بين صمت القادة وأنين السجون: خطاب بعيد عن واقع التغيير في سوريا

بين صمت القادة وأنين السجون: خطاب بعيد عن واقع التغيير في سوريا

بين صمت القادة وأنين السجون: خطاب بعيد عن واقع التغيير في سوريا


16/12/2024

تمرّ سوريا اليوم بمنعطف تاريخي استثنائي، وهي تحاول أن تطوي صفحة عقود من القمع والاستبداد، حاملةً جراحاً غائرة في ذاكرة شعبها ووجدانه. ومع انبلاج فجر التغيير، يعلو نداء السوريين إلى قياداتهم الدينية والسياسية لتكون على قدر المسؤولية، تحمل آلامهم وتسعى لتحقيق آمالهم في وطن أكثر عدالة وكرامة. لكن، وسط هذه اللحظة المفصلية، تبرز تساؤلات حتمية: هل تستطيع هذه القيادات أن ترتقي إلى مستوى التحديات، أم أنّها تظلّ حبيسة خطاب تقليدي تجاوزته الوقائع، لغة خشبية منفصلة عن عمق المعاناة؟

في الوقت الذي كان العالم يوجه فيه أنظاره إلى أهوال السجون السورية، التي أصبحت رمزاً للوحشية والتعذيب، وقف البطريرك يوحنا العاشر في كنيسة "المريمية" بدمشق ليلقي خطاباً بدا كأنّه بعيد كلّ البعد عن هذه المأساة الإنسانية. وسائل الإعلام العالمية، بما في ذلك القنوات الإخبارية اليونانية والكنائس المسيحية الدولية، كشفت للعالم صوراً تقشعر لها الأبدان، توثّق ما وصفه البعض بأنّه "هولوكوست العصر الحديث". لكن، بينما اهتزت الإنسانية أمام هذه المشاهد، جاء خطاب البطريرك محاصراً بلغة كلاسيكية وشعارات قديمة بدت كأنّها تحاكي لغة نظام سقطت شرعيته الأخلاقية والسياسية.

اختار البطريرك تجاهل الحديث عن المآسي الكبرى التي عصفت بسوريا، وفي مقدمتها ملف السجون والمعتقلات التي امتلأت بأصوات المعذبين والآلاف ممّن قضوا تحت وطأة التعذيب، أو ممّن ما يزال مصيرهم مجهولاً. هذه السجون التي وصفتها تقارير حقوقية دولية بأنّها تضاهي في بشاعتها جرائم الحروب الكبرى، لم تجد في خطاب البطريرك سوى التجاهل، لم يرفع صوته لدعم أولئك الذين نُكّل بهم، ولم يُشر إلى ضرورة العدالة أو المحاسبة.

ما كان صادماً أيضاً هو الإصرار على خطاب يبدو كأنّه امتداد لعقلية النظام البائد، خطاب يتحدث عن "الوحدة الوطنية" و"العيش المشترك" دون أن يلامس الواقع المرير الذي عاشه السوريون. وبدلاً من أن يكون صوتاً جامعاً يُعبّر عن معاناة الجميع، بدا كأنّه يعيد إنتاج شكوى قديمة من خطر وهمي يهدّد المسيحيين، متجاهلاً حقيقة أنّ المعاناة طالت كلّ السوريين، مسيحيين ومسلمين، في ظلّ قمعٍ لا يُفرّق بين طائفة وأخرى.

في هذا المفترق، كان العالم ينتظر خطاباً يُدين الجرائم بحقّ السوريين جميعاً، ويؤكّد أنّ المسيحيين جزءٌ لا يتجزأ من نسيج هذا الوطن الجريح، خطاباً يعترف بآلام المعتقلين وذويهم، ويُطالب بالكشف عن مصير المفقودين ومحاسبة المسؤولين عن هذه الفظائع. لكنّ البطريرك أضاع الفرصة، متمسكاً بلغة خشبيّة تتحدّث عن "المحبة" و"الأمل" في وقت كان يتطلب مواجهةً شجاعة ونداءً صادقاً للعدالة.

في النهاية، عكس خطاب البطريرك يوحنّا العاشر غياباً عن نبض اللحظة التاريخية. فبينما كان السوريون ينتظرون صوتاً يصدح بحقوقهم، ويدعو إلى مستقبل قائم على المحاسبة والمصالحة، جاء خطابه كظلٍّ لعهدٍ مضى، مشحوناً بشعارات تفتقر إلى الصدق مع الواقع. سوريا اليوم تحتاج إلى قيادات تنبض بروح الحرية والجرأة، وليس إلى من يكرّر صدى شعارات جوفاء. السّوريون، بمسيحيّيهم ومسلميهم، يستحقون صوتاً يضمّد جراحهم، ويعبّر عن آمالهم بوطنٍ جديدٍ لا تُثقل كاهله ذكريات القهر، وطنٍ يليق بتضحياتهم وأحلامهم.

 




انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية