لم يكن ممكناً تكريس وسيادة التوحيد الديني إلا عندما نشأت الدولة المركزية المهيمنة، وقبل ذلك كان التوحيد الديني ديانة لفئة من الناس تتعايش مع مئات أديان أخرى، أو اتجاهات ووسائل العبادة في المكان الواحد، بدأ التوحيد يتحول إلى عمليات سياسية وتنظيمية محاولة في مصر الفرعونية، لكنها فشلت، وخرج الموحدون من مصر، الذين لم يكونوا إسرائيليين فقط، لكن كان معهم أيضاً مصريّون ومحتجون غاضبون وأناركيون، وظلّ التوحيد "الإسرائيلي" خياراً لفئة من الناس، يتعايش مع الديانات والاتجاهات الدينية الأخرى، حتى بنو إسرائيل أنفسهم انحازوا، وبسرعة، لتعدّد الآلهة، وتقول المصادر الإسرائيلية: إنّ سليمان نفسه كان يسجد لإله الآراميين بعل، ومن المؤكد أنّ أبناءه وأحفاده تحولوا إلى الآرامية، وعبادة بعل ورفاقه من الآلهة الأخرى، حتى أنّ الملك إيهاب، حفيد سليمان، أرسل جنوداً ليقتلوا النبي إلياس، الذي تصدى للتعددية، وكما في القرآن الكريم: ﴿وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ﴾، وفي المصادر الإسلامية والكتابية السابقة؛ فإنّ الله رفع إلياس إلى السماء، ولم يمكن جنود إيهاب من قتله، يقدر أن ذلك حدث في القرن التاسع قبل الميلاد.
بدأت موجة توحيد سلطوي وتنظيمي منتصف القرن الرابع الميلادي كان أبطالها المسيحيين المفوضين من الإمبراطورية البيزنطية
لكنّ عزرا (عزير)، العائد من النفي البابلي في القرن الخامس قبل الميلاد، مؤيداً بتفويض وقوة عسكرية فارسية مهيمنة، أنشأ نظاماً سياسياً قائماً على التوحيد، حتى أنّه طرد جميع الإسرائيليين من أورسالم، وجعلها حكراً على الموحدين العائدين من بابل؛ لأنه وجد قومه لا يعبدون الله وحده؛ بل إنهم نسوا العبرية، وكان في حاجة إلى مترجم ينقل مواعظه من العبرية إلى الآرامية التي سادت بين جميع الأمم في المنطقة.
فرض عزرا التوحيد بالقوة السياسية والإمبراطورية وخيّر جميع الناس في فلسطين وعمون ومؤاب وادوم والنبط وجلعاد والأردن (الأمم الكنعانية والآرامية في جنوب بلاد الشام) بين اعتناق اليهودية التوحيدية أو الخروج من المنطقة، وصار كثير من العمونيين والنبط والعرب اليهود ملوكاً في الدولة اليهودية، وهناك عدة أسر مالكة في التاريخ اليهودي تنتمي إلى الأدوميين والعرب والنبط والعمونيين. وظلّت المنطقة محظورة على غير اليهود حتى دخلت المنطقة في ظلّ الإمبراطورية المقدونية ثم البيزنطي، وقد طبّق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، بعد ألف عام، مبدأ الوحدة الدينية في الجزيرة العربية عملاً بالقاعدة أو الحديث: "لا يجتمع دينان في الجزيرة"، ومن الواضح أنّ حدود جزيرة العرب، كانت تنتهي عند تيماء التي أخرج اليهود إليها من خيبر، وقد بدأت بها أيضاً حروب الفتح في عهد أبي بكر، وكانت جزءاً من الشام البيزنطية، وكانت حتى نهاية الدولة العثمانية جزءاً من إمارة الكرك الشامية.
اقرأ أيضاً: هل يحتاج التيار التنويري إلى وقفة نقد ذاتي جريئة؟
وبدأت موجة توحيد سلطوي وتنظيمي في منتصف القرن الرابع الميلادي، كان أبطالها هذه المرة المسيحيين المفوضين من الإمبراطورية البيزنطية، ثم ورث العرب المسلمون الإمبراطورية البيزنطية في القرن السابع الميلادي، وتكرّس التوحيد الديني هوية مركزية للدول الإسلامية والمسيحية، وفي الدولة الحديثة الإسلامية والمسيحية نصّت الدساتير، في كثير منها، على الدين الرسمي للدولة، هكذا؛ فإنّ التوحيد تحوّل من دين خالص مستقل عن السلطة إلى خطاب سياسي وتنظيمي لا علاقة له بالدين والتوحيد.
اقرأ أيضاً: إستراتيجيات بناء الخطاب الديني: العدل ومعرفة مراد الله
ويمكن الملاحظة في القصص القرآني؛ كيف أنّ التعدد الديني هو ما حمى موسى من فرعون: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ﴾؛ فمن الواضح أنّ تياراً مؤثراً حول فرعون كان يمنعه من قتل موسى، وأنّ هذه الفكرة (القبول بالتعددية الدينية) على قدر من التأثير العميق لدرجة تجعل الكهنة والمستشارين يمنعون فرعون من قتل موسى، ذلك برغم جبروت وهيمنة فرعون، ويبدو أنّ جدلاً كان يدور في الطبقة الحاكمة، ولم يكن فرعون يملك السلطة الكافية لينفذ رأيه ويقتل موسى؛ فهو يطلب الموافقة!
ورث العرب المسلمون الإمبراطورية البيزنطية في القرن السابع الميلادي وتكرّس التوحيد الديني هوية مركزية للدول الإسلامية والمسيحية
وربما كان من أسباب عدم الموافقة على قتل موسى؛ الخوف من الإله الذي يدعو إلى عبادته، ما يعني أنّ التعددية الدينية كانت متقبلة، وأنّه كان ثمة اعتقاد سائد باحتمال صحتها أو ضرورة احترامها، وكان فرعون يريد خرق هذا التقليد الديني؛ لأنّه رأى في الدين الجديد أو التوحيد الذي يدعو إليه موسى، تهديداً دينياً، أو إفساداً في الأرض.
وقد يكون تبديل الدين الذي يخاف منه فرعون ليس المقصود به المعتقدات الدينية التي يؤمن بها فرعون وقومه، لكنّ الدين بمعنى العادات والتقاليد المتبعة؛ ففي التوحيد الذي يدعو إليه موسى تغيير ورفض للحريات الدينية وتعددها، الذي كان سائداً، ويسمح للناس أن يتدينوا كما يؤمنون، بلا تدخّل أو إجبار أو منع، وكان الملك يمثل رئاسة دينية أو مرجعية عامة لتنظيم العلاقة بين الأديان، لكنّ التوحيد كان يبدو تبديلاً لدور الملك في حماية الأديان وتنظيم العلاقة والسلام الديني؛ إذ إنّ التوحيد الذي كان يدعو إليه موسى (بخلاف إبراهيم الذي وإن كان موحداً؛ فقد قبل بالتعايش مع التعددية الدينية) يدعو إلى رفض التعددية الدينية؛ ودعوة الناس لدين واحد، ويعني أيضاً تقويض دور السلطة السياسية في تنظيم علاقات الناس وشؤونهم أو تغيير دور السلطة، ليكون إدارة دينية على أساس دين واحد، ولا يقبل من الناس سواه؛ وقد تكرر هذا الجدل والمشهد في الإمبراطورية البيزنطية؛ فقد كان الإمبراطور يرى نفسه رئيساً لكلّ الأديان المتبعة وحكماً ومرجعاً، وفي تصوّره هذا لدوره؛ فقد حاول أن يحكم في الخلاف الديني الذي نشب بين أتباع المسيحية أنفسهم، أو في الخلاف بين المسيحيين والأديان الأخرى، التي كانت سائدة أو متبعة.