تداعيات الأزمة الأوكرانية على المسألة الإيرانية

تداعيات الأزمة الأوكرانية على المسألة الإيرانية


24/02/2022

محمد الزغول

ينشغل العالم برمّته في تقدير تداعيات الأزمة الأوكرانية التي يمكن وصفها بالأزمة الكونيّة؛ فقد أشعل تجدُّد صراع الخرائط والنفوذ في خطّ الصَّدع الأوروآسيوي التنافس الجيوسياسي، والجيواقتصادي، والجيوعسكري بين مختلف القوى الفاعلة في النظام الدولي، وأيقظ تناقضات الأنظمة الإقليمية.

ومن شأن تفاقم هذه الأزمة، وامتدادها، أو استمرار فرض، وتشديد العقوبات على روسيا، والذي بات مرجحاً بعد الهجوم العسكري الروسي على الأراضي الأوكرانية، أن يؤثر بشكل ملموس على أسواق الطاقة، وأسعارها، واتجاهات المنتجين، والمستهلكين. 

أما من النواحي الجيوسياسية، والجيوعسكرية فمن المرجح أن تخلق هذه الأزمة ديناميات جديدة للتنافس، والتقارب، وتشكيل التحالفات العسكرية، والسياسية، والاقتصادية. سواء على كان ذلك مستوى النظام الدولي، أو النظم الإقليمية. 

هنا في الشرق الأوسط، سيكون للأزمة في أوكرانيا، تداعيات مُباشرة على أسواق النفط، والطاقة، وحركة التجارة، وسلاسل التوريد. وقد يتأثر الأمن الغذائي الإقليمي، بفعل اعتماد عديد من دول المنطقة على سلع أساسية قادِمَة من بؤرة الصراع. وسوف تمتد هذه آثار الأزمة وتداعياتها سريعاً إلى السياسة، والأمن، وشبكة التحالفات، ومنظومة العلاقات بين دول المنطقة. وذلك بفعل كثرة التناقضات الإقليمية، والخلافات البينية، وهشاشة النظام الإقليمي، وسيولته، وانكشافه على العوامل الدولية. وتعكس الزيارة الأخيرة للرئيس الإيراني إلى قطر، وزيارة الرئيس الإسرائيلي إلى تركيا تطورين ملموسين في منظومة التحالفات، واتجاهات التنافس، والصراع الإقليمي كنتيجة أولية للصراع في أوكرانيا.

في إيران، وحتى قبل أن تبلغ الأزمة الأوكرانية هذا المستوى المتقدّم من التصعيد العسكري والسياسي، انشغلَ العديدُ من مراكز التفكير الإيرانية في تقدير، وتحليل، انعكاسات هذا الصراع على المنطقة عموماً، وعلى المسألة الإيرانية على نحو خاص. وبدا أن للأزمة انعكاسات وتداعيات مباشرة على الملف النووي الإيراني، والتنازع بين اتجاهات الشرق والغرب في السياسة الخارجية الإيرانية، ومنظومة علاقات إيران الإقليمية، وشراكاتها الدولية. 

كما أن للأزمة تداعيات اقتصادية في إيران، ستكون أكثر وضوحاً في قطاعي النفط، والغاز، لكنّها لن تكون محصورة فيهما. وبعيداً عمّا إذا كانت التحليلات الإيرانية صائبة أم لا، فمن المفترض أن تحمل الأزمة الأوكرانية عدة تداعيات على إيران، يمكن تقسيمها إلى مستويين أساسيين:

التداعيات الجيواقتصادية

تمثّلت أبرز تداعيات الأزمة الأوكرانية على إيران في انعكاساتها الاقتصادية؛ إذ حملت الأزمة طلائع توقُّف إمدادات الغاز الروسي إلى أوروبا، كما حملت بوادر فرض عقوبات مُشدَّدة على روسيا من جانب الغرب. 

ويؤكد الانطباع الغالب داخل الأوساط الاقتصادية والسياسية في إيران أنَّ طهران يمكنها أن تستفيد من الحصار التي يفرضه الغرب على موسكو. وفي هذا السياق، أشارت مراكز تفكير إيرانية إلى أن انقطاع طرق تبادل البضائع بين روسيا والغرب بدرجات متفاوتة، يمكن أن يخدم الاقتصاد الإيراني، الذي ستعول عليه موسكو حينها، باعتباره أحد الأسواق البديلة. وفي حال استمرار العقوبات لفترة طويلة، من المتوقع أن يرتفع حجم التبادل التجاري بين إيران وروسيا من 4 مليارات دولار في 2021، إلى 8 أو 10 مليارات دولار في 2025، وبما يعني ارتفاعاً بنسبة 100 حتى 150 بالمئة في أربعة، أو خمسة أعوام. وسيعمل انضمام إيران إلى الاتحاد الأوروآسيوي، ومشاريع انفتاح إيران على النظام البنكي الروسي على تشجيع هذا التوسع في التبادل الاقتصادي بين الجانبين. ويمكن القول إن روسيا تحت الحصار سوف تُمثِّل فرصة للاقتصاد الإيراني، كما كانت إيران تحت العقوبات تمثّل فرصة للاقتصاد الروسي.

أما في قطاع الطاقة، فالأمور لا تبدو بهذا المستوى من الوضوح؛ إذ لا يمكن الجزم بطبيعة الانعكاسات المحتملة، كما هو الحال في التبادل التجاري. وتُشير مجمل التطورات إلى أن الغاية من فرْض العقوبات على موسكو، هي عزلها عن الاقتصاد الغربي، وإبعادها عن سوق الطاقة الأوروبية الذي يمثل أهم موارد الاقتصاد الروسي في الغرب. فقد توصل الأوروبيون إلى قناعة بضرورة تنويع مصادر الطاقة الأوروبية، لتقليل الكُلَف غير المباشرة، وتفادي موجات التضخم الناجمة عن ارتفاع الأسعار. ومن الواضح أن منظومة العقوبات الأوروبية لا تستهدف عزل روسيا عن الاقتصاد العالمي كافة، والراجح أنه لا يمكن لها ذلك، حتى وإن أرادت القيام به. 

وكانت روسيا قد استبقت موجات العقوبات الغربية، بتنفيذ عدة خطوات لضمان أسواق بديلة للغاز الروسي خارج أوروبا، منها على سبيل المثال، توقيع اتفاقية مع الصين، لتزويدها بإمدادات غاز ونفط، بقيمة 120 مليار دولار، تضمَّنت عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً.

وأكّدت موسكو مراراً وتكراراً التزامها بتزويد أسواق الطاقة الأوروبية بالغاز الروسي بمعزل عن الخلافات السياسية. لكنّ اتجاه التطورات الأخيرة يُشير إلى تطلع الجانب الأوروبي نحو مصادر بديلة للغاز الروسي. وبالفعل أكدت مصادر غربية توقف مشروع خط أنابيب الغاز الثاني، وسط توقعات بانخفاض إمدادات الغاز الراهنة. 

ولا شكّ أن دولة قطر تُعدُّ في مقدمة الدول التي يعوّل عليها الاتحاد الأوروبي كمصادر بديلة للغاز. كما يمكن لدول عربية أخرى مُنتجة للغاز، مثل: الجزائر، ومصر أن تُسهِم في تقليل اعتماد الأوروبيين على الغاز الروسي. لكنّ العديد من التحليلات في أوروبا أشارت أيضاً إلى أن الاتحاد الأوروبي كان يحثُّ الخطى لإعادة إحياء الاتفاق النووي، تمهيداً للتزود بمصادر الغاز الإيرانية. وذلك عبر تنفيذ حزمة من مشاريع التطوير، والاستثمارات المشتركة، وهي مشاريع شهدت في التسعينيات من القرن الماضي نماذج أولية منها.

لكن هذا المسار لن يكون سهلاً على الإطلاق، إن لم يكن مُستعصياً؛ إذ من المتوقع أن تواصل روسيا محاولاتها الناجحة لإبعاد إيران عن أسواق الغاز الأوروبية. وكانت موسكو استبقت الأحداث الجارية عبر اتخاذ عدّة خطوات متقدمة هدفت إلى حرمان إيران من الدخول في أي منافسة على خطوط إمداد الغاز إلى أوروبا عبر آسيا والقوقاز. وحتى فيما يتعلق بحقل تشالوس في بحر قزوين، وقّع الجانبان الإيراني والروسي، اتفاقا تتحكم بموجبه روسيا بإنتاج، وتصدير الغاز من الحقل الذي تمتلك إيران غالبيته المطلقة. 

من ناحية أخرى، فإن بلوغ الأسواق الأوروبية يُدخِل إيران في تنافس محموم مع قطر، باعتبارها البديل المطروح لتغطية هذه السوق. ومن المعروف أن الدوحة تلعب دوراً محورياً في مشاريع تطوير حقول الغاز الإيرانية. وبالتأكيد لن ترغب إيران بحرمان قطاع الغاز المتعطش للاستثمارات، من رؤوس الأموال القطرية. كما ليس من المستبعد أيضاً في هذه الحال، أن تحاول قطر إبعاد المستثمرين الدوليين عن مشاريع تطوير حقول الغاز الإيرانية المشتركة معها. 

وعلى الرغم من ذلك، يبقى من المحتمل أن تُوفِّر الأزمة الأوكرانية أفقاً محدوداً لإيران لتطوير قطاعي النفط والغاز عبر الحصول على استثمارات غربية، خاصة في حال التوصل إلى اتفاق في المفاوضات الجارية حول برنامج إيران النووي. لكنّ أهواء حكومة المحافظين في طهران، لا تصبّ في صالح دعم هذا التوجه. ويُدرك الإيرانيون ضآلة فرص الوصول إلى الأسواق الأوروبية، بسبب معارضة روسيا من جهة، وصعوبة التنافس مع قطر، إلى جانب الانطباع السلبي الذي يهيمن على عقل التيار المحافظ، والمؤسسات الثورية حيال التداعيات السياسية، والاستراتيجية، لأي انفتاح اقتصادي على الغرب.

في المقابل، يسعى الإيرانيون إلى التركيز على السوق الهندية، والباكستانية للغاز من خلال العودة إلى التركيز على مشاريع قديمة، من أهمها خط أنابيب السلام. وعلى الرغم من وجود عقبات من المفترض أن تُعيق هذا المسار، قد يأمل الإيرانيين بأن يُسهِم موقفهم الداعم لروسيا، وانصياعهم لخططها بشأن تصدير الغاز إلى أوروبا، في حصول طهران على دعم موسكو السياسي والاستثماري لتفعيل خط أنابيب الغاز إلى الهند وباكستان، مقابل أن تظل روسيا مصدرة الغاز الأساسية إلى الصين، وأن تحصل كذلك على حصة من سوق الهند إلى جانب إيران. وهناك أفكار يتم تداولها في الأروقة الإيرانية حول سُبُل التعاون مع روسيا والصين، لإنشاء حلقة تزويد للغاز، تشارك فيها إيران إلى جانب روسيا والصين وتركمنستان، لكنها لا تزال مجرد أفكار أولية.

التداعيات الجيوسياسية، والجيوعسكرية

بادَر صُنّاع القرار في طهران إلى إظهار الدعم والتأييد للموقف الروسي في أوكرانيا، مؤكدين على أن "نزوع الناتو نحو التوسُّع شرقاً كان السبب الأساس في الأزمة". ويبدو قرار المؤسسة السياسية في إيران، بالوقوف في الجبهة الروسية مقابل الجبهة الغربية، مُنسجِمَاً مع سياسة التوجه نحو الشرق التي تتبنّاها إيران منذ سنوات. وهي اليوم تحاول استغلال الأزمة بين كييف وموسكو، للإسراع في تطبيقها، وإثبات جدّيتها فيها.

وفي حال تفاقم الوضع في أوكرانيا يمكن أن تتجاوز روسيا تحفظاتها القديمة حيال إيران، في محاولة للضغط على أوروبا وأمريكا من جبهة مختلفة. وقد يلجأ الكرملين إلى التهديد ببيع أسلحة متطورة إلى إيران، كرافعة سياسية في المفاوضات حول أوكرانيا. 

وإذا وضعنا ذلك، في مقابل موقف تركيا الداعم لأوكرانيا في الأزمة، يَظهر أن مسار التباعُد بين إيران وجارتها التركية قد يتواصل. خاصةً في ضوء الرغبة التركية بالعودة إلى حاضنة الناتو التي يؤكّدها موقف أنقرة من الأزمة الأوكرانية، وفي ضوء عودة الدفء إلى العلاقات التركية-الإسرائيلية، والتركية-الخليجية. 

وإذ يعني الموقف التركي والموقف الإيراني المتباينين حيال الأزمة الأوكرانية تباعداً بين البلدين على هذا الصعيد (رغم إبداء أنقرة مُعارضتها لفرض عقوبات على روسيا)، وقد يدفع في حال توسَّعت الأزمة الأوكرانية نحو تعزيز تركيا جهودها نحو عزل مسارها في مصادر الطاقة عن إيران، فإنه كذلك قد يُضيف ورقة جديدة إلى مسار التباعد بين حكومة العراق، والنظام السياسي في إيران، خصوصاً في حال قرّر العراق التحوّل إلى مسار لنقل الطاقة من الخليج إلى تركيا وأوروبا.

وفي مقابل عودة تركيا إلى أحضان الناتو، من المفترض أن تسعى روسيا إلى إيجاد موطئ قدم لها في إيران، سواء كان ذلك عبر إنشاء قاعدة عسكرية روسية في إيران، أو إجراء مزيد من المناورات العسكرية لضمان وجود عسكري روسي شبه دائم في المنطقة بالتنسيق مع الجهات العسكرية الإيرانية، وبدافع الرغبة بالتصدي لتطوُّر إمكانات حلف الناتو في تركيا. وإذا كانت الظروف الراهنة تجعل من الصعب إنشاء قاعدة عسكرية روسية في إيران، فمن المتوقع جداً أن يرتفع مستوى التعاون العسكري بين البلدين.

وفي الإطار ذاته يمكن أن تُزوِّد موسكو حلفاءها في طهران ببعض الأسلحة الحديثة، أسلحة قد يكون من ضمنها طائرات عمودية، ودبابات حديثة، وتحديث للدفاع الصاروخي الإيراني، والعتاد البحري. وإن لم يكن ذلك متاحاً على صعيد عقود البيع، بسبب العقبات الدولية، ومحدودية الموارد المالية الإيرانية، من المرجح أن تبرم مثل هذه العقود في إطار التعاون، والتدريب، والاستخدام المشترك. وبينما يأتي مثل هذا الوجود العسكري الروسي في إيران (في حال حدوثه) في سياق إيجاد توازن إقليمي، مقابل الناتو فإن التعاون بين البلدين (ربما إلى جانب الصين) قد يتجاوز ذلك إلى حدود التنسيق العسكري والسياسي والأمني حيال أفغانستان.

بشكل عام، من الوارد تماماً أن يؤدي استمرار الأزمة الأوكرانية إلى تعميق مسار انخراط إيران في تحالف عسكري مع روسيا، على الرغم من بعض العقبات (أغلبها على صعيد تنسيق شؤون الطاقة)، خصوصاً وأن التجربة التاريخية تثبت وجود رغبة إيرانية بمثل هذا التحالف.

عن "مركز الإمارات للسياسات"



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات

آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية