ماجد كيالي
كانت تلك بمثابة حرب أخرى على قطاع غزة، بعد الحروب الأربع السابقة (2008، 2012، 2014، 2021)، التي شنّتها عليه إسرائيل بكل ترسانتها العسكرية، بعد انسحابها الأحادي منه في 2005، واعتباره "كياناً معادياً" إثر سيطرة "حماس" داخله في حزيران (يونيو) 2007، وقد نجم عن كل تلك الحروب الوحشية مصرع حوالى 5 آلاف فلسطيني، وعشرات ألوف الجرحى، ودمار بنى تحتية، وأكثر من 50 ألف منزل بشكل كامل أو جزئي، علماً أن الأمر يتعلق بمنطقة ضيقة (360 كيلومتراً مربعاً)، يعيش فيها أكثر من مليونن من الفلسطينيين، في ظروف صعبة، بحكم ندرة مواردها، وبسبب الحصار المفروض عليها من قبل إسرائيل منذ 15 عاماً.
على ذلك، ربما يجدر بنا، قبل الحديث عن الدلالات السياسية الإسرائيلية لكل تلك الحروب، شرح الأسباب التي أدت إلى انسحاب إسرائيل من قطاع غزة، وهي تتمثل في الآتي:
أولاً: افتقاده للموارد الطبيعية، مع كثافة عالية بالسكان، الأمر الذي يجعل إسرائيل تتحمل تبعات كثيرة جراء استمرار سيطرتها عليه، لذا فهي اختارت تحررها منه ومن ذلك العبء.
ثانياً: وجهت إسرائيل عبر ذلك "الانسحاب" رسالة مضللة، ومراوغة، عن استعدادها للتسوية مع الفلسطينيين، علماً أن ذلك تم بعد 12 عاماً من عقد اتفاق أوسلو، ومن دون اتفاق مع القيادة الفلسطينية، مع ملاحظة أنها أخضعت القطاع إلى حصار مشدد.
ثالثاً: الهدف الأساسي للانسحاب، التحرر من السيطرة على مليوني فلسطين، وبالتالي التخفف مما تعتبره أخطار "القنبلة الديموغرافية"، ومن تبعات وصمها كدولة محتلة وعنصرية.
رابعاً: في ظل تهربها من الاستحقاقات المطلوبة منها في اتفاقات أوسلو (الانسحاب من الضفة والقطاع)، توخت إسرائيل خلق شرخ في النظام السياسي الفلسطيني، وإثارة التناقضات بين الفلسطينيين، وهو ما تجسد في الانقسام والاختلاف بينهم، من دون إيجاد حل منذ 15 عاماً.
خامساً: استثمرت إسرائيل في الانسحاب، بإضعاف الحركة الوطنية الفلسطينية، وصرف طاقتها الكفاحية في صراعاتها البينية، وتحويل حركتي "فتح" و"حماس" إلى سلطة (في الضفة وغزة، مع بعث رسالة إلى العالم مفادها عدم توافق الفلسطينيين وضعف اهليتهم للحكم.
عموماً، فإن إسرائيل في كل السياسات التي تنتهجها إزاء الشعب الفلسطيني، عبر الاستيطان والتهويد والتشريد، وهدم المنازل، والقتل، والاعتقال، والحصار، تتوخى إزاحتهم من الزمان والمكان والمعنى، وفرض روايتها للصراع، وتالياً اخضاعهم، وقتل روح المقاومة عندهم، وتأكيد صورتها كدولة رادعة في المنطقة.
أما بخصوص الفلسطينيين، فرغم جبروت إسرائيل العسكري، وتفوقها عليهم من كل النواحي، إلا أن كل ذلك لا يبدو أنه يفتّ في عضدهم، أو يضعف إيمانهم بحقهم وبقضيتهم، بدليل استمرار مقاومتهم بكل الأشكال والوسائل، وبانتفاضة تلو انتفاضة، رغم كل المعاناة والتضحيات والأثمان الباهظة. بيد أن معضلة الفلسطينيين انهم يقاومون (منذ قرن)، بإيمانهم بقضيتهم وباستعدادهم العالي للتضحية وبعنادهم، أكثر من أي شيء آخر، مع أن كل ذلك على أهميته، يشكل الشرط اللازم، لكنه يحتاج إلى الشرط الكافي لتحقيق الإنجازات، أي للاستثمار في التضحيات والبطولات، وتحويلها إلى إنجازات سياسية، فلا طريقة إدارة القيادات الفلسطينية للصراع تخدم في ذلك، ولا واقع الفلسطينيين يستطيع فرض ذلك، ولا الظروف والمعطيات الإقليمية والدولية السائدة (المواتية لإسرائيل) تسمح لهم بذلك.
هكذا، وطوال المراحل الصراعية السابقة التي شهدتها غزة، اعتمدت القيادات الفلسطينية، لا سيما قيادات حركتي "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، خطاباً عاطفياً وحماسياً روج لانطباعين خاطئين ومضرّين: أولهما، التصوير أن المقاومة المسلحة في غزة باتت بمثابة جيش، مع صواريخ، كأنها أضحت بمثابة قوة موازية للجيش الإسرائيلي أو تقدر على تحديه، علماً أن الحديث يدور عن حرب نظامية وليس عن حرب شعبية طويلة الأمد. والثاني، أن قطاع غزة في إمكانه التحول إلى منطقة، أو قاعدة عسكرية لتحرير فلسطين، أو لدحر الاحتلال من الضفة، علماً أن كل ذلك لم يؤد لرفع الحصار عن القطاع ذاته.
طبعاً النزعة الأولى غير صحيحة، وتنطوي على مبالغة رغبوية لا تسهم في تكوين وعي مناسب لواقع القدرات الفلسطينية ومحدوديتها، وما تستطيعه وما لا تستطيعه، ولا في تكوين صورة صحيحة عن قدرات إسرائيل. أما النزعة الثانية، فهي تحمّل قطاع غزة بوضعه الصعب، عبء التحرير، وهزيمة إسرائيل، بهذه الدرجة أو تلك. وربما ينبغي لفت الانتباه، أيضاً، إلى أن هاتين النزعتين "الاحتفائيتين" تفضيان بدوريهما إلى إشاعة توهم مفاده أن ثمة نوعاً من التكافؤ بين إسرائيل والفلسطينيين، وهو ما يترتب عليه إضعاف الصورة عنهم كضحايا ومستضعفين، وبالتالي حجب صورة إسرائيل باعتبارها دولة استعمارية وعنصرية وعدوانية.
بديهي أن ترويج انطباعات من هذا النوع هو نتاج تلهّف الفلسطينيين لأي انتصار على إسرائيل، بيد أن انطباعات كهذه قد تفيد في تقوية المعنويات وتعزيز روح الصمود والمقاومة، لكنها لا تؤثر في ما يخص استراتيجيات الصراع، ومعادلات موازين القوى والخطط العسكرية.
ولعل الفلسطينيين في صراعهم، المديد والمضني والمعقّد مع إسرائيل معنيون بإدراك أنهم يواجهون معضلتين أساسيتين، أولاهما تكمن في أنهم لا يستطيعون في إمكاناتهم الذاتية تغيير موازين القوى لمصلحتهم، لأن ذلك يحتاج إلى وضع عربي ملائم، وهذا لم يتشكّل ولا مرة، منذ أكثر من ستة عقود. وثانيتهما، أنهم مع كل تضحياتهم وبطولاتهم لا يستطيعون للأسف تثمير فوزهم على إسرائيل، أو ترجمة انتصارهم ولو الجزئي عليها، إلى مكاسب أو إنجازات سياسية، إلى الدرجة المناسبة، لأن ذلك يتطلب تغيّراً إيجابياً لمصلحتهم في المعطيات الدولية والعربية، إلى الدرجة التي تمكّنهم، أو تسمح لهم بذلك.
هذا يفسر إننا شهدنا في أن الحرب الأخيرة لم تتوقف بواسطة تفاهمات، أو وعود، كما روجت قيادة حركة الجهاد، وهو وضع مؤسف، وناجم عن انفصام القيادات عن الواقع، واستعجالها اللغة الانتصارية، وعدم مصارحتها شعبها بالحقيقة.
ثمة استنتاجان هنا، من الحرب الأخيرة ومن سابقاتها، الأول، إنه لا ينبغي تحميل فلسطينيي غزة أكثر مما يحتملونه، فهم يعيشون في سجن كبير، ويكابدون الضيم والحصار المشدد والفقر وندرة الموارد والارتهان للخارج، في ظل ظروف فلسطينية وإقليمية ودولية صعبة وغير مواتية! والثاني، أن كلفة نضال الفلسطينيين ومعاناتهم، البشرية والمادية والمعنوية، ما زالت لا تتناسب مع العوائد المرجوة ولو نسبياً، على كل الأصعدة، بسبب طبيعة بناهم، وتخلّف إدارتهم لأوضاعهم وعلاقاتهم، وطريقة إدارتهم لصراعهم ضد عدوهم في حين أضحت إسرائيل أكثر تطوراً وقوة واستقرارا مع محيط دولي وعربي أكثر تناسباً معها.
قصارى القول، ربما يفيد الفلسطينيين إدراكهم أنهم، في هذه الظروف غير المواتية، وبعد كل التجارب التي مروا بها، ليسوا بحاجة للإثبات أنهم شعب شجاع ومضحّي وصاحب كرامة، بقدر حاجتهم، أيضاً، للإثبات لأنفسهم ولغيرهم، أنهم شعب قادر، أيضاً، على تحويل معاناته وتضحياته وبطولاته، إلى إنجازات سياسية، أي إلى وقائع على الأرض، سواء في صمودهم وفي مقاومتهم في مواجهة عدوهم، أو في أطار بناء مجتمعهم وكيانهم.
وبديهي أن ذلك يتطلب تغيير المعادلات السياسية المتقادمة، التي ما زالوا يتشبثون بها، ويشتغلون عليها، منذ حوالى نصف قرن، بخوض الكفاح، بكل أشكاله، وفق استراتيجية مدروسة وواضحة ومسؤولة، تضعه على سكة تقلل من استنزافهم، بمعنى تستنزف عدوهم، بدل أن تستدرجهم للاستنزاف في معارك غير متكافئة، أو يستدرجون إليها، سكة تؤدي إلى مراكمة الانجازات، في صراع يفترض أنه طويل وممتد، في الزمان والأشكال والمعطيات المحيطة.
عن "النهار" العربي