خاتمية الرسالة والتاريخ المفتوح عند محمد إقبال

خاتمية الرسالة والتاريخ المفتوح عند محمد إقبال


21/01/2019

يفهم الإسلام دائماً على أنّه "نوستالجيا" حادة إلى أزمنة غابرة، بوصفه حنيناً لا ينقطع لـ "زمن أصيل" وبريء لا تشوبه شائبة، ربما كان هذا التأويل السائد للإسلام؛ نظراً إلى ما ترسّب حوله من هويات سلفية جامحة، بدءاً بالسلفية العلمية، وليس انتهاء بالسلفية الجهادية، التي تفهم دائماً أنّها المناشدة والتعبير الأقصى عن نوستالجيا الإسلام، أغلب الكتابات المحدثة عن الإسلام، سواء من أبنائه السلفيين أو من دارسيه المستشرقين، تتناول الإسلام وفق تشكله في عصور المسلمين الأولى، وكلّهم يسعون إلى ردّه لهذا الإمكان التاريخي، بوصفه هو التعبير الأصفى عنه، ومن ثم فإنّ معيارية، ليس فقط سلوك المسلمين ومناشدتهم للإصلاح الاجتماعي والسياسي، تحدّد وفقاً لقربهم من نموذج السلف الأول، وإنما أيضاً الإسلام التاريخي، وهو يشتمل على ممارسة المسلمين في التاريخ، وانخراطهم التأويلي في القرآن الكريم والسنّة النبوية، يحدّد ويأخذ صوابيته أو خطأه من "الإسلام المعياري" الذي يقال دائماً إنّه تكوّن في القرون الثلاثة الأولى.

حاول إقبال توضيح فكرته بالاعتماد على رؤاه الثاقبة والهائلة حول التاريخ والزمن والتجربة

ثمة إبستيم ثاو في مخيال دراسي الإسلام، إلى فرضية تكاد تكون متعالية لا يمكن التفكير فيها: انشطار الإسلام؛ الإسلام منشطر بين مكوّن "تاريخي" وبين مكون "معياري"، ولا بدّ للإسلام التاريخي من أن يقترب من أخيه المعياري حتى يكتسب صدقه، وصلاحيته، وفلاحه، إلى أيّ حدّ هذه الفرضية المتأصلة في الكتابات الإسلامية، سواء من الداخل الإسلامي أو خارجه صحيحة؟ هل تستند إلى تشكل الإسلام في ذاته، أم إلى ما نعيشه اليوم من تأويلات محيطة بالإسلام تتعامل معه كهروب حادّ من التاريخ، وكملاذ من تحمّل الأمانة؟

إنّ "وعينا الإسلامي" الحديث، وهي كلمة لا تخلو من جعجعة ما، هو وعي مهزوم، أو، على أقل تقدير، يستطبن الهزيمة ويلعق مرّها، في لا وعيه، ولأنّنا وقعت علينا الحداثة كقدر تاريخي، لكن في شكلها الاستعماري، فاتخذنا الإسلام كمعبر أصيل عن حنينا إلى زمن الآباء، السلف؛ حيث الإمبراطورية الكبيرة، في محاولة بائسة للإفلات من المواجهة التاريخية مع أمانة الإسلام كدين خاتم، والتي تستلزم؛ أي أمانة الإسلام، الدخول في الزمن، والتعاطي معه كأفق إنساني ممكن دون نوستالجيا هاربة إلى شكل تاريخي من البطولة له تشكلاته الخاصة.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال وحلم المعتزلة المتأخر أحد عشر قرناً

