلفزيونية ومواقعهم الإعلامية، أو قاموا بفصلهم فعلاً. لمحوا الفرصة ولم يدعوها تُفلت. الفرصة سمح بها الفيروس ورأي عام مهيأ إعلامياً وسياسياً للانتباه له وحده ولنواياه الفتاكة. الفرصة أيضاً متاحة منذ أن بدأت الحكومات تنشر أعداداً ونسب عمالة انضمت إلى البطالة في سكون وهدوء. لم يكن سراً أنه في نية من صححوا المسيرة الرأسمالية بعد أزمة 2007، التخلص في أول فرصة من عمالة غير لازمة.
ما يحدث هذه الأيام يستحق أن يوصف بمذبحة الصحافة الأمريكية، لعلها المذبحة الثانية ولكن المعلنة. جرت المذبحة الأولى وكانت معنوية الطابع، خلال سنوات حكم الرئيس دونالد ترامب. استطاع الرجل بإصرار وعناد نموذجيين أن يقطع حبل الثقة بين الرأي العام والصحف.. تجاوز الأعراف وتخطى تقاليد المنصب من أجل أن ينفذ رؤاه. أقول نجح؛ نجح لأنه وجد ترحيباً مكتوماً لدى مالكي الصحف الذين رأوا في حملة الرئيس تمهيداً لفرصة يتاح فيها لهم تحقيق حلم التخلص من عدد وفير من العاملين في صحفهم.
اليوم تنشر أغلبية الصحف الأمريكية أسماء من يفصلون منها يومياً سراً أو بطرق ملتوية. يتردد بين صحفيين أمريكيين أن مالكي الصحف كانوا بالفعل في انتظار الفرصة التي سمح بها الاهتمام الحقيقي المبالغ فيه أحياناً بأخبار الفيروس وانتصاراته. هم يطردون الصحفيين ويغلقون مواقع إعلامية غير عابئين بحقوق نقابية أو سمعة دولية. تنبهت شخصياً إلى هول المذبحة وضخامتها عندما علمت أن مركزاً لبحوث الإعلام في جامعة كولومبيا في مدينة نيويورك، كلف باحثين بحصر عدد الصحفيين الذين أبعدوا عن وظائفهم أو أوقف نشر تحقيقاتهم وتقاريرهم بأوامر جزافية من أصحاب العمل منذ بدأ الفيروس هجمته. الهدف كما فهمت، هو الاستعداد لفرصة، يتوقعونها في نيويورك، يتوقف عندها هذا التدهور الذي تسبب به الفيروس مدعوماً بحكومة فاقدة سمعة الإدارة الناجحة.

أزمتنا الراهنة ستنحسر مخلفة عديد الفرص والبدائل، كلها في ظني ضمن السياق وليست خارجه

لست متشائماً ولا متفائلاً إذا قلت إن هذه الفرصة التي يحلم بها المدافعون عن حقوق هؤلاء المفصولين من أعمالهم لن تأتي، . واهم في نظري من يتصور أن كثيراً من الأشياء ستعود إلى سابق عهدها وشكلها وسلوكها في اللحظة التي يقرر فيها الفيروس انسحابه من ساحات الحرب، التي هي العالم بأسره. ينسى هؤلاء أن الضرر الذي خلفه هذا الفيروس لم يكن مجرد خدش. اختار ضحاياه من كل الطبقات والفئات والأجناس والأديان. بمعنى آخر، سجل بحروف من دم، سخريته من صراعات البشر السياسية والطبقية. لن يستطيع فقير أو مظلوم أو مقهور أن يدعي أن الفيروس انتقم له من ظلم وقع عليه، فالمستشفيات تعج بذوي النفوذ والمال والثروات المكتنزة والسلطة القاهرة، مثلما تعج بالفقراء والمقهورين. ولن يستطيع حاكم في الدول الكبرى، أن يزعم أنه كان في هذه الحرب أهلاً لها، جاهزاً وقادراً. على العكس أكثرهم لم يجدوا ما يقولون، ومن تكلم منهم توقف عن الكلام بعد تصريحين أو ثلاثة، أو بدا مستحقاً للشفقة من جانب خصومه، إن استمر أكثر من ذلك. أظن ولست مخطئاً، أن دولاً كثيرة ستخرج من هذه الحرب فاقدة معظم أرصدة قواها الناعمة، وربما أيضاً الصلبة كما ألمحت بصرخة مدوية فضيحة سفينة البحرية الأمريكية التي أصيب بعض طاقمها بعضات من الفيروس شلت حركتها، وأبطلت مفعول مدافعها وصواريخها.
لن يتوقف طويلاً سيل المعلومات السيئة. أتصور أن يوماً سيأتي لن نميز فيه بين المعلومة السيئة والمعلومة الطيبة. نعيش، وسنعيش لبعض الوقت، في سياق أزمة الفيروس. أتعمد استخدام كلمة سياق في وصف ما نعيش. أزمتنا الراهنة ستنحسر مخلفة عديد الفرص والبدائل، كلها في ظني ضمن السياق وليست خارجه. ستظل تصرفاتنا لفترة لا أحد يقدر مداها رهن الشروط والقواعد التي فرضتها أزمة الفيروس.. رهن السياق.

المصدر: الخليج الإماراتية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية