تراجع التحريض ضد الأقباط يعزز التسامح في مصر

تراجع التحريض ضد الأقباط يعزز التسامح في مصر

تراجع التحريض ضد الأقباط يعزز التسامح في مصر


20/09/2023

هشام النجار

 لم تعد النماذج التقليدية للفتن الطائفية في مصر تثير ضجة كما كانت من قبل، فعندما يتم تسريب خبر عن إسلام فتاة مسيحية أو زواجها من مسلم تبدأ الفتنة تطل برأسها على الفور، حيث ينحاز مسلمون متشددون إلى فريق، ويقف أقباط متشددون في صف الفريق الآخر، وتنشب ملامح أزمة كان يمكن وأدها بقليل من الحكمة والروية.

وكشف مقال كتبه كبير الباحثين بمكتبة الإسكندرية سامح فوزي في التاسع من سبتمبر الجاري بصحيفة الأهرام المصرية، عن السرّ وراء مرور واقعة إسلام فتاة قبطية تُدعى مريم سمير فايز من دون أن تنال ما كانت تناله مثيلاتها من تحشيد عاطفي وشحن طائفي.

وأثارت الفتاة القبطية مريم سمير، وهي معيدة بجامعة العريش في شمال سيناء وباحثة ماجستير، جدلًا محدودًا في الشارع المصري، لكنها لقيت اهتماما على وسائل التواصل الاجتماعي بعد انتشار خبر إسلامها الذي أعقبه مباشرة انتشار خبر رجوعها إلى الكنيسة.

ولفتت هذه الواقعة انتباه الكثيرين لمدى التغيير الكبير الذي حدث في غضون السنوات الماضية، بالنظر لما كانت تسببه وقائع مثيلة من توترات وصلت حد محاصرة كنائس ونشوب اشتباكات عنيفة بين سلفيين متشددين وأقباط.

ولم يتطرق مقال سامح فوزي وعنوانه “المواطنة في مواجهة المشروع الطائفي”، إلى واقعة الفتاة القبطية مريم سمير، محذرًا من أن هناك من يريد إحياء المشروع الطائفي بكل أبعاده مستغلًا التحول الديني الفردي والمتناثر لنشر الكراهية.

ولا يجد السلفيون الآن متنفسًا للترويج لدعايتهم التقليدية وتحريضهم ضد الأقباط في الفضاء العام، كما كان الوضع قبل أكثر من عشر سنوات، حيث تحرمهم الجهود الأمنية المتلاحقة من الترويج لثقافة العنف والتعصب والكراهية في صفوف المجتمع.

ويعترف ناشطون أقباط بجهود الدولة على مدار السنوات الماضية التي شملت التصدي لعديد من المشكلات الموروثة بدءًا من مواجهة الخطاب الطائفي وتذليل العقبات التي تعترض بناء الكنائس وترميمها والحرص على التمثيل السياسي الملائم للأقباط في الهيئات المنتخبة، علاوة على تجاور الكنائس والمساجد في المجتمعات العمرانية الجديدة والاحتفاء بالثقافة القبطية التي تُعدّ أحد روافد الثقافة المصرية.

وأسهم تغييب تيار الإسلام السياسي وتيار ما عُرف بالسلفية الحركية من المشهد السياسي في وقف صور الإثارة الطائفية في الشارع واستغلال حالات التحول الديني الفردية، كما عززت المبادرات التي قدمتها هيئات ثقافية واجتماعية قيم المواطنة ومظاهرها بمختلف أبعادها فكرًا وسلوكًا.

ولفت الكاتب المصري سامح فوزي إلى أنه قام بتوثيق عدد من التجارب المجتمعية في التنمية بعدد من المحافظات ضمن مبادرة من الأمانة الفنية للجنة العليا لحقوق الإنسان، كشف محتواها أن هناك نسيجًا اجتماعيًا واعيًا متسامحًا تشكل على المستوى المجتمعي، وتعزز في مواجهة الطائفية التي سعت إلى تمزيقه.

وكان التيار السلفي في مصر يعتمد على الحشد الجماهيري في الشوارع والميادين مُحاصرًا بعض الكنائس، لكن الآن تنتشر منابر إلكترونية تحرض ضد المسيحيين لإحداث حالة من الاحتقان الطائفي.

وحقق التيار السلفي بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011 العديد من المكاسب السياسية، مستخدمًا ورقة التحول الديني الفردي من المسيحية إلى الإسلام من خلال إحداث دوي إعلامي على قاعدة التفوق الديني، هدفه إظهار التيار السلفي كفاعل مؤثر في المشهد العام.

وطور السلفيون من أدواتهم بعد فقدان القدرة على الحشد الجماهيري والخوف من الانكشاف الأمني، حيث يكمنون داخل مساجلات عقائدية منتشرة على تطبيقات حديثة لتأليب المسلمين ضد الأقباط وبث الشائعات.

وتبادر إلى أذهان من تابعوا واقعة الفتاة القبطية مريم سمير سؤال بشأن طبيعة المتغيرات التي طرأت على الساحة المصرية طيلة العقد الماضي وأدت إلى تواري المشروع الطائفي، لتمر حوادث كانت في السابق بمثابة فتيل لاشتعال مواجهات دموية ذات حس طائفي من دون ضجيج وشحن ديني.

وتكشفت أبعاد المشروع الذي كان حاضرًا بقوة في تسعينات القرن الماضي والسنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة بهدف تقويض دعائم الدولة، وإحداث التوتر الديني والإثارة الطائفية بين المسلمين والأقباط.