إنّ الإسلام، كما يعلمنا محمد إقبال، هو رؤية للزمن، حاول إقبال توضيح ذلك بالاعتماد على رؤاه الثاقبة والهائلة حول "التاريخ" و"الزمن" و"التجربة"، وتكمن إضافة إقبال الحقيقية في أنّه أفلت من مأزومية الوعي الإسلامي والاستشراقي عن الإسلام، بوصفه منشطراً بين إسلام تاريخي وآخر معياري، إنّ إقبال يفهم الإسلام كانخراط في التاريخ لتحمل الأمانة، وليس كنوستالجيا لماضينا، أو لزمن بريء، كيف يمكن الحديث عن زمن تاريخي "معياري" في ظلّ دين، هو الإسلام، لم يبشر أتباعه بخلاص تاريخي أو بأرض ميعاد، أو بفردوس أرضي، وإنما هو دائم الإحالة إلى "الزمن الآخر"، إلى الآخرة؟ أليس بهذا "الوعي السلفي" هو عبادة للتاريخ، وقتل له بحصره في تجربة تاريخية معينة دون أية قدرة على الاشتباك معه، بوصف المسلم هو التوحيدي الأخير؟

الفكر الحيّ فكر إسلامي لا يقتصر على العلم من حيث التجديد؛ بل يمتدّ إلى الروح مجدداً لها

لا يعني ذلك أنّ الإسلام لا يولي اهتماماً بالأرضي والدنيوي والفاني؛ لأنه دائماً ما يفهم ذلك، ومن ثم تطلق أحكام على الإسلام بوصفه "عبادة عدمية للموت"، كما نشاهد دائماً الكتابات اليمينية بعد ظهور الحركات الراديكالية كتنظيم داعش، أو بوصفه "إرهاباً" لا يولي للجسد الدنيوي أي معنى، وعلى ما في هذا الفهم للإسلام من وحشية واستلاب له؛ إلا أنني قصدت أنّ الإسلام هو انفتاح على التاريخ، وعلى التجربة، وعلى التشكل الدائم؛ فالإسلام ليس نزعة إحيائية دائمة، كما نرى في كتابات الإسلاميين المعاصرين، إنما هو تجربة حية للإنسان في التاريخ.

الفكر الحيّ؛ هو فكر لا يقتصر على الإحياء والوقوف عنده؛ بل يستوعبه، فهو ليس حجاباً لوجوده ولتجربته الدينية الأصيلة التي يبتغي إنشاؤها في ظل الإسلام، إنما مجرد نافذة بجواره تساعده في الرؤية.

الفكر الحيّ؛ فكر إسلامي لا يقتصر على العلم من حيث التجديد؛ بل يمتدّ إلى الروح مجدداً لها، فكما هناك تقليد علمي، فهناك، كذلك، تقليد روحي، الفكر الإحيائي هو فكر يحتكر التاريخ من خلال الفعل، والفكر الحي يدعي أنّ الذات هي المرتكز للدخول في الفعل، الفكر الإحيائي يلغي التجربة الدينية كمفهوم وكتاريخ لينتصر للفعل التاريخي، والفكر الحي ينشئ مفهوم التجربة الدينية الحية كتراكم تاريخي لتاريخ لا ينغلق أمام الذات الراشدة، وقد حاول الفيلسوف، بشير ديان، في كتابه عن إقبال، أن يفلسف فكرة الذات عند إقبال بشكل لا مثيل له.

اقرأ أيضاً: محمد إقبال: تجديد الفكر الديني وتأويل الكون روحياً

وبما أنّ الإسلام هو الدين الخاتم؛ فإنّ معنى الخاتمية يحتاج إلى تدبّر ما؛ لا تعني الخاتمية مجرد انتهاء "عصر الرسالات" أو "عصر الأديان"، وإنما تعني على وجه أكثر طرافة: انفتاح التاريخ للذات المسلمة. ويقدم محمد إقبال في كتابه "تجديد الفكر الديني في الإسلام" إضاءة شديدة الطرافة لمفهوم "الخاتمية" الذي قصده الإسلام، وذلك بموضعة نبي الإسلام، عليه الصلاة والسلام، ورسالته في الإطار الصحيح، فيقول إقبال: "يقوم بين العالم القديم والعالم الحديث، فهو من العالم القديم باعتبار مصدر رسالته، وهو من العالم الحديث باعتبار الروح التي انطوت عليها، فللحياة في نظره مصادر أخرى للمعرفة تلائم اتجاهها الجديد، ومولد الإسلام هو مولد العقل الاستدلالي"، ومن ثم؛ فإن إقبال بهذا يشتبك مع فكرة النبوة الإسلامية وإدراكها العميق أنها هي الخاتمة، فيقول: "النبوة في الإسلام، لتبلغ كمالها الأخير في إدراك الحاجة إلى إلغاء النبوة نفسها، وهو أمر ينطوي على إدراكها العميق لاستحالة بقاء الوجود معتمداً إلى الأبد على مقود يقاد منه، وإن الإنسان، كي يحصّل كمال معرفته لنفسه، ينبغي أن يترك ليعتمد في النهاية على وسائله هو".

وبحسب هذا الفهم لإقبال؛ فإنّ "خاتمية الرسالة" انفتاح للتاريخ، ومساندة للتوحيدي الأخير لاحتمال تجربته التي يكونها في أفق الوحي الخاتمي، ومن ثمّ؛ فكلّ أشكال النوستالجيا الحائمة حول الإسلام لزمن ولّى، هي تخلٍّ عن أمانة الإسلام، باعتباره آخر صيغة لنا من التوحيدية العظيمة.

في الحقيقة؛ يمثل إقبال رافداً أساسياً لفكر إسلامي حركي (ليس بالمعنى السياسي الضيق، إنما بالمعنى الأوسع للجدلية مع الوجود)، خاصة أنّ إقبال شكل فهمه للإسلام ضمن بردايغم الحركة، وكما هو معلوم فإنّ الفكر الكلاسيكي الذين يشاع إسلامياً، يصور الإسلام كسكون، وكتاريخ متجمّد، وذلك لأنّ إقبال بالأساس يؤمن بالإنسان وفاعليته في الوجود، وليس الإنسان مجرد سارق لنار أسلافه، إنما هو مبدع للنار أيضاً، وكلّ محاولة تقليدية لجعله سارقاً، هي تجميد لحركته، وانغلاق صوري على متوهم علمي، ما لم يكن للإنسان فيه يد.

كل أشكال النوستالجيا الحائمة حول الإسلام لزمن ولّى، هي تخلٍّ عن أمانة الإسلام، باعتباره آخر صيغة لنا من التوحيدية العظيمة

إنّ إقبال متصالح مع الوجود، ومع التاريخ، إقبال لا يرى التاريخ فناء؛ بل بقاء؛ لذا فالمرور منه للزمن الآخر هو استكمال للحضور والفعل والحركة، الوجود أوسع من الإنسان، وهو حركي لدى إقبال؛ حركي بمعنى أنه متجدد يخلق الله فيه ما يشاء دائماً، ففعل الخلق لا ينتهي وفق القرآن الكريم، من منظور إقبال، كيف للفكر إذاً أن يتوقف، للتاريخ أن يصير تكراراً، ونحن نعلم من ابن عربي أن لا شيء يتكرر، وللذات أن تسرق نار غيرها؟
فإننا غلطنا كذلك في فهم الإسلام، كمثال فلسفي تطابق يوماً في التاريخ، فنستحثّ كلّ مقوماتنا التاريخية لإرجاع هذا التاريخ المطابق، ولم نعلم أنّ المثل التي حدّدها الإسلام لم تتعين من خلال مثال ما تاريخي كامل؛ لأنه لو تعينت كاملة لانتهت، وما عادت مُثلاً، ولم نفرق بين المُثل، خلقية كانت أم روحية، والأمثال.

اقرأ أيضاً: الخلافة على منهاج النبوة: الوهم والتاريخ

فإذا كانت هذه المُثل قد تعينت، بشكل غير كامل، تاريخياً؛ فهي تعينت من خلال أمثال تحاكي المُثل، لا أن الأمثال صارت هي المثل؛ حيث صارت الدعوة للعودة للأمثال لا إلى المثل، وهذه العودة هي عودة للأمثال، فكلّ انطلاق نحو تجديد حقيقي يكون منطلقه الذات كرهان لإبداع أمثال جديدة لمثل خاتمة.



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية