التعددية.. نعمة أم نقمة؟

التعددية.. نعمة أم نقمة؟


26/01/2019

في إحدى الحلقات التي ظهر فيها المفكر محمد شحرور في قناة "فرانس 24" قبل عامين ونيّف، كانت اللفتة البارعة من المفكر السوري في قراءته لتاريخ الرسول، عليه السلام، عندما أمعن الحديث عن مجتمع المدينة المنورة، لافتاً إلى أنّ ذلك المجتمع كان مجتمعاً متعدداً من عِدة نواحٍ. فقد ضمّ ذلك المجتمع عدداً من العشائر والقبائل، وقتما اتخذ الرسول، عليه السلام، المدينة مقراً لإقامته هناك.

لا تزال المجتمعات المختلفة التي تعيش في السودان الآن تتباين في المضامين الثقافية والاجتماعية والعادات والتقاليد

فبجانب القبائل التي كانت تُقيم آنذاك في المدينة؛ الأوس والخزرج وقبائل اليهود؛ احتضنت المدينة المنورة المهاجرين من المسلمين الذين كانوا من مختلف العشائر، وهنا كانت لفتة شحرور في أنّ نبي الإسلام تمكّن من خلق مجتمع مدني متعدد؛ مُشيراً إلى أنّ التعدد هو أمر مطلوب في أي مجتمع مدني في وقتنا الحالي؛ خصوصاً أنّ الرسول، عليه السلام، قبل 1400 عام تمكّن من تحقيق هذا الأمر في زمن البِعثة؛ مُشيراً إلى البُعد العقدي في أنّ إمكانية التعايش بين الأطياف المتعددة هو شكل من أشكال وحدانية الله تعالى، حسبما كان حديثه في تلك الحلقة في قناة فرانس 24.

اقرأ أيضاً: أصول التعددية الدينية عند عبد الكريم سروش
ما سبق من سطور، كان مدخلاً لقضية المجتمعات المتعددة داخل حيز جُغرافي محدد؛ وهي القضية التي قد تمر بمنعرجات عِده وحرجة وكثيراً ما تكون مكلفة؛ فالتاريخ يذكر مشواراً طويلاً لعدد من أبرز الدول التي تحتضن جغرافيتها مجتمعات متعددة الأعراق والثقافات والتقاليد الاجتماعية والأديان في الوقت الحالي؛ مرّت بالكثير والكثير من مسارات الصراعات التي اكتوت بها خلال قرونٍ سابقة.
فالولايات المتحدة الأمريكية هي النموذج الأبرز؛ باعتبارها الدولة التي لم تتخطَ الـ500 عام لتصل إلى شكلها الحالي؛ محتضنة في حيّزها الجغرافي عدّة مجتمعات من مختلف دول العالم، جاء معظمهم لهذه البقعة لظروفٍ قاهرة، مرّت بعدة حروب طاحنة؛ أبرزها الحروب الأهلية التي كانت بين الشمال والجنوب في القرن التاسع عشر الميلادي، إضافةً إلى ثورات الأفارقة التي تصدرتها حراكات مارتن لوثر كينغ ومالكوم إكس في قضايا الحقوق ونبذ العنصرية.

يأخذ مسار التغيير نحو ذوبان الأطياف المختلفة وقتاً طويلاً من الزمن قد يصل إلى 100 عام من التغيير على كافة المستويات

والمتابع لحال هذه الدول المتقدمة يوقِن بأنّ التعدد لا يمكنه أن يكون نِقمة على المجتمعات المختلفة التي تعيش في داخل نطاق جغرافي محدد، إلا أنه قد يُعيد طرح السؤال عند مُتابعته للشأن السوداني الذي يعكس المشهد الساخن في الوقت الحالي.
فقضية الشأن السوداني قضية معقدة، تحوي بداخلها العديد من القضايا الثقافية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية. إلّا أن قضية التعدد تظل هي القضية المؤرقة التي لا بد للباحث في مختلف علوم الاجتماع، من الغوص فيها ودراستها عن كثب.
فالمجتمعات المختلفة التي تعيش في البقعة السودانية الحالية؛ لا تزال تتباين بشكلٍ واضح في مختلف المضامين الثقافية والاجتماعية، وفيما يُعرف بالعادات والتقاليد والعُرف، رغم طول الفترة الزمنية التاريخية التي تجاورت فيها هذه المجتمعات داخل هذه البقعة.

اقرأ أيضاً: أزمة التعددية القطبية
ولا يمكن لأحد أن ينكر أنّ التعدد كان ولا يزال أزمة مؤرِّقة بين مختلف الإثنيات؛ راح بسببها ثلث البقعة القديمة؛ باسم الدولة الحالية التي تُدعى بـ"جنوب السودان". وهي أزمة تجسّدت بدخول هاجس التقبل الاجتماعي في الساحة السياسية؛ إضافةً إلى مرورها بمنعرج الصراع العقدي الذي تم افتعاله قبل 3 عقود.
إن الحراك الذي يحدث في الوقت الحالي؛ ظهرت به بوادر الإحساس بالتوحد بين مختلف الأطياف تجاه هدف واحد؛ يسير بمعيته ثورة على العديد من المفاهيم التقليدية لكسر الحواجز الفاصلة بين مختلف الإثنيات، والتي بدأت بالظهور في الأعوام الأخيرة في جيل الشباب الحالي القائد للحراكات الحالية في الشارع السوداني.

يظهر المشهد السوداني أن تعدد المجتمعات داخل بقعته الجغرافية كان نقمة عليه حتى أصبح البعض يتوقع انفصال الدولة السودانية إلى دويلات صغيرة

يأخذ مسار التغيير نحو ذوبان الأطياف المختلفة وقتاً طويلاً من الزمن؛ قد يصل إلى 100 عام من التغيير على كافة المستويات؛ يتصدره التغيير على المستوى الاقتصادي الذي سيتحكم بدوره في تطوير التعليم والقدرات البشرية عبر العديد من الآليات، إضافةً إلى التغيير على مستوى السكان الذي من الممكن أن يساهم في التعايش بين مختلف الأطياف؛ الأمر الذي بدأت تظهر ملامحه في بعض المدن السودانية داخل الجامعات وبعض المؤسسات التعليمية وبعض الأحياء.
حتى الآن؛ يقول المشهد السوداني إنّ تعدد المجتمعات داخل بقعته الجغرافية كان نقمة عليه؛ إلى الدرجة الذي جعل البعض يتكهن باحتمال انفصال الدولة السودانية إلى عدة دويلات صغيرة في وقتٍ سابق.
لكن الباحث في مختلف المجتمعات وفي حال المشهد السوداني عبر التاريخ؛ خصوصاً في الحقبة الأخيرة منذ الاستقلال وإلى الآن، لا يمكن أن يجزم بحتمية حدوث النقمة بقدر ما يمكن أن يسير السودان نحو دولة غنية بمجتمعها المتعدد.

اقرأ أيضاً: لماذا رفضت إندونيسيا فكرة الدولة الإسلامية وكيف صارت نموذجاً للتسامح والتعددية؟
فما تحمله مختلف الإثنيات من ثقافات؛ تحوي بداخلها جوانبها الجوهرية المُشرقة؛ تمنح السودان شكلاً مميزاً في القارة السمراء؛ لكونها تتوسط بين البقاع العربية والإفريقية، وهو التميز الذي يظهر عادةً في الفن كأبرز تجليات حال الفرد على وجه البسيطة.
فإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية قد تسيدت بامتياز بفضل احتواء التعدد من قِبل العامة وهي تُعتبر أقل عمراً مُقارنة بالسودان، فإن الأخيرة قد تتسيد هي الأخرى بفضل احتواء عامّتها للتعدد على كافة المستويات؛ الأمر الذي يثور لأجله الشباب السوداني الحالي.


آخر الأخبار

الصفحة الرئيسية