ودشن التيار السلفي في مصر لمرحلة جديدة من الصعود والتمكين السياسي والاجتماعي بعد تنحي الرئيس الأسبق حسني مبارك في فبراير 2011، عبر عقد مؤتمر حاشد حضره العديد من الرموز في مدينة المنصورة بشمال القاهرة.

ووجد السلفيون الفرصة سانحة للمنافسة بمشروعهم الديني المغلق حتى لا يتركوا المجال مفتوحًا والمهمة سهلة أمام الداعين لدولة مدنية قائمة على المواطنة والمساواة والتنوع الديني والفكري.

واستغلوا الانفتاح غير المسبوق للمشهد السياسي في مصر وعموم الشرق الأوسط ليس اعتمادًا على تصورات مقنعة ومتماسكة فقد تميز التيار السلفي بالضعف الشديد في هذا الجانب، إنما بناءً على أقدمية فصائله وخبراته في الحشد الميداني انطلاقًا من المساجد التي يسيطر عليها، مقارنة مع القوى المدنية والثورية التي نجمت عن الحراك الشعبي.

وشهدت هذه المرحلة بروز ظاهرتين متناقضتين بطلهما التيار السلفي في مصر، حيث الحرص على الظهور بحضور عددي هائل وقدرة على ملء الشوارع والميادين خلال فترة زمنية وجيزة، في مواجهة تهافت وضحالة الملفات والقضايا التي على أساسها تم الحشد والتجميع.

وتمحورت المظاهرات السلفية بعد حراك 2011 حول ملفين رئيسيين وهما الدفع باتجاه تقليص مكتسبات الأقباط والتحريض عليهم من واقع اعتناق السلفيين لطروحات متعلقة بوجوب التمييز بين المسلمين والأقباط.

وكثف قادة التيار السلفي وعناصره من تحريضهم ضد الشيعة، ما تسبب في قتل بعض ناشطي الشيعة في مصر، فضلًا عن الضغط على الإخوان لإعلان التدخل العسكري في الشأن السوري، كما جرى في الفعالية السلفية الأضخم التي عقدت في استاد القاهرة منتصف يونيو 2013.

وركز السلفيون على قضايا هامشية مثل تحريم مظاهر الحضارة والفنون، وكثرت وقائع كسر رؤوس تماثيل مشاهير الأدب والفن والسياسة وتغطية التماثيل الفرعونية، وتكريس طريقة تعامل خاصة مع المرأة بهدف الإيحاء بالبدء في تغيير هوية المجتمع والدولة. ووظف قادة التيار السلفي ملف التحولات الدينية الفردية بهدف تقسيم المجتمع من منطلق ممارسة الاستعلاء الديني في مواجهة المختلفين.

وانتقل السلفيون من محاصرة الكنائس إلى مناصرة من يزعمون أنهن جرى اجبارهن على التراجع عن تحولهن إلى الإسلام بعد حراك يناير 2011 وفي أثناء حكم الإخوان للبلاد، إلى المشاركة في حرق وتدمير نحو تسعين كنيسة ومبنى كنسيًا بعد عزل الجماعة عن السلطة في 3 يوليو 2013.

وغلبت على العناصر السلفية التي أُدينت بارتكاب اعتداءات طائفية حينها، الرغبة في الثأر والدفاع عن حكم تيار الإسلام السياسي، وفي قطع الطريق أمام قطاع واسع من المصريين مسلمين وأقباطًا ممن سعوا لتغيير الواقع وشعروا أن الوطن لم يعد يسع تنوعهم خلال عام من حكم المتشددين. وتأثر التيار السلفي في عمومه (الحركي والجهادي والعلمي) بالزلزال الذي ضرب تيار الإسلام السياسي وتوابعه في المنطقة بأسرها.

وحاول جناح داخل التيار السلفي في مصر، وهو السلفية العلمية التي يمثلها حزب النور، خلق ثغرة للتملص من مسؤولية التسبب في تدهور الأوضاع أثناء حكم الإخوان عبر التماهي والمشاركة في المسار الذي نتج عن ثورة الثلاثين من يونيو 2013، إلا أنه ظل متمسكا بأفكاره التقليدية.

وأسهمت سياسة الانفتاح غير المسبوقة والتحولات المهمة في المملكة العربية السعودية في حدوث ما يشبه الانتكاسة للتيار السلفي بمصر، بالنظر إلى المقاربات التي يجريها الرأي العام والنخبة بشأن نموذج التدين المقبول الذي يحث على الابتكار والإبداع والإتقان في مواجهة رفض نموذج التدين الأحادي الإكراهي الذي يثبط الطاقات المجتمعية ويحبطها.

واختفى رموز التيار السلفي ودعاته من الفضاء العام في مصر بعد أن قلصت الحكومة نشاطهم وضمت المساجد التي كانوا يسيطرون عليها وإغلاق الكثير من القنوات الفضائية التابعة للسلفيين، ما اضطر ناشطي هذا التيار إلى الدخول في مساجلات عقائدية على منصات إلكترونية.

ويصعب على الناشطين السلفيين على التطبيقات الإلكترونية التي تشهد مساجلات عقائدية تكرار نفس التأثير الذي أحدثه دعاة هذا التيار عندما كانوا يخاطبون العامة في الفضاء العام، حيث تغص المنصات بناشطين نخبويين من مختلف الاتجاهات، ما يعني الحضور بردود قوية على كل ما يُروَج له من تصورات مغرقة في الأصولية.

عن "العرب" اللندنية



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية