
هشام النجار
في الوقت الذي ركزت فيه بعض الأجهزة الأمنية في دول عدة على أنشطة تنظيمات راديكالية تقليدية، مثل جماعة الإخوان وتنظيمي داعش والقاعدة، تردد اسم كيان آخر في أكثر من ساحة وهو حزب التحرير الذي ينظر لمتغيرات مختلفة في العالم على أنها فرصة لتجريب حظوظه في كسب النفوذ ومضاعفة أعداد مؤيديه وداعميه.
وفي سوريا تم اكتشاف تأثيرات الدور الذي يلعبه حزب التحرير في هندسة حركة الشارع الغاضبة ضد سلطة هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، ووضحت مواطن قوة الحزب الذي لا يتبنى التغيير بقوة السلاح ولا يتميز بامتلاك قدرات عسكرية، وأسهم في خلق حالة من المعارضة الشعبية المنظمة القادرة على إزعاج سلطة الهيئة في إدلب السورية.
ورد حزب التحرير على استخفاف هيئة تحرير الشام به قبل أكثر من عامين وإقدامها على اعتقال ناشطيه الذين أعلنوا معارضتهم لسياساته واتهامهم له بالعمالة للغرب والتعاون مع تركيا، عبر الحضور بقوة مؤخرًا في خلفية مظاهرات يزيد الحزب زخمها بالترويج لسقطات الهيئة السياسية بجانب المظالم الحقوقية والاجتماعية والفساد الإداري.
وتشترك غالبية المنشورات التي وزعها ناشطو حزب التحرير بسوريا في اتهام قادة الهيئة بالعمالة للمخابرات العالمية والعمل على تسليم مناطق شمال غرب سوريا للنظام السوري من خلال صفقة تركية – سورية تهدف إلى تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق.
وتبين لهيئة تحرير الشام أن هناك من هو أخطر من معارضيها المسلحين الذين نجحت في تخفيض مستوى تهديدهم من منتسبي جماعة حراس الدين (فرع القاعدة في سوريا) وداعش، وأن أساليب حزب التحرير في المعارضة وتنظيم حملات الدعاية الموجهة عبر منشورات ووسائل التواصل الاجتماعي وتجييش الجماهير الغاضبة أكثر خطورة، مع عجزها عن استخدام القبضة الحديدية والقمع ضد حراك شعبي واسع ومنظم.
ونافس ناشطو حزب التحرير في أندونيسيا الدعاة ورجال الدين على وسائل التواصل الاجتماعي، وبات هناك الملايين الذين يتابعون فيليكس سياو أحد زعماء الحزب على منصة إكس.
وتأكد في ألمانيا أن منظمة “مسلم إنتراكتيف” التي حشدت المئات في مدينة هامبورغ خلال مظاهرة ترددت فيها شعارات مثل “الخلافة هي الحل” و”ألمانيا تساوي دكتاتورية القيم”، ما هي إلا تطور لحزب التحرير الذي حظرته السلطات الألمانية عام 2003 وأنها شكل جديد لنفس الحزب بالأفكار والطروحات ذاتها، لكن بعنوان مختلف.
وذُكرت منظمة “مسلم إنتراكتيف” في تقرير الاستخبارات الداخلية الألمانية ككيان مقرب من حزب التحرير، وهو الحريص على توليد جماعات تروج لأفكاره وتستقطب مؤيدين لأهدافه للتحايل على حظر أنشطته.
وتضع الاستخبارات الداخلية الألمانية منظمة “مسلم إنتراكتيف” المنبثقة من حزب التحرير في خانة التطرف، وتحاول خلق مجتمعات موازية للمجتمع الألماني وتدعو إلى خلافة عالمية وترفض الديمقراطية ونظامها الدستوري في البلاد، ما دعا إلى التأهب والمطالبة باستباق الخطر عبر إلحاقها بقائمة الحظر، لأن ألمانيا مستهدفة لإيصال مستويات اختراقها من قبل تيار الإسلام السياسي إلى ما هو عليه الحال في بريطانيا وبلجيكا وفرنسا.
وعبر جهاز دعاية محترف واستغلال لبعض رموز النخبة من مثقفين وأساتذة جامعات كوسيلة نقل للأفكار والمناهج، نجح حزب التحرير في جذب مريدين لتبني قناعاته وتصوراته في بعض دول وسط آسيا وجنوب شرق آسيا وأوروبا، فضلًا عن دول في الشرق الأوسط مثل الأردن وفلسطين وسوريا، وزعم ناشطو الحزب أن أتباعهم في أربعين دولة.
ويرجع السبب الرئيسي وراء كثافة حضور حزب التحرير في العديد من الساحات، خاصة بعض دول أوروبا، خلال الآونة الأخيرة إلى بروز متغيرات يرى أنها تثبت دعايته السياسية الرئيسية المتعلقة بالمسؤولية الغربية والأميركية عن المعاناة في العالم الإسلامي، متمثلة في مشاهد القتل الجماعي التي تُبث من غزة.
ويستخدم حزب التحرير أكثر من غيره الجدل والنقاشات في الشؤون السياسية العالمية والإقليمية للترويج لفكرته الدينية المتمثلة في وجوب إقامة خلافة إسلامية تحمي مسلمي العالم من الاضطهاد والظلم، فالحزب ليس حركة دينية تقليدية إنما هو كيان سياسي ثوري يوظف القضايا والإشكالات الدينية، مستخدمًا الخلافة العالمية ليعفي نفسه من الأسئلة المتعلقة بإخفاقات التنظيمات الإسلامية في الحكم المحلي.
واستغل حزب التحرير الذي يطرح نموذجًا إسلاميًا عالميًا مناهضًا للمنظومة الدولية القائمة، خسارة الغرب وأميركا خلال الأعوام العشرين الأخيرة المعركة في ساحة القيم التي يزعم أنه يدافع عنها، بداية من الممارسات في منفى غوانتنامو ومرورًا بسجن أبوغريب والتدخل غير القانوني في العراق والانتخابات المزورة في أفغانستان، وانتهاءً بازدراء وإنكار الحقوق المشروعة للفلسطينيين.
ويحرص قادة حزب التحرير على الاستثمار في حرب غزة وتداعياتها والمستويات العالية من التعاطف مع الفلسطينيين دون تحقيق العديد من المكاسب الخاصة بطرح اسمه على المستوى العالمي ككيان مرشح لقيادة مسيرة الإنقاذ والدفاع عن الحقوق.
ونجح حزب التحرير في الوصول بأفكاره إلى شريحة واسعة من الجماهير في العالم من خلال التأثير على بعض النخب المثقفة وأساتذة الجامعات الذين يتولون إيصال مبادئه عبر ندوات وتدريبات ونقاشات مفتوحة مع الطلاب مستغلًا مصداقية هؤلاء لدى مُريديهم، وفقًا لمقتضيات مرحلتين تدخلان في صميم خطته، وهما مرحلتا التنشئة الثقافية والتفاعل مع الأمة.
ووصل حزب التحرير إلى مرحلة مكنته من تنظيم مظاهرات حاشدة في بعض الدول ترفع شعارات بحسب طبيعة القضية التي تدافع عنها، ما يعني أنه حقق نجاحًا بنواته الأولى من المثقفين والنخب في إقناع قطاعات جماهيرية واسعة بصحة أيديولوجيته، وأن تنظيمه للحراك في الشارع ربما يحفز المتأثرين به ممن يشغلون مناصب في السلطة لدعم ندائه المُبطن للانقلاب والتغيير.
ويجرب حزب التحرير هذه الخطة لقياس مدى النجاح الذي يحرزه برنامجه المرحلي، ولجعل خطته المتمثلة في الإطاحة بالحكومات الفاسدة وإقامة الدولة الصالحة قيد الاختبار، في المراحل التي يراها مواتية مع انهيار سمعة حكومات محلية واشتداد غضب الجماهير ضد فشلها الإداري وفسادها مثلما يجري في شمال غرب سوريا.
وتظهر حاليًا على المستويين العالمي والإقليمي الاستجابة لرغبته في استغلال وقوع تناقض فج جديد بين ما تدعيه الولايات المتحدة ودول غربية أخرى من قيم واحترام لحقوق الإنسان والتزام بمعايير التحضر وما يجري فعليًا على الأرض، حيث بات الواقع المعيش يشوه المبادئ المعلنة.
وبعد إخفاقات متكررة لمختلف الحركات الإسلامية حول العالم يسعى حزب التحرير لإلهام أساليبه الثورية وتحريك الجماهير لجعل نفسه جزءًا من حركة التصدي وليس الحركة كلها، حتى يتمترس وراء الجماهير ولا يكون عُرضة وحده لسخط السلطة ما يسهّل عملية تقويضه وتفكيكه.
ويقدم حزب التحرير نفسه كبديل عن مختلف الكيانات والتنظيمات الناشطة في الغرب أو تلك التي تخوض تجارب حكم محلية في الشرق الأوسط بتصويرها خادمة للمصالح الغربية، باستثناء جماعة الإخوان التي يتبادل معها المصالح والمنافع ويحرص على أن يشكلا معًا حالة تكاملية خاصة في الفضاء الأوروبي في مواجهة خطط الحظر والتضييق.
وساعد حزب التحرير في الاستمرار والبقاء حتى في بعض البلدان التي حظرت نشاطه أنه يركز على الترويج للقضية أكثر من تركيزه على استخدام العنف لتدمير أو تخويف المعارضين لها.
ويشترك حزب التحرير مع الحركات الإسلامية الأخرى في الهدف المتمثل في إقامة خلافة كبديل عن الأنظمة المحلية والعالمية التي لا تمثل النموذج الإسلامي وعن الأنظمة الاقتصادية الرأسمالية والاشتراكية، لكن يختلف عنها في الوسائل.
ويعتمد الحزب على طرقه الخاصة في التغيير التي تقتضي نشر الوعي والتثقيف السياسي مستلهمًا طريقة الرسول في الكفاح في مكة قبل الهجرة إلى المدينة المنورة، استعدادًا لمصارعة من يعتبرهم مستعمرين وكفارا وتحرير الأمة من سيطرتهم وصولًا إلى مرحلة استلام الحكم، وهذا لا يعني أنه لا يتعاطف مع المتطرفين العنيفين، وربما يقدم لهم الدعم والمساعدة بشكل غير مباشر.
ويظل نشاط حزب التحرير محدود التأثير على الرغم من ديناميكيته في خضم المظالم المحلية والعالمية وبالنظر إلى ديناميكيات التطرف المتبادل بين حركة المتطرفين العنيفين وغير العنيفين واليمين المتطرف الصاعد في أوروبا، لأنه في الأخير يدعو لما تدعو إليه جماعات أخرى من نماذج حكم ضد مبدأ المواطنة والحريات الفردية والتعددية واحترام الفكر.
وعلاوة على التشابه في الغاية هناك تشارك في النفعية واستغلال القضايا العادلة، حيث يتيح التسلل إلى المؤسسات والشركات المملوكة للدول والهيئات التعليمية للحزب جمع الأموال بحرية، واستغلاله كل ما يتعلق بمناصرة غزة والشعبين الفلسطيني والسوري في جمع التبرعات التي تذهب إلى خزائن تمويل نشاطاته.
عن "العرب" اللندنية