تحولت المواجهة مع التطرف، في غالب الأحيان، إن لم يكن جميعها، إلى مواجهة مع المتطرفين، وفي ذلك يتشكل معسكران يتبادلان الصراع والعنف والكراهية، ويجري أيضاً، بوعي أو بدون وعي، تقسيم المجتمعات والناس والبلاد؛ فتتحول المواجهة إلى صراع وانقسام سياسي واجتماعي، والحال أنّه لم يعد صراعاً بين الاعتدال والتطرف، لكنّه صراع على الشرعية السياسية والدينية؛ ولا يخلو، على جانبيه، من التطرف والكراهية.
لأجل التسامح والمحبة تحدث أعمال تحريض وكراهية وإقصاء وفساد وتضليل ثم تضيع الغاية النبيلة أو تُنسى
إنّ الشعور بالصواب والاعتقاد بالدفاع عنه، يدفع صاحبه إلى القسوة وتكوين المبررات الفكرية والأخلاقية لمواجهة الآخر "المخطئ"، وتضيع الرواية الأساسية المنشئة للصراع، والمستمدة من مواجهة التطرف والكراهية؛ إذ إنّه لأجل التسامح والمحبة تحدث أعمال تحريض وكراهية وإقصاء وفساد وتضليل، ثم تضيع الغاية النبيلة أو تُنسى، وتنشأ تطرفات متصارعة، أو في عبارة أخرى، الاعتدال المتطرف في مواجهة التطرف المتطرف.
اقرأ أيضاً: هكذا أججت إيران التطرف في نيجيريا
ويبدو بديهياً القول: إنّ الصراع يجب أن يرد إلى روايته الأصلية، وأن يحافظ المعتدلون عليه في ساحته وغايته المنشئة، وهي قيم الحقّ والخير والجمال، بما هي عملياً التمييز بين الحقّ والصواب، والضرر والمنفعة، والحسن والقبيح، وبما هي صراعياً الاعتدال في مواجهة التطرف، والمحبة في مواجهة الكراهية، والتسامح في مواجهة التعصب، والعيش معاً في مواجهة الإقصاء ورفض الآخر وتهميشه، والمساواة في مواجهة التمييز والاستعلاء، والتعددية في مواجهة التنميط، والتنوع والاختلاف في مواجهة الإكراه، والفردانية في مواجهة التشابه القسري المفروض على أرواح الناس وإلغاء الخصوصية والإبداع والمبادرة، والقبول بالآخر؛ سواء كان أفكاراً، أو انتماءات، أو أسلوب حياة، أو عقائد وأديان، أو ثقافات، في مواجهة هيمنة الأقوى أو الأغلبية، والمواطنة في مواجهة الروابط والانتماءات الثانوية والفرعية؛ قبلية أو شعوبية أو إثنية أو دينية، والكرامة في مواجهة العجرفة وبطر الحقّ وغمط الناس، والثقة في مواجهة الحق الإلهي، أو الطبيعي، أو الطبقي المزعوم، والعقلانية في مواجهة الوصاية.
إنّ الشعور بالصواب والاعتقاد بالدفاع عنه يدفع صاحبه إلى القسوة وتكوين المبررات الفكرية والأخلاقية لمواجهة الآخر المخطئ
إنّ المحافظة على الصراع والمواجهة في إطار القيم المتصارعة، يبقي المجال مفتوحاً للجدل والحوار والقدرة على التأثير والتغيير في الأفراد والمجتمعات، مهما كانت انتماءاتها، ويحدّد الإجراءات بالقانون والمصالح التي يتأثر بها الفاعلون المباشرون أو الدول والمؤسسات والجماعات، لكن ذلك لا يمتد إلى المجتمعات والنساء والأطفال والكبار والمرضى؛ الذين يأتي قدرهم في ساحات الصراع.
لكنّ الصراع لا يخلو من الضعف، والثغرات التي تجعل الحفاظ عليه في هذا الإطار صعباً ومكلفاً، ففي مواجهة التطرف والكراهية، تجب ملاحظة أنّ هناك فروقاً جوهرية بين الاعتدال والتطرف في بنيتهما وتشكلهما، ما يجعل الصراع بينهما مختلفاً عن الصراع بين الحق والباطل، أو الخير والشر.
اقرأ أيضاً: إستراتيجية إسبانية جديدة للتعامل مع المتطرفين
والحال أنّ المواجهة مع التطرف ليست كذلك أبداً، فحين يلجأ أهل الاعتدال والصواب (الاعتدال في اللغة هو الصواب)، أو من يعتقدون أنّهم كذلك، إلى العنف والتحريض والحشد الإعلامي والديني، فإنّهم يقعون في أخطاء جسيمة؛ إذ يتحولون إلى متطرفين، ويصبح الصراع صراعاً بين التطرفات، وتكون الخيارات بين تطرف وآخر، ويستدرجون أنفسهم إلى معركة خاسرة مع جماعات متماسكة فكرياً، ومعبأة بالعقائد والمشاعر والعناد، في حين أنّ الأنظمة السياسية ومؤسساتها لا تملك الفاعلية نفسها في الأدوات والدوافع وقوة الحجة، والأسوأ من ذلك؛ أنّه لا فرق في المصادر الفكرية والفقهية بين الطرفين، ولا يعدو الخلاف الفكري والديني بين الطرفين أن يكون سوى خلاف على الفهم والتأويل والتطبيق، وقد لا يكون خلافاً.
إنّ المحافظة على الصراع في إطار القيم المتصارعة يبقي المجال مفتوحاً للجدل والحوار والقدرة على التغيير
إنّ مبتدأ الخلاف والصراع هو في سؤال واحد وإجابتين أو أكثر، وبذلك؛ فإنّ الحكمة مستمدة من عدم اليقين؛ وهذا ما يجعلها في بنيتها وجوهرها هشّة وقابلة للتغير والمراجعة، وتقابلها لدى جماعات الاستبداد والتطرف، إجابة حاضرة قوية متماسكة، ومدعومة بقوة الحجة والتنظيرات الفكرية والفلسفية والتحليلات السياسية، والسؤال ببساطة هو: ما الحقّ والصواب والجمال؟ في طريق الحكمة، يحوّر السؤال إلى: كيف نقترب من الصواب والجمال؟ بمعنى أنّه غير موجود أو لا يكاد يكون موجوداً، وإنما ننشئه أكثر مما نكتشفه، أو هو صواب يظل نسبياً وغير يقيني.
وفي السياسة والأيديولوجيا؛ فإنّ الصواب موجود، ولا نحتاج سوى لاكتشافه ومعرفته؛ ليس من مشكلة سوى نقص المعرفة! وفي ذلك أيضاً كثير من القدرة الحجاجية والديناميكية في البحث عن الأدلة والشواهد، التي كثيراً ما تكون صحيحة أو متماسكة، ويشغل بها عقل مغامر من فلاسفة وعلماء وباحثين ومحللين وخبراء وإعلاميين، يملكون فائضاً من المعلومات والأخبار والمعرفة.
اقرأ أيضاً: عملية عسيرة ـ مكافحة التطرف داخل السجون الألمانية
ولشديد الأسف؛ فإنّ الحكمة بما هي عدم اليقين، تبدو ضعيفة مترددة؛ فالنزاهة تقوم على عدم اليقين، والسلوك الثاني يقيني أشدّ تماسكاً وصلابة وقوة، وأكثر جلداً وعناداً وثقة؛ لذلك، فإنّ الذين يجيبون أكثر تأثيراً وحضوراً من الذين يتساءلون.
الصواب لا يُعرف ولا يتشكل بقوة الحجج إذ يستطيع كلّ شخص أن يجد أدلة صحيحة ومقنعة لدعم موقفه أو فكرته
الصواب لا يُعرف ولا يتشكل بقوة الحجج؛ إذ يستطيع كلّ شخص ملتزم مسبقاً بموقف أو فكرة أن يجد أدلة صحيحة ومقنعة لدعم موقفه أو فكرته ومعتقداته، لكن تقدير الخطأ أو الصواب، والقبيح أو الحسن، مستقل عن الاعتقاد المسبق، والحكمة والتقدم نحو الصواب مرتبطان بحتمية نقص المعرفة، وبذلك؛ فإنّ الأفكار والمعتقدات يجب أن تظل مستقلة عن الهوية الفردية أو الجمعية؛ ليست جزءاً منّا، أو تشكل انتماءنا، مثل الحياة والأمكنة والمدن والمصالح، والجدل في حقيقته وجوهره ليس مجرداً أو مستقلاً حول الأفكار والمعتقدات؛ صوابها أو خطئها، الدفاع عنها أو مهاجمتها، الإيمان بها أو التخلي عنها، لكنّه في تحسين حياة الناس بما هي، أساساً، تقوم على الحرية والعدل والاحتياجات والأولويات الأساسية، ثم الارتقاء بها على نحو متواصل يجعلها متجددة ومتعاظمة.
اقرأ أيضاً: "الإسلام السياسي بين الأصوليين والعلمانيين".. التطرف الديني إلى أين؟
وبما أننا لا نعرف، أو لسنا متأكدين، بالنسبة إلى ما هو أفضل أو أكثر صواباً، فلا نملك سوى تهذيب مشاعرنا ومواقفنا من الكراهية والاشمئزاز، أو الشعور بالتميز والأفضلية، وليس لدينا سوى ذلك طريقاً لتسوية الصراع أو إدارته، أو محاولة تحسين الحياة، أو الاقتراب من الصواب ومراجعة ما لدينا، ولأجل ذلك، فقد غلب على الصراعات والحروب فرص التسوية والمصالحات، اعتقاداً بأنّ أحداً (أو جماعة) لا يستغني عن الآخر، أو قد يحتاج إليه، وقد يؤمن بمقولاته وأفكاره.