"ربيع عربي" وصدمة النخبة الفقهية والثقافية

ربيع عربي وصدمة النخبة الفقهية والثقافية

"ربيع عربي" وصدمة النخبة الفقهية والثقافية


24/09/2023

نستطيع أن نصف الثورات العربيّة التي وقعت منذ نهاية عام 2010، بأنّها ثورات مُزعجة للجميع؛ فهي بقدر ما أزعجت السّلطة المتربّعة منذ عقود استبداديّة، فقد أزعجت كذلك نخبنا الثقافيّة والفقهيّة معاً، واستطاعت أن تُخلل بُنى وتزرع شكّاً لم يكن متاحاً في عصر ما قبل الثورة، اللهمّ إلّا على شكل نظري غير عملي. ويبدو أنّ النخب الفقهية قد أزعجتها الثورات العربيّة؛ لأنّها قد جرحت تعاليها النرجسي، وطرحت عليها مشاكل عمليّة متعلّقة بأسئلة السلطة والفرد والإنسان والحريّة لم تكن تفكّر فيها، فضلاً عن قدرة تلك النُّخب على الاشتباك بالثورة وبفعلها من حيث كونها انخلاعاً جذريّاً من فضاءات سلطويّة إلى فضاءات أكثر نقداً وتقبّلاً للسؤال.

اقرأ أيضاً: "الإخوان المسلمون والانكفاء إلى الظل".. قراءة في مسار حركات الإسلام السياسي بالربيع العربي

لقد تعاملت النخب الفقهيّة مع الثورات إما من خلال التنكّر لها وعدم الاعتراف بها بوصفها "خروجاً" على وليّ الأمر الشرعي، وإمّا من خلال مسايرة خجولة لفعل الثورة، ومحاولة ترسيخ ذلك من خلال المعجم القديم بوصف تلك الثورات ثورات على الملك العضوض والجبري، إلى آخر المعجم السلطاني.

تعاملت النخب الفقهيّة مع الثورات بعقل معياري في حين أنّ الظواهر المجتمعيّة أكثر تركيبيّة وتلاحماً من الأحكام المجردة

ونؤكد بدايةً أنّ الثورات العربية الأخيرة هي ثورات من نوع حديث تماماً ولا تنتمي لمعجم سلطاني قديم، بل هي ثورات لا تجد اعترافها إلا من داخلها ومن خلال فعلها ذاته. لم تكن تلك الثورات بحاجة لشرعنة فقهية من النخب الفقهية بالأساس؛ لأنّها ثورات وليست تنظيمات، ولأنّها تنادي بمعجم حقوق لم تعد تلك النخب قادرة على احتمال واقعته في الفضاء العربي-الإسلامي.

ليس العجيب أنّ النخب الفقهية في بلادنا الإسلاميّة لم تُجمع بعد على الثورة، وليس عجيباً أنّها لم تبدأ في التّشريع روحيّاً ومِليّاً لتلك الثورات التي قامت بها أجساد مُلقى بها في حيازة سكّانية بلا أيّ اعتراف حيويّ بها من قبل الدولة العجوز، ولكنّ العجيب واللافت أن هذه النّخب لم تحاول مساءلة ما تسمّيه "السياسة الشرعيّة"، والعمل على إبداع فضاءات نظريّة جديدة تستطيع أن تنقد السياسة الشرعية المرتبطة بالتاريخ، وأن تصنع نماذجَ أكثر تفسيريّة حتى تعطي لنفسها معنىً مقبولاً لهذه الثورات التي هي أبعد من مخيالها وعملها وغايتها في المجتمع.

اقرأ أيضاً: السفير الروسي يعيد الجدل بشأن قطر و"الربيع العربي"

إنّ غياب تأويليّة مناسبة لدى النخب الفقهية للثورات العربية، راجع لكون تلك النخب لم تبلور مفهوماً للتاريخ تستطيع من خلاله أن تفهم تراثنا السياسي الإسلامي، وتحاول أن تفهمه في سياقه التاريخي وفي حدثه. وكلّ غياب للنقاش مع ماضي ذاكرتنا السياسية هو استقالة بمعنى ما عن حاضرنا وأسئلته وراهنيته. فإذا استطاعت تلك النخب أن تفهم الفعل السياسي على أنّه فعل تاريخي بالأساس وليس فعلاً فقهيّاً، فإنّ باباً من الاجتهاد التاريخي والالتحام بجمر الأسئلة سوف يكونان مفتوحين على مصراعيهما. وربّما علينا أن نتذكّر في هذا السياق إشارة المفكّر المغربي الراحل محمد عابد الجابري إلى أنّ: "العقل العربي عقل فقهي بالأساس"، يقصد عقلاً قياسيّاً، وهذا ما يوضّح انسحاب تلك النخب من الثورات؛ لأنّها فريدة وليس لها مثال في مخيالهم الفقهي.
ويرجع عدم تشريع النخب الفقهية للثورات العربيّة من منظورنا إلى عدّة أسباب مُعطِّلة:

أولاً، لا تعتبر النخبُ الفقهية تراثَ الفقه السياسي الإسلامي الكلاسيكيّ تاريخيّاً بالضرورة، كما أنّه ليس على درجة واحدة من التأليف. إن الماوردي ليس هو الجويني مثلاً، مع أنّه كان هناك نمط تسيّد لبعض الكتابات على بعضها، وكتاب الماوردي نموذجاً، نظراً لأسبقيته الزمانيّة. وهذا التراث لا يمكن إلقاء الحكم عليه بالذمّ من قبلنا نحن الذين تفصلنا عنه قرون نظريّة طويلة؛ لأنه يتعلّق بشكل حكمٍ لم يعد موجوداً. إلّا أنّ النخب الفقهيّة تُبوّئ ذلك التراث منزلة معياريّة قِيميّة، في حين أنّه متطور في داخله، وتاريخي؛ أي إنّ تجاوزه متاح لأنّه متعلّق بالاجتهاد أساساً.

نستطيع وصف الثورات العربيّة التي وقعت منذ نهاية 2010 بأنّها مُزعجة للجميع فقد أزعجت السّلطة ونخبنا الثقافيّة والفقهيّة

ثانياً، الذاكرة التأويليّة التي تعتمد عليها تلك النخب لم تعد كافية للتفسير منذ أزمنة عديدة؛ فإنّ التقليد الفقهي يبدو أنّه قد انتقل إلى الجانب السياسيّ كذلك، بحيث أن الانطلاق لتفسير أيّ حدثٍ يقع لا بدّ من البحث له عن شرعيّة ماضية، وتلك الشرعيّة تكون بمفاهيم لم تعد ناجعة تفسيريّاً للثورات، بل هي في الحقيقة تنكّر لها ومسخ لهويّتها التي تجاوزت هذه المفاهيم.

ثالثاً، تعاملت تلك النخب الفقهيّة مع الثورات بعقل معياري، حرام/ حلال، في حين أنّ الظواهر المجتمعيّة أكثر تركيبيّة وتلاحماً من الأحكام المجردة؛ فهي ظواهر مرتبطة بالإنسان والتاريخ والمجتمع، وليست ظواهر تحتاج إلى معياريّة عليا؛ لأن لامعياريتها هي سبب في نضوجها وعملها ومحاولة إصلاح ذاتها. إن الثورة هي أفق منفتح للتجربة بصوابها وخطئها، ومقدرة الثورة على الاكتمال تأتي من خلال انطراحها في التاريخ وانفتاحها بالعمل على فضاءات كانت مثقوبة -بتعبير جيل دولوز- ومحاولة رتقها.

اقرأ أيضاً: الربيع العربي بين فوضى مصر وعفريت تونس

رابعاً، غياب إعلان حقيقي بإيمان هذه النخب الفقهية بالأمّة، وبالناس، وبحقّهم في الثورة، بل دائماً نجد محاولة تأطير الناس ضمن رؤية جاهزة مسبقاً، ووضع الناس في ذاكرة سياسيّة لم تعد بذاكرتهم، فإنّ تلك الثورات لم تخرج على حاكم متغلّب أو ولي أمر متسلط قد اغتصب الملك، بل هي ثورات لها جدة زمانية مستمدة من التاريخ الحديث، ومن داخل الدولة التي تهيمن على العصر الحديث؛ فمطالب الناس متعلّقة بهذا الظرف التاريخي وليس بظرف آخر يمكن ردّه إليه، ومحاكمته ضمن سياقه.
أردتُ أن أقول إنّ ما أزعجت الثورات به النخب الفقهية هي تلك النصيحة: علينا ألّا نخرج من التاريخ، نحن هنا والآن ولسنا هناك، وهذا الـ"هناك" ليس سيّئاً، ولكنّه ليس معياراً سياسيّاً عليّ لأسبقيته التاريخية، ولا بدّ من بلورة مفهوم للتاريخ حتى نعي به ونفهمه.

اقرأ أيضاً: السلفيون إبان "الربيع العربي".. الأئمة على منابر السياسة

إنّ المجابهة التي لقيها الحراك الثوريّ في العالم العربيّ منذ أواخر 2010، لم تكن فحسب على يد الطغمة الحاكمة، بأجهزتها المعلومة للجميع، ولكن أيضاً من قبل نخبة هذه الطغمة، سواء الدينيّة منها والثقافيّة. فبتدخل الدولة المستمرّ في الفضاء الدينيّ والثقافيّ، تمّ تشويه الدين والثقافة كأنظمة تحرّر، وكأنساق تساعد الناس على الإفلات من إرث الاستبداد والسلطويّة. من عجائب القدر، أنّ دولة ما بعد الاستعمار -التي تستمرّ بكل خرابها حتى اليوم، ولو على حساب الأجساد- قد ولّفت توليفة سلطويّة ودينيّة وأمنيّة لحكمها ذات طابع تحكميّ ربط الاجتماع ببنى أمنية تماماً.

من حسنات الربيع العربي أنّه عرّى المسألة السياسيّة تماماً وفكّ اللثام عن النخب التي كانت تتحدث دائماً باسم الناس

فمثلاً، في سوريا، وجدنا أنّه في حين عملَ النظام كلّ أحجياته لعسكرة الصراع، إلّا أنّه كان هناك موقف فقهائيّ ومثقفاتيّ من الحراك. فقد برز مشايخ ومثقفون، هؤلاء إسلاميّون بالمعنى العامّ والآخرون علمانيّون، ورغم اختلاف تركيبتهم الأيديولوجيّة إلّا أنهم اصطفّوا مع نظام وحشيّ وإباديّ على حساب الناس الذين راحوا ضحيّة هذا النظام الوحشيّ.

وبعد هذا الرثاء للنخب الفقهية، من المشروع أن نطرح: هل نعاني من تغوّل الفقيه أم من غيابه؟ هل أزمتنا الراهنة إسلاميّاً نتاج فقهاء لم يحسنوا التدبير، أم نتاج غياب الفقهاء الذين يعون بالتاريخ؟ ويبدو أن الإجابة أننا نعاني من غياب الفقيه الحقيقي؛ الفقيه الذي يعي بالتاريخ، ويجتهد في إنشاء منظومات أكثر تفسيريّة لراهنه... ونعاني كذلك من تغوّل الفقيه المُصطنع؛ الفقيه الذي يظنّ أن يده تطال كلّ شيء في الظواهر المجتمعيّة حتى ولو كانت أدواته النظريّة والتاريخيّة قاصرة.

اقرأ أيضاً: الإسلام والحداثة: "الربيع العربي" وجدل الدين والسياسة مجدداً

وعليه؛ فمن حسنات تلك الحراكات الثوريّة المسماة "الربيع العربيّ" هي أنّها عرّت المسألة السياسيّة تماماً، وفكّت اللثام عن النخب التي كانت تتحدث دائماً باسم الناس، ورغم أيّ إخفاق سياسيّ، وقلّة وعي، إلّا أن سيرورة الحركة والثورة الدائمة والمجابهة كفيلة بأن تخلق وعياً أكثر تحرّراً حتى من الثوار، يا للأسف، الذين تحوّلوا في اليوم الثاني للثورة إلى فاشيين.

الصفحة الرئيسية