"القاهرة كابول".. بين عبد الرحيم كمال وتامر مرسي

"القاهرة كابول".. بين عبد الرحيم كمال وتامر مرسي


17/05/2021

عمرو فاروق

طرحت رمزية "القاهرة كابول"، التي صاغ روايتها الدرامية الكاتب عبد الرحيم كمال، وأخرجها حسام علي، وأنتجها تامر مرسي، رؤية أبعد ما تكون عن واقع التاريخ الحركي والتنظيمي للجماعة الأصولية المتنوعة، فضلاً عن أن المقاربة الفكرية التي اعتمدتها في معالجة منهجية حالة الشطط الأيديولوجي لتلك المكوّنات المتطرفة، لم تضع يدها بفاعلية أو حقيقةً على الإشكاليات والقضايا المحورية التي تتبناها.

خرجت الخطوط الدرامية لرمزية "القاهرة كابول"، عن الخطوط التاريخية الواقعية المتعايشة للتنظيمات التكفيرية في جبال "تورا بورا"، خلال تسعينات القرن الماضي، متجاهلة الكثير من الحوادث التي لا يمكن تغافلها نهائياً، كونها تركت بصماتها الدموية في ذاكرة الأمة العربية.

تغافلت الرواية الدرامية عن المساحة الواقعية لمعسكرات الجهاد الأفغاني ومكوّناته التي انطلقت منها في ما بعد حركة "طالبان"، وتنظيم "القاعدة"، انتهاءً بتنظيم "داعش"، ولم تأت معبرة عن الحالة السلوكية والنفسية المحددة لملامح حياة صانعي ما يُعرف بـ"الجهاد العالمي"، أو "الإرهاب العابر للحدود"، الذين توافدوا من خلفيات متنوعة ومتعددة ثقافياً واجتماعياً وسياسياً، جمعت بينهم محاور فكرية متشددة.

سقوط المؤلف في فخ الخيال والتلقين الخطابي الصوفي في ظل اختياره مرحلة زمنية متشبعة بواقع تاريخي، مكتظ بمحطات في مسارات تيارات الإسلام الحركي، لا يعفي القائمين على الشركة "المتحدة للخدمات الإعلامية"، وشركة "سينرجي" وصاحبها المنتح تامر مرسي، من المسؤولية في ظل اتجاه الدولة المصرية لتوظيف الدراما الواقعية، مثل مسلسل "الاختيار"، و"هجمة مرتدة"، وتحويلها مرتكزاً فاعلاً في قضية معركة الوعي، ومخاطبة العقل الجمعي للمجتمع، وصناعة ما يعرف بـ"الحماية الفكرية".

كما لا يعفيهم جميعاً من تجاهل استثمار القضايا التي باشرتها قيادات جهاز الأمن الوطني (أمن الدولة سابقاً)، في ما يخص ملف تيارات السلفية الجهادية المتمثلة في قضايا "العائدون من أفغانستان" و"العائدون من ألبانيا"، و"العائدون من السودان"، وعدم مراجعة أي من العقول الأمنية التي تابعت ملف القيادات الأصولية الهاربة للخارج، ودورها في نشر الفكر التكفيري، ومسؤوليتها عن العمليات المسلحة في الشارع المصري.

ما قدمه كل من المؤلف عبد الرحيم كمال والمنتج تامر مرسي، يمثل مسخاً من الواقع، فلم يرق في ذاته الى أن يكون في مصاف الرمزية التاريخية للحوادث الدولية والعالمية المتعلقة بالجماعات الأصولية المسلحة، ولم يأت على قدر الحدث المحلي المصري، حاملاً وكاشفاً تفاصيل السجلات الدموية لمكوّنات الإسلام السياسي الحركي. 

فلا يمكن الحديث عن مسيرة الإرهاب القاعدي الأفغاني من دون التطرق الى مؤسسيه ورموزه الحقيقيين الذين صنعوا مشاهد التطرف العالمي، وتأثيره في جنبات الشعوب والمجتمعات العربية والغربية، فضلاً عن النشأة الفكرية الأولى للجماعات الأصولية الدموية، ومساراتها ووسائلها للتغلغل في الأوساط الشعبية والنخبوية، ومساعيها للسيطرة على مآلات المشهد الديني والسياسي والاجتماعي في عمق المجتمع المصري والعربي.  

برغم اتساع القماشة الدرامية لرمزية "القاهرة كابول"، فإنها لم تقدّم أي دليل واضح بين حبكتها وخيوطها الفنية عن دور جماعة الإخوان المسلمين في صناعة الإرهاب العالمي، وتمويل معسكرات الجهاد الأفغاني، وروافده في الشيشان والبوسنة والهرسك، عبر غطاء حقوقي مدني مثلته "منظمة الإغاثة الإسلامية" التي لعبت دوراً في السيطرة على كعكة الزكاة والتبرعات في أوروبا، الى جانب تموضعها في العمق العربي. 

الكثير من صانعي الإرهاب العالمي، خرجوا من عباءة الإخوان وتشربوا منهجيتها القطبية، التي أنتجت أطروحات "التوقف والتبين"، و"التكفير والهجرة"، و"العصبة المؤمنة"، و"الاستعلاء الإيماني"، الى جانب تأصليها وتأسيسها لنظريات الإسلام الحركي، من "الحاكمية" و"جاهلية المجتمع" و"القوة الفاعلة"، ابتداءً من عبد الله عزام، وأيمن الظواهري، وأسامة بن دلان، وسيف الإسلام خطاب، وعبد الرسول سياف، وأبو عبيدة البنشيري، وأبو محمد المصري، وأبو مصعب الزرقاوي، وأبو حمزة المصري، ويوسف العييري، ومحمد خليل الحكايمة، وغيرهم من دعاة التكفير والعنف المسلح.

لم تكن جماعة الإخوان بعيدة عن المشهد الأفغاني عندما أصدر الإخواني عبد الله عزام، عام 1983 فتواه الشهيرة حول فرضية الجهاد الأفغاني، وأنه واجب عيني على كل مسلم، بل تحولت المؤسسات والجمعيات الإخوانية وسيلة رئيسية لشحن المجاهدين العرب إلى كابول.

في سرديتها الوصفية والأدبية، لم تتطرق رمزية "القاهرة كابول"، إلى عولمة الفكرة الجهادية، وبروز "الأممية الإسلامية"، والإسلام الحركي العالمي، كاستراتيجية مناهضة للقوميات الوطنية، والتي خرج من رحمها تنظيم "القاعدة"، عام 1989، ليكون بمثابة النواة الأساسية لجيش مسلح يعبّر عن مشروع التيار القطبي البناوي، ولم تلق الضوء على حالة التماهي والتشابك بينه وبين تنظيم الجهاد، والجماعة الإسلامية في مصر، والتي كانت سبباً في إشعال موجة العنف المسلح، بمشاهد تركت أثراً بالغاً في وجدان الأمة المصرية وثقافتها.

لم يدرك صانعو رمزية "القاهرة كابول"، في روايتهم التي صاغوا حوادثها، أنهم سقطوا في إشكالية "البيعة"، إذ إن جميع كيانات الإسلام الحركي، ابتداءً من جماعة الإخوان، وتنظيمات الجهاد والجماعة الإسلامية، وتنظيم "القاعدة"، وصولاً الى "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق" الذي أسسه أبو مصعب الزرقاوي، ومن بعده أبو حمزة المهاجر، وأبو عمر البغدادي، لم تبايع أميرها "بيعة الخلافة"، لكنها "بيعة الزعامة"، وبينهما مساحة واسعة من الاختلاف على المستوى الفقهي والفكري.

ولم يخرج عن السياق سوى المشروع الداعشي، بانتقاله من خانة التنظيم إلى خانة الدولة في حزيران (يونيو) 2014، ومن ثم كانت البيعة المأخوذة "بيعة الخليفة"، لا "بيعة الأمير"، لأسباب كثيرة، منها سيطرة طموح الهيمنة المطلقة على شخصية أبي بكر البغدادي، ورغبته في احتكار الساحة الجهادية، والقضاء على "أبويّة" أسامة بن لادن، في أوساط المرجعيات والنسخ القاعدية. 

امتلأت المساحة الزمنية والجغرافية بين القاهرة وكابول في تسعينات القرن الماضي، بالكثير من الحقائق والحوادث التي وُثّقت في دفاتر الأجهزة الأمنية المصرية والعربية، ونفذت غالبيتها في عمق الدولة المصرية باستهداف رموزها السياسيين والأمنيين، مثل محاولة اغتيال وزير الداخلية زكي بدر، في كانون الأول (ديسمبر) 1989، ومحاولة اغتيال وزير الداخلية، اللواء عبد الحليم موسى، في تشرين الأول (أكتوبر) 1990، ولقي فيها مصرعه رئيس مجلس الشعب الدكتور رفعت المحجوب، ومحاولة اغتيال وزير الداخلية حسن الألفي، في نيسان (أبريل) 1993.

وتعرض رئيس الوزراء الأسبق عاطف صدقي، في تشرين الثاني (نوفمبر) 1993، لمحاولة اغتيال بسيارة مفخخة على أيدي مجموعة من تنظيم الجهاد، وفي 17 تشرين الثاني 1997، نفذت عملية إرهابية بمنطقة الدير البحري في محافظة الأقصر، راح ضحيتها 62 سائحاً من جنسيات مختلفة. 

ولم يسلم الرئيس حسني مبارك من محاولات الاغتيال، وأبرزها تفجير طريق الساحل الغربي أثناء توجهه لزيارة ليبيا براً في كانون الأول 1993، على يد الجماعة الإسلامية، وعام 1994، اعتُقل نحو 30 من أعضاء تنظيم الجهاد، أثناء حفرهم نفقاً بالقرب من طريق صلاح سالم في القاهرة، بهدف تفجير موكبه، فضلاً عن اعتراض مسلحين أصوليين موكبه في أديس أبابا في حزيران (يونيو) 1995. 

سعت رمزية "القاهرة كابول"، لإبراز عملية التجنيد الفكري والأيديولوجي، التي تتم بين الفئات العمرية المختلفة، منها محاولة استقطاب الطفل "رمزي" على يد إحدى المرجعيات الأصولية، وفقاً لما يعرف بـ"استراتيجية العقول البيضاء"، مستخدماً طريقة التلقين والاحتكاك المباشر لتزييف الوعي في سن مبكرة، وبيان الحالة التي يتغير فيها الجانب الاعتقادي والسلوكي لدى الشخص منذ نعومة أظافره، من دون قدرته على المناقشة لمعانٍ تصوغ رؤيته ووجدانه، وتدفع به ليكون عموداً في مكوّنات الإسلام السياسي.

لكنها سقطت في إشكالية تجنيد القطاع الشبابي في مجمله، برغم اختلاف الوسائل المتبعة وتنوعها من جماعة الى أخرى، والتي قصرتها الرواية الدرامية داخل مقهي شعبي (برغم وجود موقف شرعي منها)، متغافلة ساحات المساجد والجامعات، والمدارس التعليمية والأندية الرياضية والنقابات المهنية، والتي كانت بمثابة الوسائل الفاعلة في طرق الاستقطاب والتأهيل الفكري في تلك المرحلة الزمنية تحديداً. 

كما أن الكثير من الكيانات الأصولية تضع عدداً من الشروط التي يجب توافرها في العناصر المراد استقطابها من خلال عملية التأثير الفكري والسلوكي، وفق ما يعرف بـ"مراحل الدعوة الفردية"، والتي أفردت لها جماعات الإسلام الحركي فصولاً مطوّلة ضمن كتبها وبرامجها التأهيلية، وشملت 7 مراحل تبدأ بالتعارف والتقارب وتنتهي بضروة العمل الجماعي، انطلاقاً إلى فرضية الانتماء التنظيمي. وليس حصرها كما فعل صُنّاع العمل الفني في نشر كتاب "معالم في الطريق" لسيد قطب، والذي يعدّ أحد المناهج الفكرية والثقاقية لـ"تصعيد الفرد تدريجياً" داخل إطار داخل الهيكل التنظيمي، فضلاً عن قصره على مستويات محددة، ما يعني أنه لا يعتبر إحدى أداوت ووسائل الاستقطاب والتجنيد الفكري، مثلما زعم القائمون على رمزية "القاهرة كابول".

أتفق تماماً مع المذهب الرائج والسائد بأن الأعمال الدرامية لا تعدّ في مجملها مصدراً حقيقياً للوقائع والحوادث التاريخية، لكنها بلا شك في زمن الرقمنة الوثائقية الحديثة، تحوّلت سجلاً يمكنه كتابة التاريخ وصوغه بحقائقه المتناهية، وترسيخه في مخيلة المئات من الأجيال الجديدة ووجدانها والتي تلاعب بمنطقيتها وعذوبيتها الفكرية ممثلو التنظيمات الأصولية. 

قدمت رمزية "القاهرة كابول"، في حالة تعمدية تشويهاً صريحاً لشخصية الصحافي والإعلامي، بإطلاقها وقصرها في مساحة الانتهازية والتسلق والتملق وشهوة المال، من دون إبراز أي جوانب إيجابية وحقيقية أو فاعلة لصُناع الحالة الخبرية والصحافية ضمن الحبكة الدرامية الواسعة التي صاغت خيوطها الرواية الفنية، مرسّخة في العقل الجمعي صوراً سلبية للعاملين في بلاط "صاحبة الجلالة"، (حتى ولو على سبيل الاستشهاد)، والتي تقلّد مهامها قامات من النخب السياسية الثقافية على مدار التاريخ.

فليس كل العاملين والمؤثرين في مهنة الإعلام والصحافة تمثلهم بالطبع شخصية طارق كساب، التي جسدها الفنان فتحي عبد الوهاب، (مستلهماً جوانبها من الإعلامي يسري فودة)، أو شخصية محفوظ عجب، التي نحت ملامحها الفنان فاروق الفيشاوي في مسلسل "دموع صاحبة الجلالة" عام 1993.

فالكثير من أهل الصحافة والإعلام شاركوا فعلياً في صناعة القرار السياسي، لقربهم المباشر من دوائر الحكم، على مدار التاريخ الحديث والمعاصر للدولة المصرية، وساندوا ودعموا قيادتها ونخبتها السياسية، وقدموا الكثير من الرؤى التي ساهمت في اتخاذ العديد من القرارت المصيرية سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعسكرياً.

عن "النهار" العربي


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية