تراجع الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل في المنظور الأميركي

تراجع الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل في المنظور الأميركي

تراجع الأهمية الإستراتيجية لإسرائيل في المنظور الأميركي


12/05/2025

محمد أبوالفضل

تنشغل وسائل إعلام وبعض مراكز الفكر والدراسات في إسرائيل حاليا بإمكانية حدوث تحولات في العلاقات مع الولايات المتحدة، وتسرد سيناريوهات لليوم الأسود مع الولايات المتحدة، ويبدو أن فترة التفاؤل بصعود الرئيس الأميركي دونالد ترامب واليمين المحافظ بدأت تتراجع بعد نحو ثلاثة أشهر من دخوله البيت الأبيض، ويحل مكانها توجّس وريبة وشك بشأن رؤية تغير عكسي في العلاقات بين واشنطن وتل أبيب، وفقا للطبيعة التي تحكم عقل الإدارة الأميركية الراهنة، وتتمكن منها حسابات الربح والخسارة، ما يجعلها تتبنى سياسات مفاجئة لقريبين منها.

ما يزعج وسائل الإعلام وبعض الباحثين في إسرائيل أن إدارة ترامب بدأت تتخذ مسافة واضحة من حكومة بنيامين نتنياهو، وتتخلى عن التصاقها بها، ما أوحى سابقا أن الأولى تابعة للثانية، ولأن نتنياهو لم يستوعب الدرس الذي وجهه إليه ترامب في لقائهما الثاني بالبيت الأبيض في شهر أبريل الماضي، تمادى في غيّه السياسي، حيث عامله ترامب كتلميذ في مدرسته آنذاك، وفاجأه بعزم واشنطن على إجراء حوارات مع طهران، وعدم وضع القوة العسكرية كخيار أول في التعامل مع إيران.

كانت هذه أول علامة على أن ترامب متقلب المزاج يمكن أن ينقلب على نتنياهو أيضا، ثم توالت المفاجآت، ففي الزيارة نفسها أبدى الرئيس الأميركي عدم ارتياحه للطريقة التي تدير بها إسرائيل أمورها مع سوريا، وحثه على التفاهم مع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وهو ما لم يدرك أهميته نتنياهو في البداية، حيث واصل ضرباته على مواقع سورية ولم تتوقف إحراجاته لنظامها الجديد، وكادت عمليات إسرائيل الجوية في السويداء وجنوب دمشق تؤدي إلى احتكاك مع طيران تركيا (عضو الناتو) في الأجواء السورية.

بعدها وصل الرئيس ترامب إلى قناعة تؤكد عدم وجود فائدة من نتنياهو، فقد تفضي توجهاته إلى المزيد من الخسائر الأميركية في منطقة الشرق الأوسط، ومن هنا جاءت رسالته القوية من وراء إقالته مستشار الأمن القومي الأميركي مايك والتز، والذي قام بالتنسيق مع نتنياهو من وراء ظهر البيت الأبيض حول قصف إيران وما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة وإسرائيل معها عسكريا.

جاءت الرسالة الأشد مرارة عند إعلان ترامب وقف الهجمات الأميركية على جماعة الحوثي في اليمن دون ربطها بوقف التهديدات للداخل الإسرائيلي، واكتفت واشنطن بقبول عدم تعرض الحوثيين للسفن الأميركية في البحر الأحمر فقط، أي ترك أمر تعرض السفن الإسرائيلية المارة فيه لتقديرات قيادة الجماعة، بما يفسر (بأثر رجعي) أن الضربات التي شنتها الولايات المتحدة على اليمن على مدار أسابيع كان الهدف منها حماية المصالح الأميركية وليس الإسرائيلية.

تتابعت الرسائل، حيث ألغيت زيارة وزير الدفاع الأميركي بيت هيغسيث إلى إسرائيل، الاثنين، وكانت بهدف التنسيق معها قبيل زيارة سيقوم بها الرئيس ترامب إلى المنطقة، تشمل السعودية والإمارات وقطر، ثم أعلنت واشنطن عزمها تشييد مفاعل نووي سلمي في السعودية دون ربطه بأي تطبيع عاجل بين الرياض وتل أبيب، ما يعني أن ترامب قرر أن يسير وحيدا، متحللا من القيود التي يفرضها عليه نتنياهو في علاقته مع السعودية ودول الخليج عموما، والتي تجد صعوبة في تطوير العلاقات مع إسرائيل ورئيس حكومتها يقوم بإمعان التقتيل والتجويع في فلسطيني قطاع غزة.

قفز الرئيس الأميركي خطوة أكبر بالحديث عن خطة إنسانية جديدة لإدخال المساعدات، وربما التمهيد لوقف إطلاق النار، وبعيدا عن ماهية الخطوة وما تحمله من دلالات نحو حصر الأزمة بغزة في الجانب الإنساني وتفريغها من مضامينها السياسية والأمنية، فإنها تسير في اتجاه عكس ما يتمناه اليمين في إسرائيل ورئيس الحكومة، ويعزز المعلومات التي تتردد حول وجود هوة بين نتنياهو وبين الرئيس ترامب، سوف تفقد على إثرها إسرائيل الكثير من المزايا التفضيلية التي عاشت في كنفها على مدار العقود الماضية، وقد لا يطال ذلك السلاح والمعدات العسكرية والحماية السياسية، لكن على المدى القريب لن تصبح هذه الملفات مفتوحة على مصراعيها أو غير محدودة بسقف معين.

النقطة الأكثر خطورة من الناحية الإستراتيجية أن إسرائيل ظلت أشبه بولاية أو قاعدة عسكرية أو زاوية يتم الارتكان إليها للحفاظ على المصالح الأميركية ومسمار يمكن وضعه في نعش أي قوة تمثل عائقا أمام واشنطن في منطقة الشرق الأوسط، وأدت هذا الدور ببراعة على مدار عقود طويلة، وفي كل مرة خرجت عن هذه المهام وجدت رؤساء أميركيين يمدون لها حبل إنقاذ، ومع ترامب لن تجدي هذه السياسة نفعا، فالرجل الذي انتخب وفقا لشعار “لنجعل أميركا عظيمة مرة أخرى” (MAGA) يريد أن يطبقه على الجميع، بمن فيهم إسرائيل.

بدأت إسرائيل المدللة أميركيا تتحول إلى عبء على إدارة الرئيس ترامب، وهو يراها تسير في طرق لا يريدها حاليا، ورئيس حكومتها لا يتورع عن خداعه، وأشد ما يبغضه ترامب، وفقا لمقربين منه، شعوره أن أحدا يخدعه ويراوغه ويسعى إلى استغلاله، ولذلك بدأت ملامح استدارته بعيدا عن نتنياهو تظهر، ويوجه له صفعات متتالية عسى أن يستفيق من غفوته، وتطلّعه إلى توظيف ترامب بشكل لا يحبه الأخير، بل يكرهه جدا، وهو الذي اعتاد التوظيف والتحايل والالتفاف على الكثيرين.

مهما علت نرجسية الرئيس ترامب، أو حتى غطرسته، عند لحظة معينة يريد أن يجعل بلاده عظيمة مرة أخرى أمام ناخبيه، في الداخل والخارج، فما قام به على الصعيد الأول (الداخل)، سواء أخطأ أو أصاب فيه، يستطيع أن يلمسه بسهولة المواطن الأميركي الذي انتخبه على أساس هذا الشعار، لكن يصعب أن يلمسه على الصعيد الثاني (الخارج)، حيث يتراجع نفوذ الولايات المتحدة ويبتعد بعض الحلفاء عنها، ومنهم من لجأ إلى خصوم واشنطن على الساحة الدولية، وجزء من هذه المسألة بسبب تصورات وممارسات إسرائيل ودفاع الولايات المتحدة عنها.

كما أن الدور الذي كانت تلعبه إسرائيل في المنطقة، بدأ في التراجع جراء طموحات رئيس حكومتها بشأن تصميمه على الاستثمار لأقصى مدى في حرب غزة، وسعيه لإعادة هندسة الشرق الأوسط على مقاسه وحده، ولم يضع اعتبارا لمقاس القوة الكبرى الرئيسية وهي الولايات المتحدة أمام نفسها أو أمام أصدقائها وحلفائها، ومنهم من بدأ يضبط توازناته باتجاه زيادة الانفتاح على الصين وروسيا، وبعد وقت قصير قد تجد واشنطن حولها عددا قليلا من دول عقدت معها شراكات إسترايتجية بعيدة المدى بسبب نهم رئيس حكومة إسرائيل، وقيامه بضرب عرض الحائط بالكثير من الثوابت التي عرفتها الولايات المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية.

قد تتحمل سياسات ترامب جزءا من هذا الانفضاض، لكن ميزته أنه يستطيع تصويب أخطائه سريعا، إذا شعر أن الخسائر سوف تكون فادحة، وبإمكانه أن يضغط على إسرائيل لحضها على الرضوخ لما يريده، لكن الوضع وصل إلى مرحلة أن اليمين المتطرف تغوّل بشكل أعمى في إسرائيل، بما يجعله غير مرتبط باستمرار أو غياب نتنياهو، ومهما زاد تغوّل نظيره في الولايات المتحدة، فإن براغماتيته المفرطة قد تسعفه وتحميه من السقوط.

العرب




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية