
منذ اندلاع موجة ما عُرف بـ "الربيع العربي" في تونس، برزت حركة (النهضة) "فرع إخوان تونس" باعتبارها فاعلاً رئيسياً في الحياة السياسية والمجال العام. كما رافق صعودها اتهامات جمّة حول تورطها في شبكات تسفير الشباب التونسي إلى بؤر التوتر، خاصة سوريا والعراق، وذلك ضمن اتهامات عديدة تتعلق بالإهاب. وقد عادت هذه القضية إلى الظهور مع الأحكام القضائية، مؤخراً، التي صدرت بحقّ المتورطين بمدد تتراوح بين (18و36) عاماً.
اللافت أنّ قضية التسفير لم تكن عشوائية، أو نتيجة فراغ سياسي وأمني، وإنّما هي عملية منظمة، وقد تمّت في سياق سياسي وإقليمي، سمح بتغلغل الجهاديين داخل المجتمع التونسي عبر المساجد والجمعيات الخيرية التي نشطت في فترة حكم الترويكا بقيادة حرمة (النهضة) في العشرية السوداء.
حركة النهضة وتجنيد الشباب
انخرطت رموز حركة (النهضة)، ومنهم: الحبيب اللوز، والصادق شورو، وعبد الكريم الهاروني، في التحريض أو التواطؤ المشبوه لصالح عمليات استقطاب الشباب وتسهيل مرورهم عبر المطارات والنقاط الحدودية. وكان استغلال الحركة في مرحلة التمكين السياسي، وانفرادها بالسلطة، لمؤسسات الدولة المختلفة، أمراً واضحاً، لجهة تنفيذ أجندتها السياسية والأمنية وتحقيق فوائد إقليمية جراء توظيف ورقة الجهاديين وتوطينهم في بؤر التوتر. إذ وفرت النهضة، عبر هيمنتها على وزارتي الداخلية والشؤون الدينية في فترات متفاوتة، مناخات طائفية ودينية متشددة بحمولة إيديولوجية، ترتب عليها تمدد التيارات السلفية الجهادية التي وجدت في الفوضى السياسية والسيولة الأمنية، آنذاك، بيئة حاضنة لأفكارها.
وفي حديثه لـ (حفريات) يقول الباحث التونسي المختص في الشؤون السياسية والإقليمية حازم القصوري: إنّ اضطلاع القضاء التونسي بمهمة محاسبة ومساءلة المتورطين في تسفير الشباب لبؤر التوتر، هو استعادة لمفهوم الوطنية وسيادة الدولة، بعد محاولة توظيف كل منهما لخدمة أجندة إيديولوجية تخريبية، ولحساب فئة لها مصالح غير وطنية تتعلق بمفاهيمها "العقائدية الإخوانية، مثل الأممية الإسلامية، ومصالحها مع أجندة إقليمية لا تضع في حساباتها سوى تمكين جماعات الإسلام السياسي، وتنحية أيّ اعتبارات تخص المصلحة الوطنية". وعرّج القصوري بإشارة لافتة على الوضع في الأردن الذي ذهب إلى حظر الإخوان بعد محاولات مماثلة لإضعاف وتقويض الدولة، وتهديد سلامتها، مؤكداً أنّ "القانون والأحكام القضائية لهما الاعتبار الأساسي في تحقيق العدالة".
ويقول القصوري: "إنّ محاسبة المتورطين في تسفير الشباب ليست فقط مسألة جنائية، بل هي ركيزة أساسية لاستعادة هيبة الدولة ومفاهيم السيادة الوطنية. فالإفلات من العقاب في مثل هذه القضايا الخطيرة يبعث برسالة مفادها أنّ بعض القوى السياسية، ربما، فوق القانون، ويعزز من ثقافة التواطؤ السياسي والأمني". فالقضاء يقع على عاتقه مهمة قصوى في أن يكون أداة "لاستعادة الثقة في مؤسسات الدولة، لا سيّما بعد أن تكشفت خيوط عدة في ملفات التسفير تؤكد وجود دعم لوجستي ومالي من داخل تونس نفذته حركة (النهضة)، ممّا يعني أنّ الأمر لم يكن تصرفاً فردياً أو معزولاً، بل كان جزءاً من شبكة أوسع ذات امتدادات إقليمية. ومن هنا، فإنّ محاسبة كل من تورط، سواء عبر الصمت أو التسهيل أو التمويل، يجب أن تتم بشفافية وصرامة لتحقيق العدالة".
الدولة مجرد أداة ظرفية
ويشير الباحث التونسي إلى أنّ الحركة الإسلاموية في تونس، وهي امتداد لجماعة الإخوان، ترى في الدولة مجرد "أداة ظرفية في إطار مشروع أممي أوسع"، وذلك ما يمكن ملاحظته في فترة حكم الترويكا بالعشرية السوداء، وما رافقها من حوادث؛ مثل تسفير الشباب إلى بؤر التوتر والالتحاق بالتنظيمات الإرهابية وتنامي خطاب عنيف متشدد دينياً، ووقوع حوادث اغتيال كالتي جرت بحق القياديين اليساريين شكري بلعيد ومحمد البراهمي، واحتدام الانقسام والاستقطاب بين مؤسسات الدولة كما حدث بين البرلمان والرئاسة قبل تمكن الرئيس قيس سعيد من ردم الهوة، ووقف هذا الاستنزاف من خلال قراراته في تموز (يوليو) 2021، والبدء في مسار آخر مغاير يحافظ على الدولة بمفهومها المدني الحديث، وهويتها الوطنية، والاستدارة لمحاسبة الأطراف المتورطة في جرائم مختلفة أمنية أو سياسية أو شبهات فساد مالي.
ويقول: إنّ "الخطاب العقائدي لحركة (النهضة)، بوصفها فرعاً من فروع جماعة الإخوان، يشير إلى أنّها لا تضع مفاهيم السيادة الوطنية في صدارة أولوياتها. فالحسابات الطائفية والولاءات الإيديولوجية الأممية تظل أكثر حضوراً في فكرها السياسي، وتنعكس على مواقفها وتحالفاتها الإقليمية".
وقد أظهرت تجربة الحكم في العشرية السوداء أنّ الحركة الإسلاموية تتعامل مع تونس كمنصة ضمن مشروعها الإيديولوجي، وللتخادم السياسي والإقليمي الذي يسهل من وتيرة التغييرات الجيوسياسية بالمنطقة في فترة ما بعد الربيع العربي.
بالتالي، فإنّ تسفير الشباب إلى بؤر التوتر ليس حدثاً عرضياً، ففي الفترة بين عامي 2011 و2014 تم تسجيل أعلى نسب تسفير للشباب التونسي إلى بؤر التوتر، خصوصاً في سوريا التي وقعت في دوامة حرب أهلية عنيفة. وبعض المصادر تؤشر إلى أنّ الأرقام تتراوح بين (6) آلاف إلى (9) آلاف شخص، بما يجعل تونس واحدة من أكثر الدول المصدّرة للمقاتلين الأجانب.
في عهد حركة (النهضة) خرجت مئات المساجد عن إشراف وزارة الشؤون الدينية. وبالتبعية تمكنت جماعات متشددة، مثل "أنصار الشريعة"، من الاستحواذ على هذه المساجد وتعبئة خطاب تحريضي لـ "الجهاد". وفي هذا الوضع لم يكن مباغتاً ظهور متفجرات في المساجد، كما حدث في مسجد الغفران بحي الانطلاقة في تونس عام 2019.
أحكام قضائية مشددة
وإلى ذلك، أصدرت محكمة تونسية يوم الجمعة الماضي أحكاماً مشددة بحق عناصر بتنظيم الإخوان في قضية "تسفير الإرهابيين إلى بؤر التوتر"، تراوحت بين (18 و36) عاماً. وحكمت المحكمة بالسجن (34) عاماً على نائب رئيس حركة النهضة الإخوانية علي العريض، و(36) عاماً على القيادي الإخواني نور الدين قندوز، وقضت بالسجن (26) عاماً على المسؤولَين الأمنيين المنتميين لجماعة الإخوان، عبد الكريم العبيدي وفتحي البلدي.
وأُدين أيضاً قياديو تنظيم "أنصار الشريعة"، وهم هشام السعدي (36) عاماً، ولطفي الهمامي (28) عاماً، وسيف الدين الرايس (24) عاماً، وسامي الشعار (18) عاماً. وانتهت هيئة الدائرة الجنائية المختصة بالنظر في قضايا الإرهاب بالمحكمة الابتدائية، فجر الأربعاء، وفي حدود الساعة الرابعة والنصف صباحاً بالتوقيت المحلي، من سماع مرافعات المحامين (المداولات) عن المتهمين في ملف التسفير، والتي دامت أكثر من (18) ساعة.
ويقول رئيس حزب التحالف من أجل تونس سرحان الناصري: "لطالما دعونا السلطة القضائية إلى البتّ في حيثيات هذه القضيّة واستكمال التحقيقات اللازمة حتّى نتمكّن من معرفة الحقيقة التي حاولت حركة (النهضة) الإخوانية ومن تحالف معها من تجّار الرأي، خاصة من جبهة الخلاص وغيرهم ممّن امتهنوا العمالة والخيانة في المشهد والواقع السياسي التونسي، إخفاءها عن الرأي العام والتستر عليها".
ويردف الناصري لـ (حفريات): "اليوم وقد أصدرت المحكمة حكمها على المتهمين في قضية تسفير شباب تونس من الطبقات المهمّشة إلى بؤر التوتّر وإلقائهم في غياهب الإرهاب خدمة لمصالح الإخوان الإجراميّة، لا يمكن أن نتغاضى عن أنّ أبناء قياديي حركة (النهضة) الإخوانية ينعمون بالعيش الكريم والبذخ في بريطانيا وتركيا وقطر. نحن اليوم نشكر السلطة القضائيّة على الأحكام الصادرة في حق هؤلاء ممّن أجرموا في حق الدولة والشعب التونسي".