بايدن في المنطقة: السعودية والنفط أولوية واشنطن

بايدن في المنطقة: السعودية والنفط أولوية واشنطن


14/07/2022

محمد قواص

لا يمكن لمقال الرئيس الأمريكي جو بايدن في الـ"واشنطن بوست"، بالذات، أن يزيل بسهولة كمّ المواقف التي أطلقها ضد السعودية منذ أن كان مرشحاً للفوز بمنصبه، لا سيما الوعد بأن تكون بلداً منبوذاً. يجهد بايدن للانقلاب على نفسه وشرح الأسباب التي تدعوه الى زيارة السعودية وتفسيرها، ويحاول في نصّه الجديد إقناع الرياض بصدقية نواياه لفتح صفحة جديدة، ويحاول في الوقت نفسه إقناع الرأي العام الأمريكي بنجاعة هذا التحوّل.

أعاد بايدن في مقاله اكتشاف السعودية حليفاً لبلاده منذ 80 عاماً، وأقرّ في سطوره بالجهود التي بذلتها الرياض لجلب الأمن والاستقرار ورفع مستويات التعاون الإقليمي في ملفات ساخنة. والرجل في تناوله قضايا المنطقة، من العراق إلى اليمن مروراً بسوريا وفلسطين ولبنان وإسرائيل، يعترف بمكانة السعودية وموقعها كما دورها في بلورة أي شرق أوسط جديد تسعى واشنطن للاهتداء إليه داخل التحولات الدولية الجديدة التي أفرزتها الحرب في أوكرانيا.

ومع ذلك فإن الرياض وعواصم العالم أخذت علماً بالشكل الذي أراد بايدن الإعراب فيه عن "ندم" على مواقف و"مراجعة" لسياسات اقترفتها الإدارات الديموقراطية، وخصوصاً منذ عهد باراك أوباما. لكن كل هذه العواصم غير مؤمنة بصدقية بايدن وإدارته في "الصحوة" الجديدة التي تحاول واشنطن تسويقها لدى بلدان الشرق الأوسط وبيع منتجاتها.

قبل أسابيع من مقال الـ"واشنطن بوست"، خرج بايدن في 27 حزيران (يونيو) بتصريحات يؤكد فيها أنه ليس ذاهباً إلى السعودية من أجل مناقشة مسائل الطاقة، بل هو يزور المملكة لحضور "اجتماع دولي كبير". لا أحد في الولايات المتحدة صدّق ذلك، ولا أحد في السعودية والمنطقة آمن بتلك المزاعم. صحيح أن لمسألة الاتفاق النووي مع إيران حاجات باتت ملحة مناقشتها مع بلدان المنطقة. وصحيح أن بايدن يسعى الى المزايدة على سلفه دونالد ترامب في الإدلاء بدلوه بشأن تشجيع علاقات إسرائيل بدول المنطقة، لكن أمر الطاقة محفّز أولوي لتلك التحوّلات التي طرأت على واشنطن في معاملتها للشرق الأوسط عموماً والسعودية خصوصاً.

تعرف الرياض ذلك جيداً ولا يضيرها الأمر. لا بل إن ما صدر عن السعودية والإمارات بشأن الموقف من الطلب الأميركي زيادة معروضهما النفطي يصبّ داخل هذه المعرفة وهذا الإدراك. تمسكت الدولتان باتفاقيات "أوبك +" والتزمتا عدم اختراق الحصص المتفق عليها. ينطوي هذا الموقف على وعي للقيمة الجيوستراتيجية للنفط المنتج في الخليج، كما مكانته في سوق الطاقة الدولي، ويقوم الموقف على رصانة في الالتزام بالاتفاقات من جهة، وعلى حرص على استثمار ثروات الطاقة في السياسة الخارجية لإحداث التحولات لمصلحة المنطقة وعدم المساومة بها إلا دفاعاً عن مصالح منتجيها.

أمام الحزب الديموقراطي انتخابات نصفية مفصلية في الخريف المقبل قد تطيح التوازنات داخل الكونغرس. وأمام بايدن نفسه ورشة عمل كبرى من أجل خفض أسعار الطاقة في بلاده التي يثير ارتفاعها غضب الأميركيين، ما يرفع من مستوى الامتعاض العام الذي سيجد له صدى في صناديق الاقتراع. لكن أمام الرئيس الأميركي مهمة دولية عاجلة من أجل تأمين وفورات من الطاقة في العالم، لا سيما لمصلحة الحلفاء، وبخاصة في أوروبا، تكون بديلاً من الطاقة الواردة من روسيا.

وسواء داخل الأجندة البيتية أم في قلب المعركة الدولية الكبرى التي تخوضها واشنطن ضد موسكو، فإن أمر الطاقة ومناقشته مع الرياض ليس أمراً هامشياً على النحو الذي أراد بايدن الترويج له. ومن راقب جيداً مشهد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يهرول، على هامش قمة الدول السبع الأخيرة وراء نظيره الأميركي لإخباره عن فحوى تواصله مع الشيخ محمد بن زايد رئيس دولة الإمارات، يستنتج الهمّ المشترك لزعماء المجموعة، وتطرق ماكرون اليائس الى الهامش الذي لا يزال من الممكن للسعودية أن توفّره للسوق النفطي، ما استبطن حثّاً لبايدن لمناقشة ذلك في الزيارة التي يعوّل عليها المجتمعون.

صدق بايدن في اختيار عنوان مقاله: "لماذا أنا ذاهب للسعودية؟"، لأن الرجل يأتي إلى المنطقة من أجل زيارة السعودية. 

لا تغيّب محطاته الأخرى في إسرائيل وفلسطين، كما حضوره "اجتماعاً دولياً كبيراً"، حقيقة أن رجل أميركا يأتي للقاء العاهل السعودي ووليّ عهده. تحتاج واشنطن إلى إصلاح ما أفسده خطاب بايدن المستهتر ببديهيات العلاقات الدولية. وتحتاج الولايات المتحدة إلى إعادة رسم سياساتها في كل المنطقة بالتعاون مع الحلفاء التاريخيين لا سيما السعودية. ويحتاج الرئيس الأمريكي الى الحديث مع السعودية وحلفائها، الخليجيين خصوصاً، حول مستقبل سوق الطاقة، داخل المشهد الدولي.

أعادت حرب أوكرانيا وتداعياتها الاعتبار للطاقة الأحفورية التي شُنّت عليها الحملات داخل العالم الغربي في العقود الأخيرة. ارتفع انتاج الولايات المتحدة من النفط الصخري الذي يعتبر أكثر عداء للبيئة وضرراً للطبيعة من النفط الأحفوري. راحت بلدان أوروبا باتجاه الطاقة البديلة والنظيفة والخضراء وتقاعست مصادر التمويل عن الاستثمار داخل قطاع الطاقة الأحفورية في العالم، والخليج طبعاً. 

فجأة يدفع العالم ثمن تلك "الحماقة". كانت فرنسا سبّاقة وقبل اندلاع أزمة أوكرانيا في إعادة تفعيل قطاع الطاقة النووية، فيما اضطرت ألمانيا إلى العودة إلى الفحم الحجري لانتاج الطاقة لديها، وأدركت بلدان أخرى هراء الاستغناء عن الطاقة الأحفورية المتوافرة والرهان على طاقة بديلة لا يمكنها الردّ على الكارثة الداهمة التي أصابت سوق الطاقة.

يحتاج العالم إلى مقاربة جدية ذات صدقية لشؤون الطاقة في العالم. يهمّ السعودية والدول المنتجة فتح نقاش صريح وشفاف مع كل المستهلكين بما في ذلك الولايات المتحدة، ليس فقط بشأن أسعار النفط ومستويات الانتاج، بل بشأن مستقبل صناعة النفط في العالم. يهم الدول المنتجة أيضاً التحكم بالأسعار والسيطرة على ارتفاعها ليس فقط كرمى لعيون الحلفاء المستيقظين، بل حماية للسلعة من منافسة صخرية أو بديلة لطالما استفاد تطويرها من ارتفاع أسعار النفط التقليدي. وهذا يعني أن ارتفاع الأسعار لا يأتي من المصدر فقط، بل من "شيطنة" للهيدروكربونات لدى الدول الغربية أباحت فرض الضرائب العالية على الكربون التي ترفع بشكل مبالغ به فاتورة الفرد المستهلك وتُضخّم استياءه ناخباً.

تعي السعودية وحلفاؤها المكانة الجيوستراتيجية التي تمتلكها دول الانتاج. أحدثت "الصدمة النفطية" عام 1973 تحولاً في أسواق النفط وأسعاره. وتُحدث الصدمة الحالية تحولات كبرى في خرائط ترتيب علاقة الرياض مع العالم. تعجّل تلك الصدمة في معالجة التوتر في علاقات واشنطن مع السعودية وإعادة تصويبها وفق قواعد لن تعود أبداً إلى سابق عهدها. وإذا ما عادت الطاقة من الخليج عصب الاقتصاد الدولي، فإن أمن المنطقة بات من شروط عافية هذا الاقتصاد. أمر بدا أن واشنطن بدأت تُظهر أعراض استيعابه من جديد.

عن "النهار" العربي



انشر مقالك

لإرسال مقال للنشر في حفريات اضغط هنا سياسة استقبال المساهمات
الصفحة الرئيسية