"المهمشون": المعارضة المنسية في التاريخ الإسلامي

"المهمشون": المعارضة المنسية في التاريخ الإسلامي


12/09/2018

جدلٌ كبير ذلك الذي ينتج عن قراءة التاريخ، حين يصرّ القائمون عليه أن يكون تقليدياً، خاصة فيما ما عُرف بالحوليات التي لم تحفل بالتأريخ للعوام، وانشغلت بتواريخ الحكام؛ سياسياً وعسكرياً، كما يرى الباحث والمؤرخ المصري محمود إسماعيل، الذي يعيد قراءة هذه الحوليات باعتبار أنّها تاريخ اجتماعي وسكاني وثقافي كذلك، يضم كل الطبقات والحركات الاجتماعية، وخصوصاً؛ المهمشين.

 

غلاف الكتاب

خارج التاريخ

ليست دراسة التاريخ الإسلامي، برأي إسماعيل، مقتصرة على إطلاق حكم قيمة بشأنه، وبشأن شخوصه، ولا جعلهم أصناماً مقدسة مثالية أو أخرى يتم رجمها، لكنه تاريخ تنقصه دراسة "الحركات الثورية والانتفاضات الشعبية التي قام بها حرفيون وفلاحون وعبيد ضد نظم إقطاعية وربما عسكرية لا تقبل إلا الولاء المطلق".

دراسة التاريخ الإسلامي برأي إسماعيل لا تقتصر على إطلاق حكم قيمة بشأنه وبشأن شخوصه ولا جعلهم أصناماً مقدسة

وهو ما يمكن اعتباره الإضافة، التي سجلها إسماعيل في كتابه "المهمشون في التاريخ الإسلامي" كمؤرخ يعتمد على منهج ماركسي (المادية التاريخية)، ويرفض بجرأةٍ الاتهامات من (مؤرخي السلطة) لهذه الحركات والانتفاضات، على أنها ناتجة عن أشخاص منحرفين أخلاقياً، أو زنادقة، أو خونة.

وفي كتابه الصادر عن دار "رؤية" العام 2004، يرى المؤرخ أنّ غياب النقد الموضوعي لهذه الحركات، والنظر إلى "إسهاماتها الصغيرة في إجبار النظم الإسلامية على إصلاحات نسبية في بعض الأحيان" مهّد إلى إلغاء الحركة الواقعية للتاريخ، والتي كان من شأنها ربما أن تمهد لدراسات تراثية وماضوية حديثة، تقرأ التاريخ بصورة أكثر جدية وفائدة بدلاً من جعله تاريخاً متصلباً أو مقدّساً لا يجني القارئ  له أو الباحث فيه أي خبرةٍ تعينه على التعلم من التجارب والتقدم.

فصولٌ عديدة، يتناولها إسماعيل في فصول الكتاب، عن بشرٍ تم إخراجهم من التاريخ وتعليقهم بحبل الشيطان، مثل ثورة الزنج "الأولى" في العراق خلال حكم عبد الملك بن مروان، التي أهملها المؤرخون وشيطنوها بفعل "انتشار القومية الأموية العربية كمبدأ للسيادة في العصر الأموي" كما أنّ سلطة الخلافة "لم ترغب بالاعتراف بوجود مشكلات اقتصادية واجتماعية في ذلك الحين".

اقرأ أيضاً: التاريخ الإسلامي: قراءة واعية أم انتقائية منحازة؟

ويعرّج كذلك إلى ثورة "الخشبية في العراق"، التي حصلت في عهد عبد الملك بن مروان أيضاً؛ حيث ثار النجارون إبان كساد مهنتهم وقيل عنها إنها كانت حركة شيعية، وإن كان الدكتور إسماعيل يصفها بأنها ثورة اجتماعية باعتبارها تبنّت طموحات العوام والمهمشين بصرف النظر عن المذهب، ثم يقارنها بثورة أخرى حصلت في العصر الأموي، ولكن في "الأندلس"، التي عانى حرفيوها وفلاحوها بحسب إسماعيل من التمييز العنصري، و"السخرة" أو العمل بأجرٍ قليل مقابل جهدٍ كبير.

وثورات أخرى عديدة، كثورة "العيارين" في العراق كذلك، وثورة "حميم المفتري" بالمغرب، وهي جميعاً تحتاج إلى قراءة عامة تكشف عن تفاصيلها كما يقول المؤرخ.

ردود دموية

القراءة العامة لما أمكن الوصول إليه من تفاصيل هذه الثورات، يحاول الكتاب عرضها بموضوعية، من خلال رد فعل الدولة الأموية مثلاً، التي كانت تقمع هذه الثورات بعنفٍ من خلال قواتها العسكرية، بينما يصف إسماعيل، ووفق مصادره التاريخية، الثوار على تنوعهم، "أنهم كانوا غير مسيّسين وقادرين على تحقيق أهدافهم بتنظيم، بل اتسموا عموماً بالغوغائية، واستخدموا أساليب في الاعتراض كالسلب والنهب".

يكشف الكتاب عن رغبة الثائرين في العصور الإسلامية الأولى باستعادة قيم الإسلام المختطفة كنصرة المستضعفين

ويهمل المؤلف ربما السياق الطبيعي لفكرة اغتصاب الحقوق اغتصاباً في ذلك الحين، في دولٍ لا تملك نظماً سياسية واضحة غير تلك المبنية على ولاء مطلق للحكام.

ويحاول الكاتب، من خلال كتابه الواقع في 210 صفحاتٍ من القطع المتوسط، الإشارة لنقطة مهمة، وهي أن "تهمة الجهل أو الخلاعة والزندقة" على الثوار أو قادتهم أو مفكريهم إن صح التعبير، يجعل من تاريخ الناس أو "العامة" في الدول الإسلامية تاريخاً مزيفاً، من ناحية القول أنهم جهلة وغير مثقفين. فالعديد من "المعتزلة"، والأدباء والفنانين الحرفيين كما يطرح المؤلف، هم من أولئك الذين طالبوا بتغييرات أو شاركوا في انتفاضات، فهم ليسوا مجرد منحرفين أو زناديق، رغم أن "ذلك، لا ينفي كون الطبقة البسيطة كانت أقل ثقافة من الطبقة الوسطى في التاريخ الإسلامي".

اقرأ أيضاً: 10 مشاهد للتعذيب لن تصدق أنّها في التاريخ الإسلامي

كما أنّ نبذ المتصوفين، ممن تمردوا على السلطة بطبيعة عاداتهم ومطالبه الروحانية أصلاً، لم يكونوا كما يصف المؤرخون "مجرد أصحاب خرافاتٍ ونهويمات"، وما التاريخ "المُزندق" للسهروردي والرومي وغيرهم، سوى مثالٍ بسيط على تحويل المعرفة وطلب التقدم الفكري والفني إلى مجرد خزعبلاتٍ بنظر السلطة.

عانى حرفيو الأندلس وفلاحوها، بحسب إسماعيل، من التمييز العنصري

الأمانة التاريخية

ولعل أهم ما يكشفه الكتاب، هو نقطة تتعلق بـ"عدم أمانة المادة التاريخية المتوفرة عن التاريخ العربي والإسلامي" بحسب رأيه، إذ يعتبر كذلك أن تدوين حركات نقل العلوم والمعرفة والترجمة، كانت مفيدة مثلاً في الأغراض الدعائية والترويجية لبعض الخلفاء، بينما تم طمس اي مرويات تاريخية لا تخدم هذه المصالح أو خارجة عن سيطرة الخلفاء.

أي تدوينات تاريخية خارجة عن مصالح الخلفاء تم إقصاؤها مقابل أخرى دعائية لهم من بعض المؤرخين

النقطة الأخرى المثيرة للجدل، هي قول المؤرخ بـ"أن الفروقات الطبقية والاقتصادية أدّت لثورات مختلفة سواء كانت منظمة أم ضوضائية، كشفت عن وجود نوعٍ من اقتصاد اتكالي عربي اعتمد على النهب فقط من خيرات البلاد التي يتم فتحها"، وهو ما أدى لتردّي الاقتصاد البنيوي المعتمد على إنتاج محلي، وبالتالي نتج عنه ثورات ربما تكون مشروعة بمطالباتها.

أما أبرز ما يمكن ملاحظته في إطار هذا الكتاب، هو رغبة الثائرين في العصور الإسلامية الأولى كالأموي "استعادة قيم الإسلام التي انطلق وانتشر لأجلها"، ويقصد الكاتب بها قيماً كنصرة المستضعفين، وحماية الفقراء، وتحرير العبيد، وغيرها.

وهنا يأتي السؤال الذي يتركه الكتاب للقارئ، عن مدى اختطاف قيمٍ إسلامية حميدة وإنسانية، من أجل منافع سلطوية معينة، وبالتالي، نشر نوعٍ من الظلم والقمع كان الكثير منه دموياً، بحق بشرٍ تم نفيهم عن حقوقهم على أرض الواقع من جهة، ونفيهم من التدوين في كتب التاريخ من جهة أخرى، على الأقل بصورة موضوعية.

اقرأ أيضاً: ألقاب وأوصاف التبجيل أو الذمّ في التاريخ الإسلامي

وهو ما يفتح الباب واسعاً، لإعادة قراءة التاريخ العربي والإسلامي بمصداقية وواقعية وإنصاف، لا يتضمن إهمال حركاتٍ شعبية بدأت منذ فجر الإسلام تقريباً، ومضت طوال عهده حتى طرقت أبواب الدولة العثمانية نفسها.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية